بين الاستماع والاستمتاع

تصميم صورة مقال للكاتب إبراهيم صموئيل في صفحة الثقافة، وهذا الاقتباس: يفضل معظم الناس الاستماع إلى الشعر بصوت الشاعر، إذ يُطلب منه في المجالس قراءة بعض قصائده، في حين لا يحدث هذا مع المفكرين والباحثين

إبراهيم صموئيل*

يبدو أن حشد أكبر عدد من الحضور مع أكبر عدد من الأدباء والكتاب المحاضرين في الصالة هو الهم الرئيس والشغل الشاغل لمديري المنتديات والمراكز الثقافية دون النظر أو التمييز بين أنواع من النصوص لها أن تتلى على المسامع فتمتعها، وبين أخرى تثقل تلاوتها المسامع وتنفرها.

فسوى الشعر تحديدا -وربما قصة قصيرة في حدود صفحتين أو يزيد قليلا- لا معنى لقراءة نص على أسماع الحضور، بل لا ضرورة لذلك، ولا مبرر سوى العادة المتحكمة بالحياة الثقافية من دون أي محاولة لإعادة النظر، أو للتفكير في الجدوى، أو لدراسة النتائج وتقويمها!

فمبرر قراءة كاتب لجمهور حاضر إمتاعه فحسب، وعدا تحقيق المتعة للسامعين ما من لزوم أبدا، لأن الفائدة من دراسة تحليلية، أو من مقال نقدي في شأن ثقافي، أو من وقفة مع ظاهرة اجتماعية، أو من ورقة معلومات اقتصادية وما شاكل كل هذه الشؤون والموضوعات يمكن للمتلقي -بل الأفضل له- الاطلاع المباشر على تلك النصوص مطبوعة في أوراق، أو كتاب، أو دورية، أو على شبكة الإنترنت.

بين الشعر والنثر
أليس لهذا يفضل معظم الناس الاستماع إلى الشعر بصوت الشاعر، وعلى طريقته، حتى إذا ما ضمت جلسة شاعرا غالبا ما يسارع أصدقاؤه إلى الطلب منه كي يقرأ عليهم بضع قصائد، في حين لا يحدث هذا -بالطبع- في لقاء يضم مفكرا أو دارسا أدبيا أو باحثا اجتماعيا؟

يقوم مركز ثقافي أو ملتقى بجمع عدد من النقاد والباحثين ليقوموا وفي جلسات متتالية بقراءة أبحاثهم ودراساتهم على حضور يتململ بشكل صريح، فيغادر بعضه القاعة، ويتأفف بعضه الآخر

وحين يطالع أحدنا دراسة قيّمة في شأن جمالي أو فكري أو أدبي فإنه نادرا ما يفكر بقراءة نص الدراسة على جلاسه، إذ يعلم أنهم سيسارعون إلى طلب نسخة منها بغية قراءتها بأنفسهم على انفراد، وكل على طريقته.

خلاف ذلك هو ما تكرر -ولا يزال يتكرر مع الأسف- من دون إعادة النظر في كيفيته وجدواه، إذ يقوم مركز ثقافي أو ملتقى بجمع عدد من النقاد والباحثين، ليقوموا بدورهم وفي جلسات متتالية -صباحا ومساء- بقراءة أبحاثهم ودراساتهم على حضور يتململ بشكل صريح، فيغادر بعضه القاعة، ويتأفف بعضه الآخر، ويتشاغل البعض بالهاتف المحمول، أو ترى أحدهم يغفو إلى أن يلكزه الجالس قربه كي لا يظهر غافيا على شاشات التلفزة!

ما يزيد "الطين بلة" كما يقال أن الجهة الداعية نفسها تقوم بتصوير نسخ من الأبحاث المشاركة، وتوزيعها على الحضور بعيد القراءة مباشرة، أو قبيل اعتلاء الباحث المنصة، مما يبطل ويقضي عمليا على أي ضرورة أو فائدة ترجى لتلاوة النص على مسامع الحاضرين!

والآن: إذا كنت سأقرأ بتأن وتعمق وعلى طريقتي الخاصة بحثا أو دراسة أو مادة نقدية (هي موضوعة أساسا للاطلاع الفردي المباشر) فما الفائدة أو المغزى من الاستماع إلى نصها من كاتبها، والذهن بعامة -مهما كان نبيها ومتنبها- لا يفيد من الاستماع بقدر ما يدرك ويتفهم من الاطلاع بالقراءة؟!

من مفارقات هذه العادة -ثقيلة الدم فعلا- أن الأبحاث غالبا ما تكون أطول من الوقت المخصص لها، فترى الباحث يسرع في قراءته، حتى إذا ما غلبه الوقت المخصص -وغالبا ما يغلبه- شرع رئيس الجلسة بتوجيه النظرات إليه وإطلاق النحنحات فلا يكون من الباحث القارئ إلا أن يضاعف سرعته، وحين لا ينتهي البحث والوقت قد ضاق جدا, يضطر رئيس الجلسة إلى دفع قصاصة تنبيه إليه كإنذار أخير، الأمر الذي يدفع بالباحث إلى تقليب الصفحات ارتجاليا واجتزاء ما أمكن فيرتبك بوضوح، ويربك سامعيه، و"يلخبط" تسلسل البحث إلى أن ينتهي بالقول وهو يداري اضطرابه "في كل الأحوال البحث بين أيديكم يمكنكم الرجوع إليه"!

ضريبة الحضور
أهي عقوبة للحاضرين لكونهم حضروا, وضريبة دخل مفروضة على كل باحث مقابل دعوته ومشاركته في الملتقى؟!

إذا لم يكن الأمر كذلك فلا بد من إعادة النظر في الاعتياد الرديء هذا, والإقلاع عنه مرة واحدة وأخيرة.

ما زلت أذكر باستمتاع محاضرة ألقاها المفكر المعروف فؤاد زكريا قبل سنوات في دمشق، حيث لم يتل أي سطر بل توجه إلى الحضور وشرع في عرض موضوعه فاتحا باب التساؤلات والحوار الحي

ثمة حلول كثيرة لمشاركة أصحاب كتابات كهذه أكبر نفعا وإمتاعا للحضور، وأكثر راحة للباحث أو الناقد، وأفضل للملتقيات بعامة، منها الاكتفاء بقراءة موجزة للبحث من قبل صاحبه، وتخصيص جل الوقت لإجراء حوار متعمق، حيوي، مثرٍ وممتع داخل الصالة بين المحاضر والحضور.

ما زلت أذكر -وباستمتاع بالغ- محاضرة ألقاها المفكر المعروف فؤاد زكريا قبل سنوات في دمشق، حيث لم يتل أي سطر بل توجه إلى الحضور مباشرة ثم شرع -من قصاصة ورق صغيرة- في عرض موضوعه فاتحا باب التساؤلات والحوار الحي بما بدا لنا ارتجالا (والأمر ليس كذلك بالطبع) بطلاوة بالغة, وعمق متبسط, وإحاطة بموضوعه دفعت بالحضور لطلب المزيد من الوقت, لمزيد من المتعة والفائدة والاغتناء.

تجربة كهذه تطيح بالسأم، وتغني الموضوع، وتمتع السامع من دون أن تخل بأفكار المحاضر، وتجربة كهذه تنزع عن وجوه الحضور أقنعة الإصغاء التي يتقنعون بها عادة حتى إذا ما انتهت القراءات المتتالية على مسامعهم كالكوابيس هبوا مندفعين إلى باب الخروج كما لو كانوا في ملجأ أو ورطة وأفرج عنهم!

_______________
* كاتب وقاص سوري 

المصدر : الجزيرة