رحلة المديني.. من حج البيت إلى رام الله

غلاف كتاب/ رحلة أحمد المديني : من حج البيت الى رام الله

نزار الفراوي-الرباط

صدر حديثا للأديب المغربي أحمد المديني كتاب جديد بعنوان "الرحلة إلى بلاد الله.. يليها الرحلة إلى رام الله" يكرس اهتماما جليا لدى الكاتب المتنوع الإنتاجات الإبداعية والنقدية بالرحلة كتجربة إنسانية, وتأملية جديرة بالمشاطرة ومحرضة على القول الأدبي.

وكما يحيل إلى ذلك العنوان فإن الكتاب الصادر عن دار الأمان بالرباط يجمع بين دفتيه نصين مستقلين، أحدهما عن رحلة لأداء مناسك الحج وثانيهما إلى رام الله ضيفا على معرض الكتاب, هما رحلتان يحركهما ناظمان يؤطران الحالة الوجدانية الحاملة للنصين, ناظم روحي يهيمن على أجواء السير في بقاع مثقلة بالعمق الديني والرمزي، وآخر قومي يضفي على أيام رام الله وجعا مستديما ينكؤه الوعي الحاد بفداحة الحالة الفلسطينية تحت نير الاحتلال.

 ولعل اختلاف البعدين الرمزين اللذين ينطوي عليهما كل من المكانين عبر عن نفسه في تمايز أجواء فعل الكتابة وأساليبها وزوايا نظر الكاتب وطبيعة المشاهدات والوقائع المثيرة لاهتمامه، ناهيك عن تباعد الفترتين الزمنيتين بين رحلة الحج عام ٢٠٠٩ ورحلة رام الله عام ٢٠١٤.

في كتابته عن رحلة الحج يضع المديني تجربته في ساحة تقليد راسخ في المتن الأدبي والتاريخي المغربي خصوصا، والعربي الإسلامي عموما ضمن ما تسمى سفريات الحج أو الرحلات الحجازية التي تندرج في جنس أدب الرحلات بشكل متفاوت, غير أنه يشق لنصه مجرى وأفقا متميزين من حيث المنهج والغرض، إذ يتجاوز مدار تدوين التجربة بطقوسها وانفعالاتها ليرصد أبعاد تجربة إنسانية روحية غنية بتوتراتها وكشوفاتها.

وبالفعل يبدو المديني وهو منخرط في التجربة الروحية حريصا على فتح هوامش التأمل في الالتباسات الوجودية للكائن، مطرق الإنصات لسلوك حجيج تدفقوا بالملايين لأداء المشعر ذاته، لكن بوعي وسلوك وتفاعل شديد التباين, هكذا يصبح الموسم الديني مجالا لرصد حالات بشرية تطرح بعمق سؤال الهوة القائمة أحيانا بين الطقس الديني والشعور الباطني، بين المظهر التعبدي وحقيقة التطهر الوجداني.

‪أحمد المديني‬ (الجزيرة)
‪أحمد المديني‬ (الجزيرة)

يكتب المديني توطئة لرحلة حجه التي يخوضها "رحلة بحث يبغي المخلوق أن يستقصي فيها أرجاء روحه، فيما هو يتقرب إلى أجواء خالقه بطلب الثواب ورغبة الاستغفار، ورجاء الحظوة بأحسن لقاء ومقام في يوم البعث والنشور، بحث لعمري شاق مقلق، ومتداخل المراتب والمعارج، لا يعرف المرء فيه ماذا كسبت يمينه حقا، ولا قدر ما يمكن غفرانه له من ذنوب بحمل الجبال بعد أن كف إنسانا وأصبح كتلة معاص وزلات..".

أسلوب
وفي ملحقين نقديين أرفقهما الكاتب بهذا الإصدار استخلص الناقد المغربي الراحل عبد الرحيم مودن تجاور مجموعة أساليب تصنع تنوع مداخل كتابة الرحلة الحجية المدينية: أسلوب الاعتراف الذي يكشف هاجسا إيمانيا متينا يفضي إلى تعرية مزدوجة انصبت على الذات والآخر في آن واحد، استعدادا للتجربة القدسية.

 الأسلوب النقدي من موقع إبداء ملاحظات لاذعة أحيانا على سلوكات لا يخلو منها موسم الحج, والأسلوب التعليمي الذي ينحو إلى تصحيح ما يجب تصحيحه من مواقف وأحكام سائدة, ثم الموقف الطريف سردا ووصفا من خلال روح ساخرة تتخلل الرحلة في مواقف عديدة. 

من جهته، يلاحظ الروائي والناقد شعيب حليفي أن المديني طوع شكل الرحلة بأن "جعله بنفس روائي يحكي عن الذات في حيرتها والروح في قلقها، متوسلا بالتذكر ليعطي مشاعره هوية ويتحدث من شرفته الأثيرة عن نفسه في عالم يجمع بين عالمين، وزمن يعبر أفقيا من دنيا شغوفة بالمحتمل إلى دنيا زاهدة وباحثة عن اليقين سمحت له بالتأمل والتجريب الروائي بصيغة أخرى". 

رام الله
أما عن رام الله فيقدم المديني نصه كوصف وتأمل في محطات رحلة في قلبها الإنسان، بطلها في سياق مكاني وتاريخي مشحون، سياق فلسطين التي يؤرق مصيرها العرب منذ نكبة ١٩٤٨, هو شريط سير في "شعاب رحلة قاسية على النفس بوقع الاحتلال الإسرائيلي وشحنة مشاعر تطفو فوق العين وتغلي في الجوانح".

إنها رحلة استعادة الرموز بامتياز مع ذكرى عرفات وشاعر فلسطين محمود درويش وحلم الصلاة في القدس في أغنية فيروز وتجديد رمزي لصلة المغاربة تاريخيا مع القدس التي تحتوي على حي وباب باسمهم

يصطفي الكاتب مدخلا مشهديا على عتبة فلسطين، حيث يتصاعد التوتر وتضطرم الأحشاء أمام المعبر الإسرائيلي الذي يسمم شغف الدخول إلى فلسطين "ها أنذا أصير وشيكا من المعبر المرتقب, ها أنذا قاب قوسين أو أدنى من المعبر المرتقب, ها أنذا أخيرا أمام المعبر المرتقب، المخيف والمثير، ها.. قلب يدق، وعقل منخطف وعينان تفترشان المكان، تحرثانه نظرا ولا تجرآن في آن لأن المكان هنا هو ما ينظر، يحملق فيك، يتلمس جلدك، يفرك عظمك..".

إنها رحلة استعادة الرموز بامتياز مع ذكرى عرفات وشاعر فلسطين محمود درويش وحلم الصلاة في القدس في أغنية فيروز وتجديد رمزي لصلة المغاربة تاريخيا مع القدس التي تحتوي على حي وباب باسمهم، وهي أيضا استحضار لعلاقة الكاتب بالثقافة الفلسطينية وبالأسماء التي خلدت معاناة شعبها وأحلامه.

 يقول متأملا في التراث الأدبي الفلسطيني "الأدباء الفلسطينيون جميعا تحتفي كتاباتهم جميعها -سردا وشعرا- بالمكان، بالطبيعة، بحيوية الإنسان ومعاناته المختلفة، جيلا عن جيل، فإضافة إلى التزامهم الوطني يبقى الأدب هو المجال الأكبر المتاح للحفاظ على الذاكرة وإعمار ما دمره المحتل واغتصبه، وبنزعة مأساوية، هو ملحمة الفقدان، لن تجدها إلا في آداب الشعوب التي عانت من ويلات الاحتلال والتدمير والتهجير والميز العنصري".

 النص ككل لا ينفك من أسر الغصة القومية ولا يبدد في وقت سماء حديدية ملبدة بأسر الاحتلال البغيض، لذلك بدأ المديني رحلته كما أنهاها، بنبرة المرارة المتوطنة في الحنايا أمام المعبر الذي استحق اسم "جحيم دانتي".

المصدر : الجزيرة