"دفاتر الغيم".. العزلة والروح البدائية

غلاف ديوان دفاتر الغيم للشاعر يوسف عبد العزيز

 

                                                             إبراهيم الزيدي

 

إذا كانت اللغة من أهم مقتضيات وجودنا الإنساني، فإن الشعر وثيقة هذا الوجود، التي تمنحنا فرصة الانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، فالشعر -خلافا للنشاطات التي تعمل على تقليص الكون على قدر الإنسان- يعمل على توسيع الوجدان الإنساني ليكون كونا أو كونيا، إنه أسلوب للمعرفة، يفترض تطبيقه إعمال جميع ملكات الشخص، في غرض يحتوي سائر الأغراض الأخرى.

 

"لم أكن حجرا في حديقة/ لم أكن نجمة في سماء، ولا ريشة في جناح السحاب/ كنت روحا بدائية كالدخان/ أحوم في عزلة الكائنات، وأدخل مثل الهواجس في القلب والعين، لا أرض لي/ وحضوري الغياب".

 

بهذه المنظومة اللغوية يتجه الشاعر إلى قطع التتابع الدلالي وكسر السياق، لتأخذ لغة النص على عاتقها إنتاج كائناتها، وتحديد وظائفها أيضا، فالقصيدة لا تعطي الأشياء، بل تعطي علاماتها، وبذلك يحوز النص قيمته الإيحائية، ويخرج الأسلوب من حيز المعطيات البديهية والمباشرة، ويتفرد في إنتاج دلالات خاصة، لم يتواضع عليها الناس من قبل.

 

"أحتاج قُبَّرةً، لأرفع شرفةً/ أحتاج ناياً كي أدخن بهجتي بين الكلام/ أحتاج غيماً مثقلاً بالزمهرير، ووردةً وحشيةً، تنسل من ريش الهدوء/ أحتاج ناراً للوضوء/ أحتاج مرآة تصفق لي، وغزلاناً تحج إلى سريري/ أحتاج أن تتصبب الأزهار من عنق الحرير".

 

إن ما يعنينا في هذه القراءة لمجموعة يوسف عبد العزيز "دفاتر الغيم" هو العثور على هذه المعطيات الغامضة، فالشعر لا يعطينا شيئا إلا بعد أن نتقن فقده، وما أكثر ما فقدناه؟

دلالة العناصر

هذا الخروج من الماهية الفيزيائية للأشياء، يمنح الشاعر قدرة على تعليق المعنى، وجعله مستقلا عن دلالات العناصر، لتخرج اللغة من أحاديتها إلى مطلقها، أو من الأداة إلى الغاية "فالكلام فاعلية ممتدة، تولدها نظم اللغة التي يقوم عليها" لتأخذ عبارات النص وظائفها الجديدة، وتنسل الوردة من الريش، والمرآة تصفق للشاعر.

 

هذه القيم التعبيرية المكثفة تكاد تكون سمة من سمات يوسف عبد العزيز في دفاتر الغيم." قهوتي مرة، وثيابي قليلة/ والصباح الذي يدخل الباب مرتبكا، لا يرد السلام".

 

"قهوتي مرة، وثيابي قليلة" مقدمة لموضوع مفتوح على احتمالات التأويل، والشاعر ليس بحاجة لأكثر من الجملتين التاليتين على المقدمة "والصباح الذي يدخل الباب مرتبكا، لا يرد السلام" ليأخذ الموضوع بعده الدرامي، استنادا إلى مجموعة من الوحدات الدلالية، فالقهوة تقابل الرغبة، والثياب "اللباس" تقابل الكلام بالمفهوم السوسري، أما الصباح والسلام فلكل منهما بعده الأيديولوجي، الذي لا يعني بالضرورة علاقة تماثل حتمية مع النموذج الواقعي لسياسة هذه الدولة أو تلك.

 

"منذ سبعين عاماً.. لم أنم جيداً/ كنت أفتح نافذتي كل ليلة/ وأطل على الشارع العام، حيث اللصوص واقفون لسرقة بيتي، والآن/ صار عندي ثلاث نساء، وعشرون طفلاً، كلهم يسهرون معي في انتظار اللصوص".

 

هذه القصيدة من قصائد المجموعة، تحتمل أكثر من قراءة، وأكثر من مقابلة مع الواقع، من حيث هي حكاية، قد استكملت شروط بنائها الدرامي، فالزمن والقلق والفعل والترقب والحدس، وخلف ذلك، الغاية والكيفية والمعنى والقصد، كلها قد تبلورت لإبراز الطابع الجوهري للموضوع، الذي يمكن تصنيفه كحدث محتمل" فالعلاقة العقلانية مع الواقع، تقتضي إشباعا متخيلا يكملها".

 

في دفاتر الغيم ثمة مقاربات موضوعية، لأكثر الخصائص الإنسانية حميمية، ثمة روح تنزع إلى الروحانية، وجسد ينزع إلى الجنسانية

مقاربات موضوعية

في دفاتر الغيم ثمة مقاربات موضوعية، لأكثر الخصائص الإنسانية حميمية، ثمة روح تنزع إلى الروحانية، وجسد ينزع إلى الجنسانية، ولغة يستهلك مضمونها المعياري مضمونها الإخباري.

 

"من أنا؟ سوف تبقين حائرة بين خمسين ألفاً من الأنبياء/ سوف تمضين من أول الحب، حتى حدود البكاء/ وتعودين من رحلة خاسرة، مثل كل النساء".

 

إن ما يعنينا في هذه القراءة لمجموعة يوسف عبد العزيز "دفاتر الغيم" هو العثور على هذه المعطيات الغامضة، فالشعر لا يعطينا شيئا إلا بعد أن نتقن فقده، وما أكثر ما فقدناه؟


يقول ماكس جاكوب: العالم في الإنسان، هذا هو الشاعر الحديث. فهل استطاع يوسف عبد العزيز أن يكونه؟.

المصدر : الجزيرة