تيريزا ماي وسقوط البريكست

BRUSSELS, BELGIUM - OCTOBER 19: German Chancellor Angela Merkel, Britain's Prime Minister Theresa May and French President Emmanuel Macron arrive for a round table meeting on October 19, 2017 in Brussels, Belgium. Under discussion are the Iran Nuclear Deal, Brexit and North Korea. Mrs May has offered assurances to EU nationals that her government will make it as easy as possible to remain living in the United Kingdom after Brexit. (Photo by Dan Kitwood/Getty Images)

في البداية؛ كانت لدى رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي خطة هي أن "خروج بريطانيا يعني خروج بريطانيا". فقد كانت الفكرة تتمثل في انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بسرعة كبيرة، بحيث لا يشعر المصوتون بأنهم تعرضوا للخداع في أثناء حملة الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، ومن ثم لا يعاقبون الحزب المحافظ لكذبه عليهم.

كانت الخطة هي التظاهر بأنه أيا كانت الصفقة التي يجري التفاوض بشأنها مع الاتحاد الأوروبي؛ فإنها ستكون خروجا "بشروط خاصة" أو ستكون "أفضل خروج ممكن"، بما يسمح لبريطانيا بمغادرة التكتل مع الاحتفاظ بإمكانية الدخول إلى السوق الأوروبية دون قيود.

ومن وجهة نظر حزبية سياسية بحتة؛ كانت الخطة تبدو منطقية حتى تنظيم الانتخابات المبكرة في يونيو/حزيران 2017، حينما فقدت ماي أغلبيتها البرلمانية.

من المؤكد أن ماي أحرزت انتصارا في الآونة الأخيرة، حينما واجهت بثقة أعضاء حزب المحافظين المعارضين للخروج من الاتحاد الأوروبي في مجلس العموم. ولكن لا يكاد يكون لذلك أي أهمية.

فقد ظلت الحياة السياسية البريطانية تدور حول المعضلة نفسها: كيف يمكن للبلاد تجنب التدمير المفاجئ لكثير من الصناعات البريطانية التي تعتمد على سلاسل التوريد الأوروبية عند الحاجة، دون أن تقبل أيضا "نموذج النرويج" التي تنصاع لقواعد الاتحاد الأوروبي دون أن تكون لها أي كلمة في صياغة تلك القواعد.

ومن أجل مساعدة حكومة ماي على تجنب وقوع كارثة للصناعات البريطانية؛ تفضلت المفوضية الأوروبيةبالموافقة على منح "فترة تنفيذ" قدرها 21 شهرا، تلي الخروج الرسمي لبريطانيا في 29 مارس/آذار 2019.

ظلت الحياة السياسية البريطانية تدور حول المعضلة نفسها: كيف يمكن للبلاد تجنب التدمير المفاجئ لكثير من الصناعات البريطانية التي تعتمد على سلاسل التوريد الأوروبية عند الحاجة، دون أن تقبل أيضا "نموذج النرويج" التي تنصاع لقواعد الاتحاد الأوروبي دون أن تكون لها أي كلمة في صياغة تلك القواعد

وكانت الفكرة تتمثل في أن هذه الفترة ينبغي استخدامها لتسوية معظم تفاصيل العلاقة المستقبلية، إلا أن ماي أضاعت الفرصة فعلا بمواصلة الإصرار على ما يسمى الخطوط الحمر، التي تشمل رفض اختصاص محكمة العدل الأوروبية.

ورغم أن ماي تحاول مضاعفة فوائد التجارة غير الاحتكاكية داخل السوق الأوروبية الواحدة، فإن خطوطها الحمر تجعل قبول المفوضية الأوروبية أمرا مستحيلا. ولذلك، لم تحرز مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي أي تقدم، وأصبح التوصل إلى اتفاق نهائي في الوقت المناسب بشأن "يوم الخروج البريطاني" أمرا أشبه بالمستحيل.

أضِفْ إلى ذلك أنه حتى مع تأجيل "فترة التنفيذ" "للخروج الاقتصادي" حتى 2021، لا يوجد وقت كافٍ لإعادة هيكلة الصناعة البريطانية لتتمكن من البقاء، بعد إدخال الضوابط الحدودية المعتادة التي يجري العمل بها خارج الاتحاد الأوروبي.

ومن منطلق تنبؤهم بوقوع كارثة؛ اقترح مناصرو البقاء داخل الاتحاد الأوروبي في حكومة ماي "نموذج جيرسي"، الذي بموجبه تظل الصناعة البريطانية وحدها داخل الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي، وفي السوق الواحدة وفي المنطقة المشتركة لضريبة القيمة المضافة، بينما تتقلص حرية حركة العمالة والخدمات.

لكن ليس لهذا الاقتراح أمل في النجاح بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي يصر على عدم إمكانية الفصل بين "الحريات الأربع" (حرية حركة البضائع، ورأس المال، والخدمات، والعمالة).

كما أنه لا يمكن حل المسألة الشائكة المتعلقة بالحدود الإيرلندية في إطار الخطوط الحمر التي وضعتها ماي. ففي ديسمبر/كانون الأول (الماضي)؛ وافقت ماي على عدم وضع أي حدود مادية أو اقتصادية بين إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، التي ستظل دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي.

لكن ماي وافقت أيضا للبروتستانتيين من سكان ألستر على عدم وضع حدود بين إيرلندا الشمالية والبرّ الرئيسي لبريطانيا. ولا يمكن التوفيق بين هذين الوعدين، نظرا لأنه سيلزم وجود حدود مشددة على القنال الإنجليزي.

والسبيل الوحيد إذن أمام ماي هو أن تتجنب وجود حدود مشددة مع أوروبا القارية، بقبول الحريات الأربع التي تتطلب أيضا قبول اختصاص محكمة العدل الأوروبية.

وسواء أأدركت المفوضية الأوروبية أو حكومة ماي ذلك أم لا، فإن التعارض بين هدفيهما تعارض تام. فالبريطانيون يريدون أن يتخلى الاتحاد الأوروبي عن المبادئ التي تأسس عليها في مقابل 40 مليار يورو (46 مليار دولار) وعدم وجود حدود مشددة مع إيرلندا.

ولكن نظرا لأن بريطانيا قد ألزمت نفسها بتلك الامتيازات، فليس لدى الاتحاد الأوروبي أي سبب ليستمع إلى التماسها الخاص. ولو نقضت حكومة ماي التعهدات التي قطعتها في ديسمبر/كانون الأول، فستواجه "خروجا من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة". وستخرج بريطانيا من الاتحاد وسيصيب الدمار كثيرا من قطاعات اقتصادها.

ولا تزال توجد ثلاث نتائج محتملة؛ منها نتيجتان بسيطتان ونتيجة واحدة معقدة. فيتمثل السيناريو الأول في أن تتنازل بريطانيا عن "خطوطها الحمر" وأن تتبنى "نموذجا مماثلا لنموذج النرويج". وفي تلك الحالة، لن تظل فقط داخل السوق الواحدة بل ستظل أيضا داخل الاتحاد الجمركي.

المخرج الوحيد إذن هو من خلال كارثة سياسية، وقد تحدث تلك الكارثة داخل أوروبا نتيجة لصراعات بين الدول الأعضاء الكبرى أو لمحاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقويض الاتحاد الأوروبي. لكن تلك الكارثة الأوروبية لن تأتي في موعد مناسب بالنسبة لماي ليضمن لبريطانيا ككل "نموذجا على غرار نموذج جيرسي"

أما في السيناريو الثاني؛ فستقبل بريطانيا حدودا اقتصادية في البحر الإيرلندي وتحتفظ بخطوطها الحمر للبرّ الرئيسي لبريطانيا، وذلك بإبرام اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي.

ومن المفارقات أنه يمكن لكل من المفوضية الأوروبية والمتعصبين من مؤيدي الخروج أن يتفقا على هذه النتيجة بالنسبة للبرّ الرئيسي لبريطانيا، ويُستثنى من ذلك أن مؤيدي الخروج المتعصبين يرفضون قبول وجود حدود بين البرّ الرئيسي لبريطانيا وإيرلندا الشمالية.

وتكمن المشكلة الأكبر في أن ماي لن توافق على أي من هذين الحلين "البسيطين" قبل الموعد النهائي الذي سيحل في الخريف. كما أن النتيجة الثانية ستؤدي إلى وقوع كارثة للصناعة البريطانية، إلا إذا تم مد الفترة الانتقالية لعدة أعوام لمنح الكيانات التجارية مهلة لإعادة هيكلة عملياتها.

المخرج الوحيد إذن هو من خلال كارثة سياسية، وقد تحدث تلك الكارثة داخل أوروبا نتيجة لصراعات بين الدول الأعضاء الكبرى أو لمحاولات الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقويض الاتحاد الأوروبي. لكن تلك الكارثة الأوروبية لن تأتي في موعد مناسب بالنسبة لماي ليضمن لبريطانيا ككل "نموذجا على غرار نموذج جيرسي".

فمن المرجح بشدة أن تشهد بريطانيا نفسها -قبل ذلك الحين- كارثة بسبب زيادة وعي عامة الناس بما يلوح في الأفق من تكلفة اقتصادية واجتماعية باهظة، في حالة الخروج من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة.

وما إن تندلع تلك الأزمة وتبدأ الخطوط الحمر لبريطانيا في التبدد، حتى يكون ممكنا أن يلي ذلك عدد من النتائج المحتملة. حيث يمكن مد الفترة الانتقالية إلى 2025 مثلا ليتبعها إبرام اتفاقية تجارة حرة ووضع حدود اقتصادية في البحر الإيرلندي.

كما يمكن تأجيل خروج بريطانيا نفسه عددا من السنوات، ويكون في هذه الحالة الوصول إلى نموذج "مماثل لنموذج النرويج" هو الهدف النهائي. ومن جهة أخرى، قد يؤدي أي من هذين السيناريوهين إلى إجراء استفتاء ثانٍ وإلغاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالكلية.

ومن الواضح -على أي حال- أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي -وفقا لرؤية الجانب البريطاني له حاليا- أمر مستحيل؛ وإذا حدث فإنه لن يشبه أي شيء عرضته ماي حتى الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.