عندما تتقدم السياسة على الاقتصاد

U.S. President Donald Trump, flanked by U.S. Representative Darrell Issa (R-CA) (L), Treasury Secretary Steven Mnuchin (3rd R), U.S. Trade Representative Robert Lighthizer (2nd R) and Commerce Secretary Wilbur Ross (R), finishes signing a memorandum directing the U.S. Trade Representative to complete a review of trade issues with China at the White House in Washington, U.S. August 14, 2017. REUTERS/Jonathan Ernst

مع مرور كل يوم؛ يصبح واضحا -على نحو متزايد- أن اهتمام إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالاقتصاد أقل كثيرا من اهتمامها بالممارسة العدوانية للسلطة السياسية. ومن الواضح أن هذا مصدر لقدر هائل من الإحباط لمن يمارسون فنون وعلوم الاقتصاد.

ولكن الآن بات الحكم بديهيا: فلا يزال ترامب وفريقه يتباهون بكل مبادئ الاقتصاد التقليدي تقريبا. وتُعَد السياسة التجارية مثالا واضحا وأساسيا هنا؛ فبإظهار عدم التقدير للارتباط الذي أثبته الزمن بين العجز التجاري واختلال توازن الادخار والاستثمار في الاقتصاد الكلي، يواصل الرئيس التركيز على حلول ثنائية لمشكلة متعددة الجوانب، فيلوم الصين -في حقيقة الأمر- على عجز أميركا التجاري السلعي مع 102 دولة.

وعلى نحو مماثل، أعرب ترامب عن رفضه التوقيع على البيان الأخير لمجموعة الدول السبع مستندا إلى ادعاء مفاده أن الولايات المتحدة تشبه "حصالة النقود التي ينهبها الجميع"، من خلال ممارسات تجارية غير عادلة.

لكن الغرض من حصالات النقود هو الادخار، وفي الربع الأول من هذا العام، كان معدل الادخار المحلي في أميركا 1.5% فقط من الدخل الوطني، وهذا ليس بالمال الكثير الذي يستحق السرقة!

ما يفعله ترامب بسياساته لا يتعلق بالاقتصاد، أو على الأقل لا يتعلق بالاقتصاد كما يعرفه أغلب الأكاديميين والقادة السياسيين والمواطنين. ولكن لماذا الاقتصاد بالذات؟ بوسعنا أن نتبين نفس الشكوى من آراء ترامب بشأن قضايا تغير المناخ والهجرة والسياسة الخارجية، بل وحتى السيطرة على الأسلحة النارية. إنها سياسة القوة عندما تُقَدَّم على صنع السياسات بطريقة تستند إلى الحقائق

ويصْدق نفس القول على السياسة المالية؛ ذلك أن التخفيضات الضريبية المدمرة للعجز والزيادات في الإنفاق الحكومي التي أقرها ترامب تتنافى مع العقل، في اقتصاد يقترب من ذروة دورة الأعمال وفي ظل معدل بطالة لا يتجاوز 3.8%. وعلاوة على ذلك؛ لا تؤدي حلقة ردود الفعل -من خلال قناة الادخار- إلا إلى تفاقم المشاكل التجارية التي يزعم ترامب أنه يحلها.

وفي ظِل توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي بأن يبلغ عجز الموازنة الفدرالية 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط من الآن وحتى عام 2023؛ سيخضع الادخار المحلي لمزيد من الضغوط، مما يزيد الطلب على فائض الادخار من الخارج، بل وحتى زيادة العجز التجاري من أجل شغل الفراغ. ومع ذلك يرفع ترامب الآن الرهان على التعريفات، وهو بهذا يعض فعليا اليد التي تطعم الاقتصاد الأميركي.

ما يفعله ترامب إذن لا يتعلق بالاقتصاد، أو على الأقل لا يتعلق بالاقتصاد كما يعرفه أغلب الأكاديميين والقادة السياسيين والمواطنين. من المؤكد أن ترامب لم يتوان عن استغلال بعض الطفرات الهامشية في الاقتصاد (مثلا تأملات آرثر لافر السيئة السمعة في حسابات جانب العرض التقريبية)، ولكن لم يتمكن أي منها من الصمود أمام اختبار الزمن والتحقق التجريبي الدقيق من الفعالية.

ولكن لماذا الاقتصاد بالذات؟ بوسعنا أن نتبين نفس الشكوى من آراء ترامب بشأن قضايا تغير المناخ والهجرة والسياسة الخارجية، بل وحتى السيطرة على الأسلحة النارية. إنها سياسة القوة عندما تُقَدَّم على صنع السياسات بطريقة تستند إلى الحقائق.

ولا ينبغي لهذا أن يدهشنا؛ فالمعركة التي يخوضها ترامب مع الصين تؤكد حرصه -الواضح منذ البداية- على استخدام الاقتصاد كذريعة، في إطار الدجل بشأن "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى". وعلى النقيض من تهديده ووعيده المتعلق بالعجز التجاري غير العادل؛ فإن التحدي الحقيقي الذي تفرضه الصين على أميركا لا يتعلق بالاقتصاد، بقدر ما يرتبط بالسباق من أجل التفوق التكنولوجي والعسكري.

والواقع أن بندول القيادة الجيوسياسية بدأ يتحرك الآن؛ ومن الواضح أن خطة البنية الأساسية الصينية الضخمة لعموم آسيا (مبادرة الحزام والطريق) تشكل -مع سلوكها العضلي في بحر الصين الجنوبي- تهديدا للهيمنة الأميركية، أعظم كثيرا من ذلك الذي يفرضه جزء ثنائي واحد من عجز تجاري أكبر متعدد الأطراف.

وفي الوقت نفسه؛ نجد أن الجهود التي تبذلها الصين في الآونة الأخيرة لبناء مؤسسات بنية مالية بديلة -بقيادة البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية وبنك التنمية الجديد التابع لمجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)- تتناقض بشكل صارخ مع الولايات المتحدة المنغلقة على الذات بشكل متزايد.

لقد كُتِب الكثير عن المسار التاريخي للقوى العظمى والصراعات العسكرية التي تنشأ غالبا أثناء صعودها وسقوطها، وهنا يعود الاقتصاد إلى الاضطلاع بدوره المعتاد في نهاية المطاف.

والواقع أن القوة الجيوستراتيجية والقوة الاقتصادية ترتبطان ارتباطا وثيقا؛ وكما أَكَّد -لفترة طويلة- المؤرخ بول كينيدي (من جامعة ييل)؛ فإن "فرط التوسع الإمبريالي" ينشأ عندما يتجاوز استعراض القوة العسكرية الأسس الاقتصادية المهتزة في أي بلد.

مرت ثلاثون عاما منذ حذر كينيدي من أن الولايات المتحدة -في ظل إنفاقها المفرط على الدفاع- أصبحت عُرضة لفرط التوسع؛ ولكن في ذلك الوقت تلاشى الورثة المحتملون لأميركا: فقد انهار الاتحاد السوفياتي، وانفجرت معجزة اليابان الاقتصادية، وكانت ألمانيامنهمكة في عملية إعادة توحيد شطريها والتكامل الأوروبي. وواصلت أميركا -غير المهددة- الطريق بخطى ثابتة.

يبدو أن إدارة ترامب تتصور أن أميركا وصلت إلى لحظة مواتية في الدورة الاقتصادية تسمح لها بممارسة لعبة القوة. غير أن إستراتيجيتها لن تنجح إلا إذا استسلمت الصين بشأن المبادئ الأساسية لإستراتيجية النمو، التي تؤطر طموحات القوة العظمى التي تراود الرئيس الصيني شي جين بينغ: الإبداع الوطني، والتفوق التكنولوجي والعسكري، والزعامة الإقليمية الشاملة

بطبيعة الحال؛ كانت الصين على شاشة الرادار بالكاد في ذلك الوقت. وعلاوة على ذلك؛ فإن صافي مدخرات الولايات المتحدة المحلية كان حينها (عام 1988) نحو 5.6% من الدخل الوطني، أي أقل قليلا من المتوسط (6.3%) خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ولكن ما يقارب أربعة أضعاف المعدل الحالي.

في ذلك الحين؛ كانت الولايات المتحدة تنفق 270 مليار دولار على الدفاع، أي أقل من نصف مبلغ 700 مليار دولار الذي أقرته الولايات المتحدة في ميزانيتها الحالية، والذي يفوق الآن الإنفاق العسكري المجمَّع للصين وروسيا والمملكة المتحدة والهند وفرنسا واليابان والمملكة العربية السعودية وألمانيا.

وفي الوقت نفسه صعدت الصين؛ ففي 1988، كان نصيب الفرد في ناتجها المحلي الإجمالي 4% فقط من المستوى الأميركي (وفقا لتعادل القوة الشرائية). وهذا العام، تقترب النسبة من 30% بزيادة تقارب ثمانية أضعاف في غضون ثلاثة عقود فقط.

تُرى هل تعوض سياسة القوة عن العوامل الأساسية المتزايدة الهشاشة في الاقتصاد الأميركي الذي يفتقر إلى الادخار، والذي يظل يمثل حصة غير متناسبة من الإنفاق العسكري العالمي؟ وهل تتمكن سياسة القوة من احتواء صعود الصين وتحييد التزامها بالتكامل الإقليمي الشامل والعولمة؟

يبدو أن إدارة ترامب تتصور أن أميركا وصلت إلى لحظة مواتية في الدورة الاقتصادية تسمح لها بممارسة لعبة القوة. غير أن إستراتيجيتها لن تنجح إلا إذا استسلمت الصين بشأن المبادئ الأساسية لإستراتيجية النمو، التي تؤطر طموحات القوة العظمى التي تراود الرئيس الصيني شي جين بينغ: الإبداع الوطني، والتفوق التكنولوجي والعسكري، والزعامة الإقليمية الشاملة.

مثله كمثل ترامب، لا يستسلم بينغ؛ ولكن -على عكس ترامب- يدرك بينغ الارتباط بين القوة الاقتصادية والقوة الجيوستراتيجية. إذ يزعم ترامب أن الفوز في الحروب التجارية أمر سهل.

وهو بهذا لا يجازف بالاستهانة بقدر خصومه فحسب، بل وربما يصبح حتى أشد عُرضة لخطر الإفراط في تقدير قوة أميركا. وربما تكون الحرب التجارية مجرد مناوشات مبكرة في معركة أشد قسوة، سيتفوق خلالها الاقتصاد على ترامب في نهاية المطاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.