تركيا بعد الانتخابات.. هل ستظل ديمقراطيتها قلقة؟

Ballots of Turkey's presidential and parliamentary elections are being counted at a polling station in Istanbul, Turkey June 24, 2018. REUTERS/Osman Orsal

العرف الديمقراطي
بوادر طيبة.. ولكن 

تفرض علينا الانتخابات الرئاسية والنيابية التركية الأخيرة -التي أُجريت في 24 يونيو/حزيران 2018- احترامَ جميع أطرافها؛ بدءا بالشعب التركي صاحب العرس الذي شارك بكثافة كبيرة وإيجابية تامة في اختيار ممثليه ورئيسه، ثم الحكومة التي لم توظِّف مواقعها في دعم مرشحيها أو التأثير على مجرى العملية الانتخابية، بأي صورة من الصور.

ثم المعارضة بأطيافها التي خاضت المنافسة بجسارة عالية وتقبلت الهزيمة بأريحية، واعترفت سريعا بخسارتها للسباق الساخن؛ واللجان والمؤسسات الإعلامية التي تنافست بقوة وندية في حملات الدعاية والتسويق الانتخابي ذات الأداء الرفيع؛ وأخيرا الأجهزة الأمنية واللجان التنظيمية التي أدارت العملية الانتخابية باحتراف واقتدار عالٍ.

العرف الديمقراطي
إلا أن المراقب يكتشف بسهولة أن المشهد الديمقراطي التركي يُخفي عيوبا في بنيته الداخلية، تحتاج من الجماعة الوطنية التركية في عمومها أن تسعى إلى الخلاص منها؛ حتى تقدم لبلادها وللواقع والتاريخ نموذجا حقيقيا ومتكاملا للديمقراطية، التي يتساوى أطرافها وفرصهم في الفوز مهما تبادلوا مواقعهم بين كراسي الحكم ومقاعد المعارضة، في منافسة شريفة على بناء الدولة المستقلة والقوية.

الديمقراطية أسلوب في اختيار حكام الدول ونواب الشعب، وتنظيم العلاقة بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ وليست وسيلة مؤقتة للوصول إلى الحكم والسيطرة على الدولة، ثم تودَع في معبد السياسة لتُقدّم لها قرابين الاستبداد.

وقد اتُّهم الإسلاميون كثيرا -وفي أغلب الدول التي نشطوا فيها سياسيا- بأنهم لا يحترمون الديمقراطية إلا بقدر ما تأتي بهم إلى كراسي الحكم، وأنهم سيكونون أول كافر بها فيما بعد. ولم يقدم لنا الواقع مثالا واحدا يصدق هذه الدعوى، في حين مورس ضدهم كثير من صور الإقصاء وحيل التزوير التي حالت بينهم وبين حقهم وحق الجماهير في اختيار ممثليهم، وتمسك المعسكر المقابل بالسلطة ولم يتنازل عنها في معظم بلادنا إلا مضطرا!

المراقب يكتشف بسهولة أن المشهد الديمقراطي التركي يُخفي عيوبا في بنيته الداخلية، تحتاج من الجماعة الوطنية التركية في عمومها أن تسعى إلى الخلاص منها؛ حتى تقدم لبلادها وللواقع والتاريخ نموذجا حقيقيا ومتكاملا للديمقراطية، التي يتساوى أطرافها وفرصهم في الفوز مهما تبادلوا مواقعهم بين كراسي الحكم ومقاعد المعارضة، في منافسة شريفة على بناء الدولة المستقلة والقوية

والحقيقة أن التمسك بالديمقراطية ليس عبادة للأشكال؛ فحتى هذه الآلية الجيدة في تداول السلطة يمكن الانحراف بها، وهو أمر ليس وليد عصرنا ولا وليد عصر قريب منا.

فقد تنبه الفيلسوف اليوناني الشهير أفلاطون -في القرن الرابع قبل الميلاد- إلى أن شكل الحكم مهما يكن فإنه عرضة للتلاعب والانحراف به حين تقوم عليه ضمائر وعقول خربة، وأن شكل الحكم قد يكون أقل عدالة والتزاما بالشورى إلا أنه أنفع من أشكال أخرى، بسبب القائمين عليه واهتمامهم بمصالح الناس وإنفاذ القانون.

ويمكن تطبيق هذا على القائد الفرنسي الشهير نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر الذي كان دكتاتورا بمعنى الكلمة، إلا أنه قاد بلاده -في فترة فوضى عارمة أعقبت الثورة الفرنسية الشهيرة- حتى حقق لها الاستقرار، وقد أثنت عليه إحدى الصحف حينها قائلة: إن البلاد كانت بحاجة إلى دكتاتور من هذه النوعية التي تمنع الفوضى وتشغل الناس بمشروعات وطنية بنّاءة.

إلا أن الديمقراطية هي أقرب آليات اختيار الحاكم حيادا وتأسيسا لوضع سياسي مستقر، فالعرف الديمقراطي قائم على حقوق متساوية ومتبادلة بين طرفين أو أطراف متعددة، تتنافس سياسيا على قبول الناخبين الحر لهم ولبرامجهم في الحكم والقيادة، وعلى ضمان الطرف الحاكم لاستمرار عملية التداول على السلطة بينه وبين منافسيه.

ومن حق تركيا على سياسييها في المرحلة الحالية (حكاما ومعارضة) أن يراعوا هذا العرف الديمقراطي تماما؛ خاصة أن حكم الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب وحزب العدالة والتنمية أثبت أن الضغط الخارجي تُمكن مقاومته، وأن تدخل أي دولة في شؤون تركيا هو من المحرمات التي يجب التأكيد عليها ومنعها، مهما يكن مستوى التعاون والتبادل الاقتصادي والتحالف العسكري مع هذه الدولة.

بوادر طيبة.. ولكن
أثناء المحاولة الانقلابية الفاشلة لبعض ضباط الجيش التركي في 15 يوليو/تموز 2016؛ حسمت المعارضة موقفها منها بسرعة، فرفضت الانقلاب وساندت الشرعية، وعبّر موقفُها عن وحدة مع حكومة العدالة والتنمية في وجهات النظر تجاه ما يهدد الديمقراطية في تركيا.

وهذه نقطة انطلاق ممتازة نحو تأسيس وضع ديمقراطي جيد في تركيا، يخلو من دواعي القلق وأسباب الخوف من أن يُضطهَد هذا الفريق أو ذاك، في حال انتقال السلطة إلى غريمه.

وتأكد هذا الموقف بصورة أخرى حين سارع منافسو الرئيس أردوغان إلى الاعتراف بالهزيمة في الانتخابات الأخيرة، وفي مقدمتهم محرم إنجه مرشح حزب الشعب الجمهوري وصاحب ثاني أعلى نسبة في أصوات الناخبين من بين مرشحي الرئاسة.

وقد قطع ذلك الاعترافُ الطريقَ على أي انتقادات من جهات وحكومات أجنبية مغرضة، كانت أعدت العدة لاتهام الحكومة التركية بتزوير الانتخابات في حال فوز أردوغان وحزبه، مما قُصد به أن يصنع حالة من البلبلة وعدم اليقين تضر بالوضع السياسي والاقتصادي لتركيا.

وقد تُفهَم مسارعة المعارضة إلى الاعتراف بهزيمتها على أنها تبرئة للذمة من أي اتهام بالتواطؤ مع جهات خارجية، إن حدث أي تشكيك منها في نتائج الانتخابات؛ إلا أن الحكمة والواقعية في هذا التصرف كانت حاضرة على كل حال، وينبغي أن تمتد بحيث تكون سلوكا حقيقيا وأصيلا في جميع أطراف الديمقراطية التركية.

وليس المقصود من هذا أن تتماهى المعارضة مع الحكومة بحيث تفقد شخصيتها أو تغير أيديولوجيتها، فهذا شيء لا يستطيع أحد أن يفرضه عليها، كما لا يراد من المعارضة أن تخفف لهجتها النقدية تجاه السياسات الحكومية، فهذا أسلوب معتاد في التجارب الديمقراطية على أية حال.

فيما يتعلق بحماية الديمقراطية التركية وتوفير عناصر الاستمرار لها؛ ينبغي التأكيد على الواجب الحكومي، وأوله ضمان الحرية للجميع كما هو نهج العدالة والتنمية باعتباره مبدأ ثابتا، وليس باعتباره شماعة لإتاحة الحرية لفصيل بعينه كان مضطهدا قبل ذلك، وإتاحة مساحة أمام المعارضة للمشاركة بالرأي في بعض أمور الحكم

لكن ينبغي أن تتآزر أصوات المعارضة وأصوات الحكومة في تعزيز استقلال القرار التركي وحمايته من أي تدخل خارجي؛ ولا يكفي أن تنتقد الحكومةُ التركية عنصريةَ بعض الأطراف الأوروبية ضد تركيا والأتراك، ولا تدخُّلَ بعض الدول في الشأن التركي، ولا البراءةَ من عهود الدكتاتورية والفساد السابقة، ولا انتقادَ المساعي الأجنبية في تحطيم الاقتصاد التركي؛ بل يجب أن تتخذ المعارضة الوطنية الموقف نفسه.

وماذا على الحكومة؟ قد لا يكون من حقنا -نحن المنتسبين إلى بلاد فاشلة ديمقراطيا- أن نوجه نصائح إلى الناجحين في هذا المضمار، إلا أن الناظر إلى أي تجربة اجتماعية أو سياسية من خارجها قد يبصر منها ما لا يبصره أصحابها الغارقون إلى رقابهم في التفاصيل اليومية، وهذا هو حالنا نحن أكثر العرب وحال تركيا.

وفيما يتعلق بحماية الديمقراطية التركية وتوفير عناصر الاستمرار لها؛ ينبغي التأكيد على الواجب الحكومي، وأوله ضمان الحرية للجميع كما هو نهج العدالة والتنمية باعتباره مبدأ ثابتا، وليس باعتباره شماعة لإتاحة الحرية لفصيل بعينه كان مضطهدا قبل ذلك، وإتاحة مساحة أمام المعارضة للمشاركة بالرأي في بعض أمور الحكم.

كما ينبغي الابتعاد عن تبادل الهجاء الشديد مع زعامات المعارضة قدر الإمكان، والسعي إلى إذابة الثلج بين الحكومة والمعارضة بالمشاركة معا في المناسبات الوطنية والاجتماعية.

إن التأكيد على البعد الوطني والتحرر من أي تبعية للخارج، ومقاومة تأثير الأطراف الإقليمية والدولية في الضغط على تركيا بحيث تلزم نهجا معينا يُفرَض عليها في سياستها الخارجية، مع فتح مجال التعاون التركي مع أي طرف خارجي يحترم هذا الموقف؛ لهي هموم مشتركة بين الحكومة والمعارضة التي إن لم تكن جزءا من الحكم فهي جزء من الوطن.

لقد اعتبر المفكر المصري الدكتور رفيق حبيب العلمانيين العرب أقلية ثقافية في بلادنا؛ لأنهم لا يمثلون تاريخنا ولا يحملون طموحاتنا. وقد دفعت كراهية أكثرهم للإسلاميين -بعد ثورات الربيع العربي- إلى تفضيل الدكتاتورية العسكرية والفساد على حكم الإسلاميين؛ وهو أمر برئت منه العلمانية التركية في عهد العدالة والتنمية، ويجب أن تبرأ منه دائما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.