المشروع النهضوي.. مجدَّداً

الحشود ترفع أعلام فلسطيني ودول الربيع العربي بمهرجان " الأقصى في خطر" التاسع عشر الذي أقيم بأم الفحم بالداخل الفلسطيني بـ 12 من شهر سبتمبر‎-أيلول.

لزمن طويل ظلت هزيمة 1967 بؤرة تستقطب الوعي العربي؛ ولذلك نحتاج أحيانا إلى صدمة لنخرج من رومانسيتنا، ولنطرح الأسئلة التي نخافها.

لقد أفضت وعود ما قبل الهزيمة إلى كارثة، ولكن العقل التبريري بارع في إنتاج أيديولوجيا مهزومة، تتحول بها الهزيمة من واقعة إلى حالة. ورغم ذلك فقد استفزت الهزيمة عقلا آخر استعاد السؤال النهضوي، ولم يقدر على إيقاف حراكه الانقلاب على المفاعيل الإيجابية لانتصار حرب رمضان1973.

لقد أفضت وعود ما قبل هزيمة 1967 إلى كارثة، ولكن العقل التبريري بارع في إنتاج أيديولوجيا مهزومة، تتحول بها الهزيمة من واقعة إلى حالة. ورغم ذلك فقد استفزت الهزيمة عقلا آخر استعاد السؤال النهضوي، ولم يقدر على إيقاف حراكه الانقلاب على المفاعيل الإيجابية لانتصار حرب رمضان 1973

وقد واتتنا، كعرب -طيلة الأربعين سنة الماضية- فرص كثيرة للنقد الذاتي والبناء، من "البيريسترويكا" وانهيار المنظومة الاشتراكية، إلى الاجتياح العراقي للكويت، وأحداث سبتمبر، وسقوط بغداد. لكننا ضيعنا تلك الفرص، ولم نتعامل معها بالعمق المطلوب.

1- لماذا نحن فقط؟
الآن نراقب كل العالم وهو يمور من حولنا، وتتجدد الخرائط فـ"كأنما هو خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث". ونرى منطقتنا تتحول إلى قطعة قماش تلعب بها مقصات الفاعلين، وقد نتحدث غدا عن عالم التجزئة -الذي نكرهه- بكثير من الحنين.

نستلذ موقع الضحايا، ونتساءل: لماذا نحن فقط؟ ولفهم ما يحدث يجب أن نعود قليلا إلى الوراء؛ فمنذ قرنين كانت كل معاركنا من أجل تقليص الفجوة التي تفصلنا عن العصر. الاستقلاليات نفسها ما كانت مكاسب إلا بمعنى العودة إلى الوضع الطبيعي.

وسرعان ما تم احتواء نتائج حرب رمضان لتعميق الفجوة. والمحاولات القليلة الجادة للبناء القومي دُمرت لإغفالها معطى الديمقراطية، فوفرت للمنافسين فرصة "إعادتنا إلى العصر الحجري". ومن داخل هذه اللوحة ندرك الدلالات الحضارية الكبرى لما حدث سنة 2011.

فالنيران الملتهبة في جسد بائع الخضار التونسي (محمد البوعزيزي) وجدت بسرعة ارتداداتها في كامل المنطقة، أمام بهتة الفاعلين وذهول مراكز الاستشراف؛ فإذا التاريخ -الذي اكتشفنا أنه أوسع من معادلة رياضية- يعيد إلى الساحة شيئا اسمه "الشعب"، بعد أن بشرت الحساباتُ والأجهزةُ والنخبُ بموته لتهمّشه وتأخذ مكانه.

هذه الثورات كانت تعبيرا عن أشواق دفينة للحرية، والديمقراطية، والكرامة، والتنمية، والعدالة، والاستقلال، والوحدة، أكثرَ منها تعبيرا عن برنامج. فلم يترك الاستبداد إمكانية لولادة فضاء عام أو أحزاب سياسية، وما وُجد منها كان أقرب إلى حركات مقاومة احتجاجية منه إلى معارضة تتجه إلى المستقبل.

كثيرة هي الثورات غير المكتملة التي حصلت خلال الثلاثين سنة الأخيرة ونجحت، لأنها وجدت طريقها إلى معالجة الدوافع الأساسية التي أدت إلى قيامها، من خلال تقديم إجابات خصوصية لمعضلات الإقصاء السياسي، والظلم الاجتماعي، ونمط الحوكمة، ومعالجة أعطاب الماضي.

نوعية الرهانات على منطقتنا متأثرة بثلاثة عوامل أساسية: الملف الفلسطيني، وملف التاريخ، وملف الثقافة، وفي العمق منه موقع ودور الإسلام لا باعتباره شعائر وطقوسا فتلك لا تزعج أحدا، وإنما باعتباره خزانا ثقافيا وقيميا يمكن أن يكون قاعدة لمشروع نهضوي، تحمله كتلة ذات ثقل سياسي واجتماعي

النجاحات كانت نتاج المعادلات الوطنية، ونتاج وجود حواضن في المحيط سمحت باستيعاب التجارب في فضاءات أوسع. وما حدث في منطقتنا لم يجد هذا الاحتضان لأن موقع منطقتنا في الخريطة الدولية له خصوصية.

فلئن كان رهان السياسة هو المصالح عادة فإنه قد تحضر معه رهانات أخرى تاريخية وثقافية وإستراتيجية. ونوعية الرهانات على منطقتنا متأثرة بثلاثة عوامل أساسية: الملف الفلسطيني، وملف التاريخ، وملف الثقافة، وفي العمق منه موقع ودور الإسلام لا باعتباره شعائر وطقوسا فتلك لا تزعج أحدا، وإنما باعتباره خزانا ثقافيا وقيميا يمكن أن يكون قاعدة لمشروع نهضوي، تحمله كتلة ذات ثقل سياسي واجتماعي.

وهكذا نُظر إلى الربيع العربي كتمرد على أوضاع مستقرة، أخطر من معركة الاستقلالات الأولى، بما أنه إعلان عن تحرير الشعب الذي صرخ أنَه "يريد". ومن وجهة النظر هذه فنحن أمام تقويم جديد؛ فالربيع العربي عند البعض فرصة وثغرة في جدار مسدود يجب أن تتوسع لتصبح ثورة حقيقية. وهو عند البعض الآخر الخطأ الذي يجب ألا يتكرر.

هذا الآخر ارتبك سنتيْ 2011 و2012، فحاول الفهم والترويض واختبار وصفة "الاستقرار عبر الديمقراطية"، ثم دخل مرحلة الردع والتعامل بوصفات متناسبة مع كل حالة، والعودة عموما إلى خيار "الاستقرار المعسكر" أو الفوضى، بديلا عن "ديمقراطية الأعداء"، حتى يُقلع العرب نهائيا عن خطيئة الحلم.

لم يكن كلاوزفيتز أكثر من ناقل لخلاصة التجربة الإنسانية حينما اعتبر أن السياسة هي حرب ناعمة. ونتذكر أنه خلال الصراع المحموم -في فرنسا النصف الثاني من القرن التاسع عشر- بين العلماني المتشدد "غامبيتا" والكاردينال الصليبي "لافيجري"، كان المتفق عليه هو أن يكون الصراع الداخلي دون سقف، وأن تكون الحرية سلعة للاستهلاك الداخلي فقط، ويجب عدم التساهل بحال  في تصديرها إلى المستعمرات.

2- نكون أو لا نكون؟
إذن منطقتنا أمام سؤال الوجود: نكون أو لا نكون؟ فهل نحن ضحايا؟ لا نقصد ذلك، وفي السياسة لا ضحية إلا من ارتضى هذا المقام. ولكن فيها أيضا أن القوي يلجأ عادة إلى عرقلة منافسيه. هكذا هي الأمور، بقطع النظر عن موضوع الأخلاق.

فما على العرب إلا أن يروا العالم كما هو، وأن يضعوا أنفسهم أمام المرآة لطرح الأسئلة التي تزعج، لتحديد نصيبهم من المسؤولية، كما يفعل الراشدون. فما لا تطرحه اختيارا، ستُفرض عليك إجابته اضطرارا.

وأولى خطوات التقدم هي الوعي بالتخلف، ثم صياغة مشروع ثقافي يعيد بناء عوالم التصورات والأخلاق والقيم، بما يتيح إبرام مصالحات كبرى تعبئ كل الطاقات وتدفعها للإبداع.

كل التيارات الكبرى معنية بالمراجعات: حتى يكون اليسار اجتماعيا وليس أيديولوجيا، وحتى يدمج القوميون البعد القُطري والمطلب الديمقراطي في نظرتهم للوحدة، وحتى ينتبه العلمانيون إلى الفارق بين تمايز الفضاءات وتجاهل أو مناهضة بعضها، وحتى يقتنع الليبراليون بالديمقراطية الاجتماعية

نعم، نحن نشتغل على مشروع النهضة منذ قرنين، ولكننا لم نملك الجرأة على المراجعة عند الضرورة. فزمننا العربي راكد في عالم كل ما فيه متحرك. وجميعنا -بمدارسنا كلها- سلفيون وتقليديون.

إن امتلكنا جرأة النقد فسنجد أنفسنا بالضرورة أمام سؤال الدين، وقد يكون الإسلاميون هم أول المعنيين بهذا السؤال؛ فهناك معركة اليوم داخل الإسلام. بين إسلام البهجة والحياة والشهادة على الناس والتعارف وتكريم الإنسان، وإسلام الموت والبداوة.

والقوى التي صاغت مشروعا إحيائيا للدين مطالبة بمراجعات، وتجديدات عميقة في المضامين والمناهج والأوعية والوسائل. فـ"الكلمات تبقى على حالها، والمبادئ لم تتغير، ولكن القواعد تختلف، وكذلك الرسالة" (مارسيل غوشيه/ الدين في الديمقراطية).

ولكن الدين ليس ملكا فقط للقوى التي تتخذه مرجعية، ولا حتى للمسلمين عامة. إنه ملك للجميع: للعلمانيين وللملحدين ولغير المسلمين.

في الفضاء العام يصبح الدين معطى ثقافيا يكيف الحياة الجماعية، بقطع النظر عن قناعة الأفراد وحتى عن إراداتهم. ومطلوب التعامل معه على هذا الأساس. والدين -ككل السرديات الكبرى- قابل للتأويلات المتناقضة.

وإلى ذلك، فكل التيارات الكبرى معنية بالمراجعات: حتى يكون اليسار اجتماعيا وليس أيديولوجيا، وحتى يدمج القوميون البعد القُطري والمطلب الديمقراطي في نظرتهم للوحدة، وحتى ينتبه العلمانيون إلى الفارق بين تمايز الفضاءات وتجاهل أو مناهضة بعضها، وحتى يقتنع الليبراليون بالديمقراطية الاجتماعية.

كما يجب على قوى الدولة العميقة أن تدرك ضرورة التكيف مع الأوضاع الجديدة، من أجل تقليص تكلفة الانتقالات. فقد تتعطل وعود الثورات ولكننا لن نعود إلى ذلك العالم القديم.

3- ختاما: معركة وجود الأمة تُحسم على أرضية موازين القوى. وتعبئة الطاقات تبدأ بردم الفجوات بين النخب أولاً، وبينها وبين الجماهير ثانياً، بل وداخل كل تيار أصلا. هي معركة الجرأة الفكرية، وتجاوز الحواجز النفسية، وتصفية آثار الخصومات القديمة. لنجد أنفسنا مجددا عند مهمة صياغة المشروع الموحد وبناء التيار الرئيسي الحامل له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.