بين رفض الاستيطان والتعايش معه

A view of the East Jerusalem neighborhood of Alzaim and the Israel Jewish West Bank settlement of Ma'ale Adumim, in the background, 06 July 2016. Israel government has approved the building of 560 new homes in Ma'ale Adumim, and the Israeli Prime Minster Benjamin Netanyahu approve the planning of 240 new homes in east Jerusalem, allegedly in reactions to the Palestinian attack in Hebron over the weekend.

على فترات ليست متباعدة تشتعل التصريحات السياسية ضد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وتنشط وسائل الإعلام في بث أخباره وأعداد المساكن التي ستبنى ومساحات الأرض التي ستصادر، وتكرّر التصريحات التي يبثها سياسيون حوله، ومن المحتمل أن تفرد مساحات واسعة لبث خطابات سياسية نارية ضد الاستيطان.

هكذا يتكرر المشهد حول موضوع الاستيطان على مدى عشرات السنوات. لم يتوقف الاستيطان، ولم يتوقف سيل التصريحات الحماسية والوعيد والتهديد لإسرائيل. إسرائيل تستمر في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وتوسيع المستوطنات القائمة، والرافضون للاستيطان يستمرون في اجترار الإدانات والاستنكارات والاستهجانات والتنديدات. لم يتعب الطرفان، وكل طرف يستمر على ما هو عليه، والفارق بينهما واضح: طرف يصنع أمرا واقعا وينتشر جغرافيا وسكانيا على حساب الفلسطينيين وهو هم، وآخر يثرثر عبارات تذروها الرياح فتحيلها قاعا صفصفا، وهو نحن.

الأمر الواقع والقانون
منذ بدء الغزو الصهيوني لفلسطين، آمن الغزاة بضرورة فرض أمر واقع إذا أرادوا تحقيق هدفهم في إقامة الوطن القومي اليهودي ومن ثم إقامة دولتهم الخاصة بهم. ولهذا اعتمدت الحركة الصهيونية ومعها الانتداب البريطاني سياسة الاستحواذ على الأرض وإقامة المستوطنات وذلك لصناعة أمر واقع يفرض نفسه على القانون. وقد اعتمد الصهاينة على سيرة تاريخية تؤكد تفوق الأمر الواقع على القانون، وانحسار القانون أمام القوة التي تفرض الأمر الواقع.

منطق الفلسطينيين قوي ويتمشى تماما مع القانون الدولي. لكنهم غير قادرين على انتزاع حقوقهم، ولا العالم لديه الاستعداد لانتزاع الحقوق بالنيابة. مشكلة الفلسطينيين أنهم يظنون أن القانون سينصفهم، بينما القانون ينصف في العادة واضعه ومن اشتد ساعده مع الأيام

عملت الحركة الصهيونية بداية على إيجاد مخرج قانوني لتهجير اليهود إلى فلسطين وذلك بهدف الحصول على حماية الدولة التي توفر المخرج القانوني. حاولت الحركة مع السلطان العثماني بداية، لكنها وجدت ضالتها في حلفاء الحرب العالمية الأولى. أي أن الصهاينة بحثوا عن غطاء قانوني لأعمالهم. لكن قوتهم لم تعتمد على المخرج القانوني، وإنما على نشاطهم هم في الحصول على الأرض وبناء البيوت وإقامة المصالح الاقتصادية وتوفير الحماية الذاتية على المستوى الداخلي. وفر لهم المخرج القانوني مبررا على الساحة الدولية وتفهما، ووفرت لهم نشاطاتهم الداخلية أمنهم الداخلي. وكان لسان حالهم يقول إن زراعة البيوت على الأرض تفرض نفسها وتصبح إزالتها غير ممكنة أو شبه مستحيلة. ولهذا بقي القانون سندا مساعدا لسياسة الحركة وليس العمود الفقري الذي يمكن التعويل عليه.

وما خبره الفلسطينيون يؤكد صحة وصواب سياسة الحركة الصهيونية. يتمسك الفلسطينيون بما يسمى القانون الدولي، ويقدمون حججهم للعالم ضد السياسات الإسرائيلية. منطق الفلسطينيين قوي ويتمشى تماما مع القانون الدولي. لكنهم غير قادرين على انتزاع حقوقهم، ولا العالم لديه الاستعداد لانتزاع الحقوق بالنيابة. مشكلة الفلسطينيين أنهم يظنون أن القانون سينصفهم، بينما القانون ينصف في العادة واضعه ومن اشتد ساعده مع الأيام. أي أن القانون بلا قوة لا يفرض نفسه، ويأبى الأقوياء أن يفرض القانون نفسه عليهم.

لم تختلف سياسة إسرائيل بعد حرب 1967 عن سياسة المنظمة الصهيونية إذ استمرت بالسيطرة على أراضي الفلسطينيين وبناء المستوطنات وهي تعلم مسبقا أن الفلسطينيين لا يملكون سوى البكاء والعويل على الساحة الدولية، وليس بإمكانهم وقف دوران عجلة الاستيطان. أخذت تفرض إسرائيل الأمر الواقع، وهي تتجه الآن وبتسارع صوب تهويد الضفة الغربية. هي لن تتوقف عند تهويد القدس، وستستمر بالزحف لتهويد الضفة كما هودت منطقة الجليل في أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الماضي.

تعمل إسرائيل على توسيع العديد من المستوطنات وإنشاء مراكز صناعية وتجارية فيها من أجل استقطاب الأيدي العاملة الفلسطينية والتجار والمستهلكين الفلسطينيين. الهدف هو تحويل المستوطنات إلى مراكز استرزاق للفلسطينيين فتتحول إلى شموس تدور حولها القرى العربية بهدف العمل. وهكذا تتجزأ الضفة الغربية بالتزاوج مع الحواجز العسكرية إلى أرخبيل تتوسط كل جزيرة فيه مستوطنة إسرائيلية. ولدينا مثل قائم الآن وهو مستوطنة بركان التي تقوم عليها منشآت صناعية ضخمة ويعمل فيها آلاف الفلسطينيين.

الاستنكار دعم للاستيطان
اعتادت إسرائيل كما اعتاد الجمهور العربي أن الاستنكار والشجب والإدانة هي أقوى الأسلحة التي تواجه فيها الأنظمة العربية التحديات، إلا إذا كان التحدي داخليا يخص العرب. أمام أعتى الاعتداءات التي قامت بها إسرائيل ضد العرب عموما وضد الفلسطينيين خصوصا، لم تجد القيادة الفلسطينية وكذلك القيادات العربية سلاحا أمضى من الشجب وأحيانا الموصوف بالشديد. وهذا كان شأن الحكام العرب عندما أحرق المسجد الأقصى.

على الفلسطينيين أن يطلقوا أيدي شبابهم وشاباتهم في مواجهة الاستيطان، المستوطنون لا يعيشون في أجواء غير آمنة، وبسبب همة الشباب والشابات لم يتسارع الاستيطان في القرن العشرين مثلما تسارع بعد اتفاق أوسلو. فرض أوسلو على الفلسطينيين الدفاع عن الأمن الإسرائيلي بما في ذلك أمن المستوطنين والمستوطنات

ولهذا أيقنت إسرائيل أن العرب لا توجد في جعبتهم أسلحة رادعة، وأصبح الاستنكار مجرد طمأنة لها بأننا نحن العرب لن نصنع شيئا يؤذي إسرائيل أو يردعها. وبالنسبة للشارع العربي، الاستنكار لا يعني أكثر من مزيد من الإحباط. يشعر العربي أنه مهزوم، والإحباطات تحاصره في كافة ميادين الحياة، ولهذا نراه يبتلع حسرته كلما سمع كلمة إدانة أو استهجان. إنه يتأكد باستمرار أن الهزيمة حليفه، وأن عليه أن يعض عليها بالنواجذ حتى لا تفلت منه. إنه يضيف إحباطا إلى إحباطه ويأسا إلى يأسه، ويفقد آماله، ويتنحى عن شعاراته، ويجتر آلامه، ويكفر بأمته.

ولهذا من المفروض أن يتوقف العرب والفلسطينيون عن الاستنكار إذا أرادوا خيرا بالشعوب، ولن يعتب عليهم أحد إن لم يشجبوا. وقع كلمة شجب ثقيل على الأذن العربية ومريح على الأذن الإسرائيلية. ولا ضرورة لإثقالنا وإراحة العدو. مفهوم أنهم يستنكرون، وليوفروا جهودهم. هناك حقيقة ماثلة أمامنا وهي أن القيادة الفلسطينية متعايشة مع الاستيطان عمليا، ومتخاصمة معه إعلاميا. والتوقف عن الشجب لن يغير من الأمر شيئا. ولو لم تكن كذلك لما وقعت اتفاق أوسلو الذي يترك الاستيطان يتغول بالمزيد.

ربما يلجأ بعض العرب مثل القيادة الفلسطينية إلى الساحة الدولية ليشكوا أمورهم، وليستنجدوا بمن بإمكانه أن يردع إسرائيل. وربما يذهبون إلى الأمم المتحدة والمحافل الدولية لفضح إسرائيل وممارساتها المخالفة للقوانين والأعراف الدولية. لكن هل هناك على الساحة الدولية من يستجيب للضعفاء؟ تجاربنا كثيرة في هذا المجال، وكما أشرت أعلاه، الأمر الواقع أقوى من القانون، ولن يسعفنا في النهاية إلا سواعدنا، وسواعدنا تحتاج إلى إرادة حرة لتحركها.

ما يتوجب عمله
بدل الشجب والاستنكار بإمكاننا القيام بخطوات قد تفيد. من هذه الخطوات ما يلي:

1- على الفلسطينيين أن يطلقوا أيدي شبابهم وشاباتهم في مواجهة الاستيطان والمستوطنين. المستوطنون لا يعيشون في أجواء غير آمنة، وبسبب همة الشباب والشابات لم يتسارع الاستيطان في القرن العشرين مثلما تسارع بعد اتفاق أوسلو. فرض أوسلو على الفلسطينيين الدفاع عن الأمن الإسرائيلي بما في ذلك أمن المستوطنين والمستوطنات، وبات المستوطن على يقين أن مصدر الخوف الذي كان قد تحول إلى أداة بيد الأمن الإسرائيلي مقابل راتب خسيس.

السلطة الفلسطينية تلاحق الشباب وتسجنهم وتعاقبهم إن هم اعترضوا سبيل مستوطن، وكذلك تفعل القوات الصهيونية. هامش قلة الأمن تقلص بصورة كبيرة، وبات الفلسطينيون هم الأقل جرأة من المستوطنين على السير على الطرقات الخارجية بين القرى والمدن. ثم كيف بالفلسطينيين أن يطلبوا وقفة من الغير في حين أنهم لا يقفون مع أنفسهم؟ المعنى أن اتفاق أوسلو وتبعاته تمنح الأمن للمستوطنين، وإذا أردنا صناعة الهموم لهم فما علينا إلا إلغاء اتفاق أوسلو وإطلاق يد الشباب في الدفاع عن أرضهم وشعبهم.

2- تشجيع الاستيطان الفلسطيني
منذ سبعينات القرن الماضي والعديد من الفلسطينيين يطلبون توجيه الدعم المالي للمواطنين في الضفة وغزة من أجل بناء المساكن والانتشار السكاني أفقيا. طالما حصلت مناشدات، وطالما تم توضيح أهمية الانتشار السكاني الفلسطيني جغرافيا، لكن لم يكن هناك آذان تسمع. كان هناك اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة التي كانت تتسلم الأموال التي خصصها مؤتمر القمة العربي الذي عقد في بغداد عام 1978.

السلطة الفلسطينية تلاحق الشباب وتسجنهم وتعاقبهم إن هم اعترضوا سبيل مستوطن، وكذلك تفعل القوات الصهيونية. هامش قلة الأمن تقلص بصورة كبيرة، وبات الفلسطينيون هم الأقل جرأة من المستوطنين على السير على الطرقات الخارجية بين القرى والمدن

وكان من المفروض أن تخصص هذه الأموال لإنشاء البنى التحتية في القرى والمدن، وتقديم قروض بقيمة 4000 دينار أردني للعمال والفلاحين ليبنوا مساكن صغيرة لأولادهم. وأنا أتحدى إذا كان هناك فلاح واحد أو عامل حصل على قرض ليبني مسكنا له ولعائلته. الأموال أهدرت. النظام الأردني كان يعطي الأموال للموالين له، وكذلك كانت تفعل منظمة التحرير. اهتم كل طرف بإنفاق الأموال لتعزيز مواقعه الذاتية وتركوا الوطن خلف ظهورهم.

ولهذا يجب إنشاء صندوق لدعم الإسكان الفلسطيني شريطة أن ينتشر أفقيا وليس عموديا كما يحصل الآن في أغلب مدن الضفة الغربية. لكن حرية الانتشار الآن أقل مما كانت عليه في السابق وذلك لأن إسرائيل وضعت العديد من القوانين والتعليمات التي تحاصر الامتداد الديمغرافي الفلسطيني الأفقي. لكن على الفلسطينيين أن يحاولوا.

3- حيث أن الانتشار الأفقي مطلوب فإنه يتوجب تعديل القوانين الفلسطينية بحيث تتلاءم مع الانتشار الإسكاني الفلسطيني. القوانين الفلسطينية القائمة حاليا تقلص من قدرة الفلسطينيين على الانتشار وترهقهم ماديا. هناك مناشدات كثيرة لسن قوانين تشجع الفلسطيني على التعمير وبناء المساكن، لكن السلطة الفلسطينية تعقد الأمور باستمرار. هناك أمران على السلطة الفلسطينية القيام بهما وهما: تسهيل تسجيل الأراضي وإفرازها، وتخفيف الرسوم المفروضة على المواطنين.

قوانين السلطة تعرقل عملية تسجيل الأراضي فتبقى الأرض مشاعا بين العديد من الشركاء، ولا يتمكن الفرد من معرفة موقع ملكيته بالضبط لكي يبني مسكنا أو يستثمر أرضه. وهناك قوانين تقول إن الأرض زراعية ولا يجوز الحصول على رخصة بناء إلا إذا كانت المساحة لا تقل عن خمسة دونومات. وطبعا ذهبت بنفسي أتفحص الأراضي الزراعية فوجدتها أرضا صخرية تصلح في الغالب كمراعي، أما السهول مثل سهل مرج ابن عامر وسهل طولكرم وسهل البيرة وبيت فوريك والتي يجب أن تكون السلة الغذائية للفلسطينيين وجدتها تغزوها العمارات والمساكن. أي أن ما يجري هو عكس ما تتطلبه المصلحة الوطنية الفلسطينية. ومن الوارد طبعا أن السلطة الفلسطينية تتقيد بمشيئة إسرائيل في تصنيفها للأراضي.

من ناحية ثانية، تفرض السلطة رسوما باهظة على المواطنين عند تسجيل الأرض وإفرازها، وللأسف كانت نسبة هذه الرسوم تحت إدارة الاحتلال أقل مما تفرضه السلطة. المطلوب تخفيض هذه الرسوم إلى الصفر، والمساهمة بصورة كبيرة في إنشاء البنى التحتية للتسهيل على المواطنين الانتشار. وإلا نكون قد كذبنا على أنفسنا وعلى أمتنا و"بهّرنا" كذبنا بالعبارات الاستنكارية والشجبية الخادعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.