أوروبا في مواجهة تحدي ترمب

epa05735604 President Donald Trump delivers his Inaugural address after taking the oath of office as the 45th President of the United States in Washington, DC, USA, 20 January 2017. Trump won the 08 November 2016 election to become the next US President. EPA/MICHAEL REYNOLDS

رئاسة ترمب الباهظة
حقبة النهم الرأسمالي
الترقب ونحت البدائل

استحوذ دونالد ترمب على البيت الأبيض أخيراً، لكنها ليست مناسبة للاحتفال في أوروبا بل لقلق جارف. فقد عزّز الرئيس الجديد خشية في أوروبا من مفاجآت قادمة معه، وإحساساً بانعدام اليقين بشأن المستقبل.

تأتي مفاجآت ترمب من أنه بمثابة صندوق أسود يصعب تقدير ما سيخرج به، وقد يكون خالي الوفاض من الخيارات المحددة، علاوة على أنّ توجهات فريقه تمنح انطباعات مضطربة بشأن المرحلة المقبلة.

المؤكد أنّ أوروبا تواجه مع ترمب تحديات غير هينة تتزامن مع تحوّلات دولية، كما يتجلى في إستراتيجية التمدد والمبادرة الروسية والصعود الصيني مثلاً، علاوة على اختبارات شاقة تشهدها الوحدة الأوروبية بعد أن قررت بريطانيا مفارقتها، وهو ما بعث مخاوف وجودية على مآلات الوحدة.

تشكّل انطباعٌ في أوروبا عن ترمب أنه يضع النظام الدولي موضع تساؤل، عبر اعتراضاته وتحفظاته التي أطلقها ضد اتفاقيات وأنظمة دولية وتحالفية، وزهده في الأواصر الوثيقة بين جانبيْ الأطلسي، كما أنه لا يبدو معجَباً بالوحدة الأوروبية.

ولئن دخل ترمب البيت الأبيض مصحوباً بموجة قلق أوروبية؛ فلن تنقشع الغيوم في اليوم التالي. على أنّ القلق لا يتعلق بترمب وحده، بل بملابسات صعوده ومنها ظواهر ممتدة في أوروبا أيضاً.

فالجماهير ينتابها القلق وفقدان الثقة بالطبقة السياسية التقليدية، واستعمل ترمب معها خطاباً شعبوياً متشنجاً يتقنه بعض سياسيي أوروبا. كما أنّ مزاعم التلاعب في الانتخابات -المنسوب إلى أيادٍ روسية- ستصبح حديث الجولات الانتخابية المقبلة في أوروبا.

رئاسة ترمب الباهظة
لرئاسة ترمب أثمانها التي ستتراكم على أوروبا، ومنها ما قد يترتب على الإجراءات الحمائية التي يُشهر سيفها في وجه شركاء القارة العجوز. أما كشف الحساب الدفاعي فسيقفز في أوروبا عالياً، فعلى الدول الأوروبية الكبرى أن تدفع أكثر لحلف الأطلسي، بعد أن طالبها رجل الأعمال الجالس في البيت الأبيض بالسداد.

لن تبالغ أوروبا إن ارتعدت فرائصها من تصريحات ترمب المتلاحقة. لكنّ قادتها معنيّون بضبط انفعالاتهم وكبت مشاعرهم؛ فلا مصلحة في توتير الأجواء مع واشنطن من أول الشوط، كما أنّ إثارة الهلع في الداخل الأوروبي ومنح الانطباع للعالم بأنّ القارة دخلت نفقاً مظلماً، سيعودان بارتدادات سلبية عليها

ليست المسألة ما إن كان الحلف سيبقى على حاله أم لا؛ فقد فهم الأوروبيون أنّ ترمب ليس متحمساً لمظلة عسكرية لا غنى لهم عنها، مما قد يعني تقاعساً عن تحريكه القوات في لحظة الحقيقة. وإن تضعضع الحلف وتآكل فعلياً -وهو أمر مستبعد- فإنّ بديل حلف الناتو أو رديفه ليس سوى تعزيز منظومة دفاعية أوروبية قد تكون لحظتها قد حانت أخيراً.

سيتوجّب على أوروبا أن تتصرّف إستراتيجياً وعسكرياً باستقلالية أكثر من أي وقت مضى، ولكن أي أوروبا هذه تحديداً التي يتآكل حلمها الوحدوي ويسودها التقلص بعد التمدد والضيق بعد السعة؟ وأي دور ستنهض به في عالم متعدد الأقطاب وحافل بالتهديدات والتحولات المتسارعة؟

لن تبالغ أوروبا إن ارتعدت فرائصها من تصريحات ترمب المتلاحقة، لا سيما في لقائه الأخير المشترك مع صحيفتيْ "تايمز" البريطانية و"بيلد" الألمانية. لكنّ قادتها معنيّون بضبط انفعالاتهم وكبت مشاعرهم. فلا مصلحة في توتير الأجواء مع واشنطن من أول الشوط، كما أنّ إثارة الهلع في الداخل الأوروبي ومنح الانطباع للعالم بأنّ القارة دخلت نفقاً مظلماً، سيعودان بارتدادات سلبية عليها.

لتحدي ترمب وجه آخر، هو أنه لا يتورّع عن الخوض في الشؤون الأوروبية الداخلية وإصدار أحكام قطعية مذهلة. إنه ليس تحدياً فحسب للجانب الأدبي في العلاقة المتبادلة بين شريكيْ الأطلسي، بل ينطوي على إيحاء بأنّ الإدارة الجديدة قد تتلاعب بتوازنات وملفات أوروبية داخلية.

من ذلك مثلاً الانتقاد اللاذع الذي وجهه ترمب إلى المستشارة الألمانية ميركل بقوله إنها ارتكبت "خطأ فادحاً" بالسماح لكل هؤلاء "غير الشرعيين" بالدخول إلى بلادها، في إشارة إلى أفواج طالبي اللجوء. إنه ملف حساس للغاية بالنسبة لميركل بالتأكيد، ويصطف فيه ترمب في خندق ناقديها الذين يحاولون إسقاطها.

لعلّ ترمب يتطلع إلى تعميم نموذجه ومشاهدة نسخ منه يتصدرون عواصم أوروبا، على أنّ أشباهه الأوروبيين حاضرون في المشهد منذ مدة أساساً ويحظى بعضهم بفرص انتخابية واعدة. وإن بدت رئاسة ترمب محفزة لصعود أقصى اليمين إلى مراتب القرار في أوروبا؛ فإنّ "تأثير ترمب" قد يعود بمردودات عكسية، فقد يُنظر إلى الوجوه الصاعدة بأنها تتقمّص نموذجه الذي يستثير الاستياء.

يتمسك ترمب بنبرة ازدراء للاتحاد الأوروبي، ويواصل تحريض أعضائه على الانفصال أسوة ببريطانيا التي تلقى ثناء خاصاً منه على خطوتها "الذكية". وعندما يجرأ ترمب علناً على القول إنّ الاتحاد مكرّس لصالح ألمانيا، فإنه يزرع بذور الشك بعواصم القارة في جدوى عملية التكامل والوحدة برمّتها.

لن يكون بوسع أوروبا أن تتجاهل انعكاسات عهد ترمب عليها في الداخل، ومن ذلك ضغطه على مشروع الوحدة، وتأثيراته على فرص أقصى اليمين الأوروبي، وستبقى لحماية الوحدة والعقلنة أولوية أوروبية مؤكدة.

حقبة النهم الرأسمالي
يدشِّن ترمب حقبة جديدة من النهم الرأسمالي المدفوع بنزعة ربحية تتملّص من الالتزامات "الزائدة"، أي ما يأتي تحت عناوين قِيَمية وأخلاقية وبيئية وتنموية. وستندفع أوروبا إلى خوض منافسات رأسمالية حادة، بما قد يستدرجها إلى مراجعات نسبية في نموذج دولة الرفاه الاجتماعي، والتزامات "التعاون الإنمائي" الخارجي.

سيقود تحوّل كهذا إلى تجاذبات داخلية ونقاشات اجتماعية في القارة، وإلى موجة ضغط ضد إجراءات التقشف مع تصاعد القلق الاجتماعي. كما قد يؤدي هذا المنحى إلى تعظيم فجوات -متفاقمة أساساً- بين شمال وجنوب، بما يذكي وتيرة بعض الصراعات وتدفقات الهجرة من بيئات طاردة.

على الذين يأخذون تصريحات ترمب على محمل الجد أن يرسموا فرضيات شديدة الوطأة في أوروبا وأقاليم العالم، لكنّ المفارقة أنّ هذا المنعطف الحاد قد يحمل وعوداً جديدة لأوروبا في العالم أو قد يفضي إلى ضمور نسبي في حضورها الأممي، ولا يبدو أنّ ترمب يعبأ بمثل ذلك، ظاهرياً وحتى الآن على الأقل

على الذين يأخذون تصريحات ترمب على محمل الجد أن يرسموا فرضيات شديدة الوطأة في أوروبا وأقاليم العالم، لكنّ المفارقة أنّ هذا المنعطف الحاد قد يحمل وعوداً جديدة لأوروبا في العالم أو قد يفضي إلى ضمور نسبي في حضورها الأممي، ولا يبدو أنّ ترمب يعبأ بمثل ذلك، ظاهرياً وحتى الآن على الأقل.

وإذا كان على المواقف الأوروبية أن تراعي المحددات التقليدية التي تحكم العلاقة مع الجانب الأميركي، فإنّ المعضلة -التي تواجه راسمي الإستراتيجيات وصانعي السياسات في القارة الآن- تتمثل في مدى التزام الإدارة الجديدة في واشنطن بهذه المحددات، وهل هي جادة حقاً في ما ذهب إليه ترمب لفظياً.

تبقى أوروبا معنية بمتانة الشراكة الغربية التي تنهض على أكتاف الأميركيين والأوروبيين معاً مع دور ريادي لواشنطن. ويأتي التحالف الأطلسي تجسيداً ميدانياً لشراكة تمتد إلى مجالات منها العامل الاقتصادي، وقد أصبح المحدد الاقتصادي بالذات ضاغطاً على العلاقات المتبادلة بسبب سياسة الجباية القسرية التي يتمسك بها سيد البيت الأبيض.

سيكون للشركات الأوروبية الكبرى تأثيرها في تقدير الموقف الاقتصادي الأوروبي نحو إدارة ترمب، مثلاً صناعة السيارات التي تخشى خطوات لوّح بها الرئيس الجديد، كما يتجلى في حالة شركة "بي إم دبليو" الألمانية التي تنتظرها سنوات صعبة للغاية قد تُكبدها خسائر باهظة.

لكنّ الموقف يتجاوز ملفات جزئية قابلة للتسوية إلى ما هو أوسع نطاقاً وأعمق تأثيراً، فأي مستقبل للعولمة الاقتصادية وأنظمة التجارة العالمية التي قد تنكفئ مع صعود برنامج الإجراءات الحمائية الأميركية، بما يشكله ذلك من ردّة عن منحنى العولمة الصاعد منذ نهاية القرن الماضي؟!

سيتعيّن على أوروبا أن تتكيّف مع تأثير سياسات إدارة ترمب على التوازنات الدولية (مع روسيا والصين بشكل خاص)، علاوة على الجوار الأوروبي ككلّ وإيران، لما لها من تأثيرات متعددة وتداعيات قد تمسّ المصالح والأمن القومي للقارة.

ويبقى أنّ أوروبا لن يعتريها الارتياح مع تضعضع الصورة الأخلاقية والرصيد المعنوي لشريكها الأهم في العالم، أي الولايات المتحدة؛ فالغرب ظلّ يقدم نفسه أممياً في رداء قيمي وأخلاقي بغض النظر عن مدى الالتزام بذلك في واقع السياسات.

الترقب ونحت البدائل
تبدو الخشية من عامل المفاجأة حاضرة في ظلال حالة الترقب الأوروبية الراهنة إزاء الانعطافات الأميركية المحتملة. فالترقب الأوروبي سيبقى عنوان الشهور الأولى على الأقل من عهد ترمب، إلى أن يُزاح الستار بالكامل عن الإستراتيجيات والسياسات والإجراءات التي ستتخذها إدارته بالفعل، خاصة أنّ بعض العناوين التي لوّح بها في حملته الانتخابية وبعد فوزه لم يتم أخذها في أوروبا والعالم على محمل الجد.

بيد أنّ سياسة الترقب لا تعني الانتظار؛ بل الحذر وترتيب الأوراق والمحاور وتحاشي الانزلاق إلى أزمات تلوح تباشيرها في الأفق.

تسعى أوروبا الآن إلى احتواء الاندفاعات الأميركية الجديدة بموجة اتصالات ومشاورات مع أركان إدارة ترمب، وربما قبل ترمب ذاته. فمهما انزعجت أطراف أوروبية من الرئيس؛ فلن ينسحب الانطباع على إدارته ككل. وقد يفضِّل المسؤولون الأوروبيون الظهور مع وجوه الإدارة الذين يُحسنون انتقاء مفرداتهم على نحو لا يحرص عليه ترمب.

تسعى أوروبا الآن إلى احتواء الاندفاعات الأميركية الجديدة بموجة اتصالات ومشاورات مع أركان إدارة ترمب، وربما قبل ترمب ذاته. فمهما انزعجت أطراف أوروبية من الرئيس؛ فلن ينسحب الانطباع على إدارته ككل. وقد يفضِّل المسؤولون الأوروبيون الظهور مع وجوه الإدارة الذين يُحسنون انتقاء مفرداتهم على نحو لا يحرص عليه ترمب

وستجد دول أوروبية ذاتها أقدر على الانسجام مع عهد ترمب تبعاً لخصوصياتها، مثل بريطانيا القريبة تقليدياً من الولايات المتحدة، أو بالنظر إلى التوجهات السياسية الحاكمة في هذه الدول، كما سيتجلّى مع حكومات اليمين وأقصى اليمين، بالمقارنة مع حكومات يسار الوسط مثلاً.

وتُدرك أوروبا أيضاً أنّ عليها التصرّف وفق الاحتمالات جميعاً، بما في ذلك احتمال انكفاء الولايات المتحدة على مصالحها على نحو يتنصل من التزاماتها؛ بما قد يمس بعض جوانب علاقات الشراكة والتحالف والتعاون بين الأوروبيين والأميركيين. وتحسباً لذلك تجد عواصم أوروبا أنها بحاجة للتصرف الجماعي في بعض الملفات والتحركات أكثر من أي وقت مضى، وأن تأخذ المبادرة بذاتها.

تبدو ألمانيا الخاسر الأوروبي الأول في الحسبة المنظورة لصعود ترمب، وهي تدرك أنّ عليها قيادة القارة في الرد على التحديات بالتماسك الأوروبي والإعراب عن نبرة ثقة، وهذا ما عبّرت عنه ميركل بعد الاستفزازات الأخيرة التي تفوّه بها ترمب بحق ألمانيا وأوروبا، وستسعى برلين إلى توظيف رئاستها لمجموعة العشرين في تقريب الصدوع مع الحليف الأطلسي الغربي.

ثمة متغيرات قد تؤثر في مواقف أوروبا واستجاباتها لتحدي ترمب، أبرزها ما ستتخذه إدارته من إستراتيجيات وسياسات وإجراءات ومواقف. وقد تترك تفاعلات أميركية داخلية تأثيرات على روح التعامل مع العهد الجديد، خاصة مع احتمال تبلور حركة مدنية وجماهيرية مناهضة لترمب، مع تأثير عملي طفيف غالباً.

وقد يكون لمواقف أطراف دولية أخرى من الإدارة الأميركية انعكاسها أيضاً، على نحو يفرض تقييم اتجاهات الاصطفاف والتعاون والتحالف التي ستباشرها أوروبا دولياً. وثمة تأثيرات قد تدفع بها أي تطورات كبرى داهمة، فتفرض مثلاً ردود أفعال تضامنية ومراجعات تحت وطأة اللحظة، أسوة بخبرة هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وإن باشرت إدارة ترمب تنفيذ بعض شعاراته، فسيتعين على أوروبا إعادة نظم سياستها الأمنية والدفاعية وخرائط تحالفاتها وشراكاتها، ونسج أواصر جديدة في العالم. وسيقتضي هذا إعادة نظم المفهوم وصياغة الإستراتيجيات، مع زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري والأمني لاحتواء الفجوات المحتملة من أي تراجع أميركي عن العلاقة التحالفية التي تشكلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وسيؤدي هذا إلى إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العمومي الأوروبي والضغط على وجوه إنفاق أخرى. وإن بلغ الموقف مبلغه مع إدارة ترمب واكتشف الأوروبيون جدية مراجعاته للعلاقات الأطلسية، فقد يستدعي ذلك إعادة صياغة بعض الجيوش وأنظمة التجنيد في أوروبا.

سيستدعي سيناريو الانكفاء الأميركي على المصالح الذاتية هذا تفاعلات في الداخل الأوروبي، وقد تتقمص أوساط يمينية محافظة خطاباً يرى مهمة لأوروبا في تحصين "الغرب" وحمايته مثلاً. وستبقى أوروبا في الأحوال جميعاً مفتوحة العينين منطلقة اليدين مع التقييم المستمر للموقف بواشنطن وانعكاساته في العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.