السنوات الخمس.. خصم أم إضافة؟

epa03554897 Egyptian protesters sit next to wall-covered graffiti, during a protest marking the second anniversary of the Egyptian revolution, in Mohamed Mahmoud Street, near Tahrir square, in Cairo, Egypt, 25 January 2013. The Egyptian opposition called for rallies on 25 January 2013 against President Mohamed Morsi and his Muslim Brotherhood group, accusing them of tightening their hold on power, on the second anniversary of the revolt that toppled former president Hosni Mubarak on 11 February 2011. EPA/ANDRE PAIN

لا خير فينا إذا فوتنا الذكرى الخامسة لثورة يناير دون أن نطالع وجوهنا في مرآة الواقع، لكي نجدد مسيرة الثورة ونعالج أسباب انتكاسها.

(1)

ما الذي حدث خلال السنوات الخمس، بحيث كانت الشعارات المرفوعة في عام 2011 تطالب بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم صارت أصوات النشطاء تنادي في عام 2016 بوقف الاختفاء القسري وإدخال البطانيات والأدوية إلى سجن العقرب؟

هذا السؤال ألقيته يوم السبت الماضي (30/1) ووعدت بمحاولة الإجابة عنه. وحين قلَّبت الأمر وجدت أننا لا ينبغي أن نتعجل في إصدار الأحكام، لأن تفاعلات الثورة لا تزال مستمرة بصور مختلفة، ومن ثم يفرض علينا الإنصاف أن نتحدث عن تجربة السنوات الخمس التي مرت من عمر الثورة باعتبارها أولى حلقاتها، وليست كل عمرها. أدركت أيضا أن ثمة مفاتيح ربما سبقت الإشارة إلى بعضها، ومع ذلك يظل استحضارها مهما لكي نتفهم ما جرى ونضعه في إطاره الصحيح، من تلك المفاتيح ما يلي:

على مدى التاريخ، فإن الثورات الحقيقية استغرقت عقودا (الثورة الفرنسية لم يستقم لها الأمر إلا بعد 80 عاما)، حتى صار طول الأجل من سماتها وأعرافها. الأهم من ذلك أنه ما من ثورة وقعت إلا تعرضت للانتكاس، وحين يحدث ذلك فإن عناصر الثورة المضادة تعود إلى سابق عهدها بصورة أكثر عنفا وشراسة

– إن الثورة بمعنى إحداث تغيير في النظام والمفاهيم والمشروع وجهاز الإدارة، عمل كبير يتطلب وقتا طويلا وعملا دؤوبا. وهي تختلف عن الانقلاب الذي عادة ما يكتفي بتغيير السلطة بحيث يبقى ما عدا ذلك على حاله (في اللغة الفارسية تعد الثورة انقلابا في كل الأحوال). من هذه الزاوية تعد السنوات الخمس مرحلة تمهيدية وإعدادية. والتقييم في هذه الحالة حين ينصب على الشوط الذي قطعته الثورة، ينبغي ألا يستقبل بحسبانه حكما لصالح الثورة أو ضدها.

– على مدى التاريخ، فإن الثورات الحقيقية استغرقت عقودا (الثورة الفرنسية لم يستقم لها الأمر إلا بعد 80 عاما)، حتى صار طول الأجل من سماتها وأعرافها. الأهم من ذلك أنه ما من ثورة وقعت إلا تعرضت للانتكاس، وحين يحدث ذلك فإن عناصر الثورة المضادة تعود إلى سابق عهدها بصورة أكثر عنفا وشراسة، لأن أداءها كان مشوبا بالرغبة في الانتقام واستئصال قوى الثورة التي أزاحتها.

– إن الثورة كانت بمثابة انفجار لبركان الغضب المتراكم في الأعماق العربية والمصرية منذ عقود، وذلك الانفجار أطلق الأشواق المحبوسة التي تعلقت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. الأمر الذي يعني أنها كانت إشهارا لثورة الإنسان العربي ضد الظلم السياسي والاجتماعي معا، وقد أثبتت تجربة تونس من خلال الانتفاضة الأخيرة أن زوال الظلم السياسي لا يشبع طموح الجماهير التي لم تتخل عن رفضها للظلم الاجتماعي.

– حين هبت رياح الثورة فإن أصداءها ترددت في عموم الوجدان العربي، وكان تغيير بعض الأنظمة بمثابة الجزء الظاهر منها، في حين أن التغيير الأكبر كان من نصيب حراك المجتمعات وتطلعاتها وأصواتها التي ارتفعت وما عاد ممكنا إسكاتها، خصوصا بعدما وجدت في الفضاء الإلكتروني متنفسا لها. ولأنها كانت ثورة أمة وليست ثورة قطر بذاته، فإن عناصر الثورة المضادة في العالم العربي استجمعت قواها واحتشدت لقمعها، فحققت نجاحات في بعض المواقع وأخفقت في مواقع أخرى.

– إن المؤامرة كان لها دورها ووجودها حقا، لكن ذلك لم يكن له علاقة بإطلاق الثورة، وإنما برز الدور بوضوح في محاولات إفشالها أو إجهاضها. وهي المحاولات التي أسهمت فيها الأطراف الإقليمية بدور فعال لا يزال مستمرا حتى الآن.

ليس صحيحا أن الثورة أتت بالإرهاب الذي خطف الأضواء منها، ولكن الإرهاب خرج من عباءة الأنظمة المستبدة التي تحالفت مع الثورة المضادة. وتشكل سوريا حالة نموذجية في ذلك، لأن ثورة الشعب السوري حين انطلقت من درعا عام 2011 كانت سلمية ولم تطمح لأكثر من إصلاح النظام، ولكن شراسة القمع دفعت الجماهير للدعوة لإسقاط النظام، وحينئذ أُطلق "الشبيحة" وظهرت الجماعات المسلحة التي قلبت المشهد وسوغت لنظام الأسد ادعاءه بأنه يخوض معركة ضد الإرهاب لا ضد شعب يدافع عن حريته وكرامته.

(2)

حقا كان فعل الثورة في مصر بمثابة لحظة نادرة في تاريخها، ذابت فيها الهويات والتمايزات والخلافات، وانعقد إجماع الأمة على ضرورة الانتصار للوطن، إلا أنها كانت في ذات الوقت ومضة لمعت في الأفق، ثم حجب بريقها بسرعة وجرى تنزيلها إلى الأرض على هيئة مغايرة.

أتحدث عن إخفاقين منيت بهما الثورة المصرية في سنواتها الأولى: أحدهما يتعلق بطمس حقائق الثمانية عشر يوما التي انتهت بإسقاط نظام مبارك، والثاني يتمثل في تأجيل أهدافها والانجرار في مسارات أخرى بعيدة عنها.

ليس صحيحا أن الثورة أتت بالإرهاب الذي خطف الأضواء منها، ولكن الإرهاب خرج من عباءة الأنظمة المستبدة التي تحالفت مع الثورة المضادة. وتشكل سوريا حالة نموذجية في ذلك، لأن ثورة الشعب السوري حين انطلقت من درعا عام 2011 كانت سلمية ولم تطمح لأكثر من إصلاح النظام، ولكن شراسة القمع دفعت الجماهير للدعوة لإسقاط النظام

إن تلك اللحظة التاريخية الباهرة والنادرة وغير المسبوقة في مصر، جرى تشويهها بسرعة بحيث أضحت عملا مشبوها وسابقة أو حادثا مؤسفا في السجل العدلي لمجتمع المصريين، وهو ما سوغ اعتبارها مؤامرة من قبل البعض أسهمت في تدبيرها جهات خارجية، الأمر الذي فتح الباب لاتهام المشاركين فيها الذين صاروا بين محكومين في السجون أو مهاجرين خارج مصر، أو متوجسين في داخلها.

إن شئت الدقة فقل إن أحداث الثورة أصبح لها الآن تاريخان في مصر، واحد مدفون ومحبوس والثاني معمم على وسائل الإعلام وحاضر في ساحات المحاكم. التاريخ المدفون كتبته لجنة تقصي حقائق الثمانية عشر يوما المجيدة، التي رأسها المستشار عادل قورة رئيس محكمة النقض الأسبق، وضمت عددا من كبار رجال القانون والخبراء.

إذ أعدت اللجنة تقريرها في ظل أول حكومة بعد الثورة -في زمن البراءة الأول- وانتهت منه وأعلنته في مؤتمر صحفي يوم 3 أبريل/نيسان 2011، واتهمت فيه الشرطة بالمسؤولية عن قتل الثوار. كما حققت في وقائع أخرى من قبيل ما جرى في واقعة الجمل، وفتح السجون وغير ذلك.

لكن ذلك التقرير تم تجاهله تماما، وجرى الترويج بعد ذلك لصياغة جديدة للوقائع حملت مسؤولية قتل الثوار لعناصر من خارج مصر، وبرأت مرتكبي واقعة الجمل وجعلت فتح السجون جزءا من المؤامرة. (للعلم ثمة تقرير آخر لوقائع مرحلة حكم المجلس العسكري أعدته لجنة محايدة رأسها المستشار عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض، وقد تم تجاهله ودفنه بدوره).

محو التاريخ الحقيقي للثورة الذي قامت به عناصر الدولة العميقة كان تمهيدا لما هو آت، ومقدمة لاستعادة نفوذ وسياسات النظام القديم الذي لم يحاكم رموزه على ما ألحقوه بمصر من فساد سياسي على مدى ثلاثين عاما، وبرّأ أغلبهم من التهم التي وجهت إليهم بخصوص الفساد المالي. وفي الوقت ذاته بُرئت قيادات الشرطة من كل قضايا القتل والتعذيب التي رفعت ضدهم.

حين طمس وجه الثورة وشوهت ملامحه، فإن التساؤل عن مصير شعاراتها وأهدافها لم يعد له محل. إذ لم يكن مستغربا أن تغيب تلك الشعارات عن أجندة النظام القديم الذي عاد إلينا بوجوه جديدة، لذلك أصبح طبيعيا ومفهوما أن تظل تلك الشعارات معلقة في الفضاء بعد مضي خمس سنوات من الثورة، ولم يتم تنزيلها على الأرض بعد، الأمر الذي يعني أن الثورة صارت جزءا من التاريخ وليست جزءا من الواقع.

(3)

يظلم الوضع الراهن في مصر إذا حملناه بكامل المسؤولية عما آلت إليه حال الثورة، ذلك لأنه ورث أوضاعا مختلفة كان لها إسهامها الأساسي في إشاعة حالة القابلية للانتكاس. إذ في ظل تغييب الديمقراطية وانعدام المشاركة الشعبية طوال عدة عقود فقد المجتمع عافيته وضمرت عضلاته بحيث أصيب بدرجة عالية من الهشاشة والضعف. ففقدت مؤسساته استقلالها بحيث تحولت إلى هياكل وكيانات ملحقة بالإدارة السياسية، وهو ما حدث بالنسبة للأحزاب والهيئات الأخرى، ولم تكن شرائح النخبة بعيدة عن تلك الأجواء. فالتحقت الأغلبية ببيت الطاعة الذي هيمنت عليه السلطة السياسية معتمدة في ذلك على الأجهزة الأمنية.

هذا المجتمع الرخو الذي أصابته الإدارة السياسية بالإعاقة، ظل الناس فيه يختزنون الحزن والغضب، حيث لم يجدوا منبرا يعبر عنهم بعدما جرى تأميم المجال العام واختزال الوطن في النظام واختزال النظام في الزعيم الذي بات يستمد شرعيته من قوة الأجهزة الأمنية وبطشها.

وحين تمادى النظام في سطوته وجبروته، فإن جيل الشباب كان وحده الذي غامر بالتمرد واستطاع أن يوظف ثورة الاتصالات لإيصال رسالته إلى الملايين التي اختزنت الغضب واحتملت الهوان والانكسار عدة عقود. تفاعلت الرسالة مع شرارة الثورة التي انطلقت من تونس وأصبحت بمثابة عود الثقاب الذي ألقي في مخزن الوقود والبارود، فكان الانفجار الكبير الذي فاجأ الجميع وأبهرهم.

لأننا لا نملك ترف الاستسلام، فلا مفر من استنفار همة الشرفاء في مصر ودعوتهم للعودة إلى الاصطفاف وراء شعارات الثورة التي حجبت أو نسيت، ومن ثم فتح باب الحوار حول السبيل إلى تحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والانتقال من مرحلة "الأمن يريد" إلى شعار "الشعب يريد"، بعيدا عن التهريج والتزوير

حين انتفضت الجماهير في 25 يناير/كانون الثاني 2011 في أجواء الخواء السياسي المخيم آنذاك، فإننا أصبحنا إزاء جسم كبير بلا رأس. وحين غاب الرأس غاب العقل واختلت الرؤية وضاقت الخيارات والبدائل. إذ في ظل الأنقاض التي خلفها النظام السابق عز العثور على بناء محتفظ بقوامه ويمكن المراهنة عليه.

بكلام آخر فإنه حين ماتت السياسة ولم يعد للمجتمع المدني وجود يذكر، فقد البلد بوصلته الهادية وتعذر العثور على قيادة تحظى بالإجماع الوطني. وفي هذه الأجواء أصبحت القوات المسلحة هي المؤسسة الوحيدة التي احتفظت بتماسكها، ومن ثم صارت "خيار الضرورة" الذي لم يكن هناك بديل عنه.

بشكل مواز فإنه في غياب المشاركة الشعبية ضمرت أيضا القوى السياسية واختلت العلاقات بين تياراتها المختلفة التي أصبحت أسيرة تناقضاتها وصراعاتها الأيديولوجية، ومن أسوأ النتائج السيئة التي ترتبت ما تورط فيه المثقفون حين انشقت صفوفهم وتوزعوا بين فصيلين، أحدهما مدني والآخر ديني، الأمر الذي أعاد إلى الواجهة الصراع الإسلامي العلماني، الذي هزم بسببه الطرفان في نهاية المطاف.

(4)

لست أقلل من شأن أو أهمية موضوع الإرهاب ولا قصة الصراع بين السلطة والإخوان، لأن مستقبل الثورة والوطن بأسره هو الأكثر أهمية في اللحظة الراهنة. وهذا المستقبل لم ينل ما يستحقه من اهتمام في الحوار الدائر الذي بات يستدرجنا إلى أمور فرعية وتفصيلات بعضها يعمق من الجراح والبعض الآخر يوسع من التيه ويحشرنا في نفقه المظلم.

ولأننا لا نملك ترف الاستسلام لذلك المستنقع، فلا مفر من استنفار همة الشرفاء في مصر ودعوتهم للعودة إلى الاصطفاف وراء شعارات الثورة التي حجبت أو نسيت، ومن ثم فتح باب الحوار حول السبيل إلى تحقيق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والانتقال من مرحلة "الأمن يريد" إلى شعار "الشعب يريد"، بعيدا عن التهريج والتزوير.

وتلك هي الخطوة الأولى لطي صفحة المطالبة بوقف الاختفاء القسري والانشغال بإدخال البطانيات والأدوية إلى سجن العقرب أو غيره من السجون، فضلا عن الإجراءات الأخرى التي سحبت الكثير من رصيد الثورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.