أنفاق غزة.. ساحة المواجهة القادمة

واحد من الأنفاق التي كشفتها قوات الاحتلال واستخدمتها المقاومة الفلسطينية في توجيه ضربات موجعة للاحتلال - الأوروبية

بدايات الحفر
حرب في الظلام
حلول فاشلة

جاءت حادثة استشهاد سبعة من عناصر كتائب القسام مؤخرا في غزة إثر انهيار أحد الأنفاق، لتسلط الضوء على هذا الأسلوب القتالي الجديد الذي ابتكرته حماس في الأراضي الفلسطينية منذ عقد من الزمن، حين كان الجيش الإسرائيلي في قلب غزة قبيل انسحابه منها.

بدايات الحفر
تعتبر حرب الأنفاق إحدى أهم وأخطر الأساليب العسكرية التي استخدمتها المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، فعلاوة على كونها أسلوبا جديدا شق طريقه إلى قلب المعادلة الكفاحية، وحفر لنفسه موقعا متميزا في سلك العمل العسكري المقاوم، فإن البعد النوعي والإستراتيجي الذي يمثله وما يحققه من آثار بشرية ومعنوية، شكل تهديدا بالغا وتحديا للآلة العسكرية الإسرائيلية المدججة بكافة آليات الحرب الفتاكة، والنظريات الأمنية التي يضرب بها المثل في اختزان كافة وسائل وإجراءات الحماية والوقاية واستباق ضربات الخصم، مما يدلل على حجم المأزق الذي عاشته المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على وقع هذا التطور الفلسطيني المقاوم.

حسب المخابرات الإسرائيلية، فإن الحفارين الفلسطينيين المتخصصين بحفر الأنفاق يعتادون النزول لباطن الأرض بعد فترة طويلة من عدم شربهم الماء حتى لا يعرقوا، فالعرق قد يتسبب بانهيار النفق أثناء العمل. ويتم الحفر عموما بواسطة جهاز ميكانيكي وليس كهربائيا حتى لا يصدر ضجيجا

وتكمن خطورة أسلوب الأنفاق في ابتعاده عن ظروف وإجراءات المواجهة التقليدية، واعتماده على مفاجأة العدو بضربة عنيفة قاتلة، لا تدع له فرصة للنجاة والإفلات، أو تتيح له إمكانية المواجهة والتصدي والرد بالمثل.

فهو أسلوب يعتمد على العمل الهادئ الذي يتم بموجبه حفر نفق أو أنفاق تحت الأرض، بوسائل ومعدات بسيطة، والمثابرة على العمل دون ضجيج، وفق إحداثيات جغرافية معدة سلفا، دون أي ظهور مباشر على سطح الأرض، مما يحرم الجيش الإسرائيلي إمكانية التعامل مع هذا الموضوع، وإحباط المخطط الفلسطيني، أو التصدي له حال التنفيذ، كونه يعتمد على عامل المفاجأة الذي يربك العدو من خلال تفجير أو تفجيرات فورية متتابعة تحقق مبتغاها، وتنشر الموت والدمار في الموقع المستهدف، وتوقع فيه أفدح الخسائر.

وحسب معلومات أجهزة المخابرات الإسرائيلية، فإن "الحفارين" الفلسطينيين المتخصصين بحفر الأنفاق يعتادون النزول لباطن الأرض بعد فترة طويلة من عدم شربهم الماء حتى لا يعرقوا، فالعرق قد يتسبب بانهيار النفق أثناء العمل، ويتم الحفر بشكل عام بواسطة جهاز ميكانيكي وليس كهربائيا حتى لا يصدر ضجيجا.

يرتكز جهاز الحفر على سلسلة تشبه الدراجات الهوائية، حيث تقوم بتحريك قطع حديدية تحفر الرمل، وأثناء تشغيل الآلة يستلقي الرجل على ظهره، ويقوم بتحريك الدعاسات، ويتم الحفر بعضلات الأرجل وهي الأقوى في عضلات الجسم، وتمكن من الصمود طويلا.

ولضمان عدم حدوث انهيارات داخل النفق خلال وبعد حفره، غالبا ما يتم استخدام شكل مستطيل من الخشب المقوى لمنع حدوث انزلاقات رملية، وقد دفع ذلك الجيش لوصف الأنفاق بأنها "أنبوب الأكسجين للنشاطات المعادية"، وجعلته في حيرة من أمره!

وتبدو ظاهرة الأنفاق المشكلة رقم واحد للجيش الإسرائيلي في غزة، ورغم أنه يعرف عن الأنفاق التي يجري حفرها، لكنه لا يتمكن من العثور إلا على بعضها فقط، مما يعني أن نجاح حماس في تنفيذ عمليات الأنفاق لم يكن صدفة، فهذا النوع من العمليات يعتبر نتيجة لإعداد دقيق وطويل: هجوم متعدد المراحل عمل عليه عشرات النشطاء، وتعكس العملية مشكلة الاستخبارات الإسرائيلية، لأن الأنفاق وضعت على نحو متأخر في مكان عال في سلم أولويات المخابرات التي وجدت صعوبة في أن توفر للجيش معلومات نوعية.

حرب في الظلام
دفعت أعمال التطوير المفاجئة في تقنيات المقاومة التي تجلت في حرب الأنفاق، المراسل العسكري "روني دانيئيل" في التلفزيون الإسرائيلي للقول: "يبدو أننا خسرنا صراع الأدمغة في مواجهة حماس"، واتهم محللون عسكريون الجيش الإسرائيلي بالبطء والتأخر في البحث عن الحلول التكنولوجية والميدانية الملائمة لمشكلة الأنفاق وتطبيقها، رغم أن قادته أخذوا يتحدثون عنها منذ مدة من الزمن، باعتبارها سلاحا "يخرق التوازن"، وقد يخرج الجيش في غزة عن أطواره واتزانه، لكن هذا الأمر لم يقُد إلى "خياطة البدلة الملائمة لمواجهة تهديد الأنفاق".

وعلق المراسل العسكري "عاموس هريئيل" في تعقيبه على حرب الأنفاق قائلا: إذا كان ثمة شيء بات واضحا تماما في الحرب الطويلة التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين، فهو ضرورة إبداء الحذر وضبط النفس عند الحديث عن نجاحات عسكرية تنفيذية، لأنه ما من انتصارات كبرى في هذا الصراع، ولا حتى حاسمة.

على ذات طريقة استعراضها للعمليات الاستشهادية، تتناول الصحف الإسرائيلية موضوع الأنفاق تحت عناوين تشخص إخفاق إسرائيل في حرب الأنفاق:

أسدى الكثير من الخبراء العسكريين النصائح لقيادة الجيش، ومن أهمها إرسال خبراء عسكريين إسرائيليين إلى فيتنام للتدرب على مكافحة إحباط عمليات الأنفاق بعد تكرارها، حيث يمتلك الفيتناميون خبرات كبيرة في حفر الأنفاق خلال حربهم ضد الولايات المتحدة الأميركية

– الجيش الإسرائيلي يتحسس طريقه في الظلام!
– حماس تسجل نجاحا عسكريا ميدانيا فاق كل التوقعات!
– إرهاب الأنفاق: ضربات من تحت الأرض!
– حرب الأنفاق: إنجاز معنوي لحماس يوازي تفجير المجنزرات!

قيادة الجيش الإسرائيلي استنفرت وحداتها للبحث عن حل عسكري للأنفاق، مما دفع بالعقيد "تسفيكا فوكس" من سلاح المشاة لأن يؤكد أن الحل الحقيقي هو تكنولوجي، فالحل الخيالي بأن تقوم طائرة من دون طيار بالتصوير عن طريق الأشعة السينية لسطح الأرض وتكشف الأنفاق، قد لا يكون موجودا في الفترة القريبة.

وأسدى الكثير من الخبراء العسكريين النصائح لقيادة الجيش، ومن أهمها إرسال خبراء عسكريين إسرائيليين إلى فيتنام للتدرب على مكافحة إحباط عمليات الأنفاق بعد تكرارها، حيث يمتلك الفيتناميون خبرات كبيرة في حفر الأنفاق خلال حربهم ضد الولايات المتحدة الأميركية.

وبعد كل هذا البحث، وبعد إعمال مئات المختصين فكرهم في محاولات للتوصل إلى بارقة أمل تكنولوجية تمكن من تحديد الأنفاق وتدميرها، جاءت الإجابة: نحن مضطرون للاعتراف بأنه لا يوجد لدى الجيش حل سحري لمشكلة الأنفاق! رغم استخدامه أسلوبا آخر تمثل بإضافة خراطيم المياه لتدمير الأنفاق، ففي اعتقاد الجيش أن هذه الخراطيم ستحدد مكان النفق، وستتغلغل المياه إلى داخله، ثم تؤدي إلى انهياره.

وتفاقمت حدة مشكلة الأنفاق للجيش الإسرائيلي خلال الحرب الأخيرة على غزة، وقد تكون عنوان الحرب القادمة الآتية بالضرورة، ووصلت إنذارات ساخنة جدا للأجهزة الأمنية مفادها أن قوى المقاومة تخطط لنوع جديد من العمليات، وأهمها محاولة بناء أنفاق لاستخدامها في عمليات تفجير، وأنفاق أخرى لتهريب استشهاديين من تحت الجدار الفاصل على حدود قطاع غزة.

ولمواجهة ذلك نقلت إسرائيل موارد خاصة شملت إضافة وسائل استخبارية تكنولوجية جديدة، وجرافات ضخمة ذات قدرة عالية على تحديد الأنفاق، وآليات حفر تحت الأرض.

لعبت الأنفاق الدور الأكثر محورية في استنزاف الجيش الإسرائيلي وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد العسكري، عبر العمليات الهجومية التي فاجأت وحدات النخبة، وجرعتها طعم الهزيمة والانكسار في أحياء: التفاح والشجاعية وشرق خان يونس ورفح وبيت حانون، فضلا عن عمليات التسلل خلف خطوط العدو التي نفذتها المقاومة باقتدار كبير واحترافية عالية من خلال أنفاق متوسطة المدى استهدفت مواقع عسكرية في المستوطنات والمناطق القريبة من قطاع غزة، وأسفرت عن مقتل وجرح الكثير من جنود الاحتلال.

حلول فاشلة
يتجول مقاتلو حماس داخل أنفاق غزة وهم يرتدون زيا أسود ومسلحين ببنادق آلية، يسيرون بسلاسة، ويشعرون أنهم في بيوتهم وهم داخل شبكة الممرات الواقعة تحت أرض القطاع، فهذه أنفاق حفروها، وبنوها بأيديهم، ويعيش المقاتلون في الأنفاق براحة وطمأنينة كبيوتهم، والسقف في أجزاء من النفق مرتفع بما يكفي لأن يشق المقاتلون طريقهم فيه دون أن يحنوا رؤوسهم، والأرض جافة في أجزاء وموحلة في أجزاء وإسمنتية في أخرى، ويبدو من الصعوبة معرفة طول كل نفق، لكنها تتفرع في اتجاهات مختلفة، وبمجرد الدخول إل النفق لا تسمع أصوات حركة المرور والطائرات التي تحلق، وهي تحوم فوق القطاع.

لا تخفي قيادة الجيش الإسرائيلي خشيتها من أن توظف كتائب القسام الأنفاق الممتدة من قطاع غزة لما وراء الحدود مع إسرائيل، في عدد من السيناريوهات المتوقعة:

1- التسلل خلف خطوط الجيش أثناء توغله في القطاع، والهجوم على مؤخرة القوات الغازية.
2- استخدام الأنفاق في تسهيل عمليات خطف الجنود.
3- انطلاق عناصر القسام عبر الأنفاق لتنفيذ عمليات في قلب التجمعات الاستيطانية، مع تواصل العمليات العسكرية في القطاع.

ربما تعتبر عبارة "العنكبوت المتفرع الأذرع"، واحدة من عبارات عدة أدخلتها أنفاق غزة لقاموس الجيش الإسرائيلي، بعد أن فوجئ بضخامتها وكثرتها، واضطر للعمل عشرات الساعات المتواصلة حتى وصل إلى فتحات ضخمة

صحيح أنّ الجيش الإسرائيلي دمّر عددا منها، لكن الأنفاق الإستراتيجية لم تصب بسوء، وتعمل بكامل جهوزيّتها اللوجستيّة، من حيث مخزون الماء والأغذية والأسلحة، وهي مزوّدة بنظام للتهوية وبخطوط للكهرباء، ولذلك فإن ما تمثله الأنفاق من نقطة قوة لمقاتلي حماس تبرز إذا دخل الجيش في قلب غزة لأنها منتشرة تحت كل شارع وزقاق فيها، مما يضيف أوراق قوة جديدة لكتائب القسام، ويعمق الأزمة العسكرية الإسرائيلية، ويخلق مشكلات أمنية لا حصر لها أمام جيشها.

المعلق السياسي الإسرائيلي الأبرز "ناحوم برنياع" نقل شهادات الجنود عن حرب الأنفاق، حيث لم يعد تراب قطاع غزة -اللين الذي استولت عليه جنازير الدبابات وناقلات الجنود المدرعة والحفارات والجرافات الضخمة- غبارا، بل أصبح "بودرة"، وعملت جرافة عسكرية تكشف عن الخنادق والأنفاق التي تفرعت من البئر على منظومة آبار، "هذه حرب الآبار"، ووجد الجنود المظليون عشرات مواقع القتال المرتبطة بعدد من الأنفاق التي لا تطاق.

وربما تعتبر عبارة "العنكبوت المتفرع الأذرع" واحدة من عبارات عدة أدخلتها أنفاق غزة لقاموس الجيش الإسرائيلي، بعد أن فوجئ بضخامتها وكثرتها، واضطر للعمل عشرات الساعات المتواصلة حتى وصل إلى فتحات ضخمة، وباتت الأنفاق كالشجرة الكثيرة الغصون، تتفرع على امتداد كيلومترات طويلة، بعضها حربية داخلية، وأخرى هجومية باتجاه الكيان الإسرائيلي.

أخيرا.. قد تكون العبارة الختامية الأكثر ملاءمة لهذه السطور تكمن فيما ذكره الرئيس السابق لقسم التاريخ في الجيش الإسرائيلي "شاؤول شاي"، صاحب كتاب "الحرب تحت الأرضية والتحديات الهامة لقواتنا"، وجاء فيه: آجلا أو عاجلا ستتحول الأنفاق إلى المشكلة المركزية أمام الجيش الإسرائيلي بالاعتماد على التجربة التاريخية، مستشهدا بالفشل الذي منيت به القوات الأميركية في فيتنام لمواجهة تحدي الأنفاق الذي استخدمه محاربو "الفايتكونغ" جنوب فيتنام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.