تونس من تحصين دولة الثورة إلى تحصين دولة الفساد

صورة 1: البرلمان التونسي يستعد للنظر في مشروع قانون المصالحة/العاصمة تونس/جوان/يونيو 2015
الجزيرة

ربيع بين مد وجزر
تيقظ الوعي الثوري
أزمة الجوار الإقليمي

الكل المتعدد عربيا أو إقليميا أو دوليا -كحال مهد الربيع تونس– يشير دائما إلى الدلالة نفسها وإلى المعنى نفسه، فالمتعدد واحدٌ في نهاية المطاف مهما تحولت زاوية المقاربة وشبكة القراءة، أو تغيرت آليات تنفيذ الدلالة وإستراتيجيات إنجازها.

الجرائم مختلفة والفوضى متنوعة والأحداث عديدة وآلياتها مستحدثة، لكن دلالتها واحدة وهدفها فردٌ أحدٌ مهما تباينت جولات الصراع وساحاته. المعركة بين منوالين لا ثالث لهما: الثورة من ناحية وإنجاح المسار الانتقالي بشعارات ١٧ ديسمبر الخالدة بالقضاء على "عصابة السراق"، والثورة المضادة من ناحية ثانية المسلحة بمهمة إعادة النظام القديم.

الصراع بين الثورة الحاملة إرادة الأمة في النهضة ووعي مستضعفيها بجرائم النهب وبحجم السقوط وخيانة النخب، وبين الثورة المضادة المسلحة بكل أدوات الموت وبغطاء شركات النهب العالمية والمتدثرة بأكذوبة الاعتراف الدولي وبتواطؤ تجار المقاومة ونخاسي الشعارات.

ربيع بين مد وجزر
"قانون المصالحة الاقتصادية" الذي يمثل تمريره على مجلس "نواب الشعب" مطمحَ مطامح العصابات المحلية التي خربت الاقتصاد وألغت السيادة الوطنية طيلة عقود، سيسمح بتبييض كل اللصوص ورجال العصابات بمباركة الحزب "الإسلامي" شريك "جماعة بن علي" في الحكومة.

"قانون المصالحة الاقتصادية" الذي يمثل تمريره على مجلس "نواب الشعب" مطمحَ مطامح العصابات المحلية التي خربت الاقتصاد وألغت السيادة الوطنية طيلة عقود، سيسمح بتبييض كل اللصوص ورجال العصابات بمباركة الحزب "الإسلامي" شريك "جماعة بن علي" في الحكومة

"قانون الإرهاب" الجديد الذي لم يعارضه نائب واحد تحت قبة "برلمان الانقلاب" يدفع بخطوة جديدة نحو إعادة جدار الخوف والترهيب الذي دكت أعمدته قرى "سيدي بوزيد" و"القصرين" و"تالة" وأحزمة الفقر التونسية المناضلة.

المد والجزر بين قوى الثورة ومخالب الثورة المضادة هي السمة المميزة للمشهد التونسي المحكوم هندسيا بامتدادات جواره الإقليمي والمتأثر وظيفيا بأصداء المعارك الكبرى في حيز الربيع -بشكل خاص ليبيا– والتطورات الأخرى في المنطقة المشرقية، وعلى رأسها مجازر سفاح الشام في "أطفال دوما"، ومهازل المشهد المصري البائس عبر احتفالات الخنادق والمجاري.

فمن وجهة أولى لم تنجح كل المحاولات الانقلابية المباشرة التي عرفتها البلاد في السنوات الأربع الأخيرة بشكل تام في محاولة استنساخ النموذج المصري أو جرّ البلاد نحو خيارات الفوضى المتعددة، لكن ذلك لا يعني أن الثورة المضادة لم تحقق نجاحات مهمة لم تكن تتوقعها عبر إرباك الجبهة الثورية، مستفيدة من ثلاثة فواعل أساسية:

أولها: تشرذم القوى "الوطنية" المحسوبة على المعارضة، حيث عرّت الثورة زيف الخطاب المعارض ونرجسية قياداته، وكشفت تحالف جزء كبير منه سواء مع الدولة العميقة أو مع السفارات الأجنبية أو مع وكلاء مصالح الشركات العابرة للقارات من رجال الأموال المحليين والنقابات الانقلابية المسلحة وغير المسلحة من التي دمرت خطوط الإمداد الاقتصادي للمسار الانتقالي الثوري.

فالنخب السياسية التونسية بكل أطيافها -باستثناء قواعدها الصادقة والمغيبة في آن- جزء أساسي من النظام الاستبدادي نفسه وحجر أصيل في مشروع الإيهام بالمعارضة والإيهام بالمقاومة والوطنية. هذا التصنيف يشمل قيادات التيارات المحافظة المتلحفة بالمرجعية الدينية والمشاركة في الحكم جنبا إلى جنب مع "رجال بن علي" بحجة "التكتيك و"الحكمة"، ويشمل قيادات الأحزاب اليسارية المتاجرة بهموم العمال والشغالين، وكذلك نخب الأحزاب القومية المساند الرسمي لكل الطغاة والمستبدين العرب والذراع الخفية للمشروع الإيراني في المنطقة كلها عبر كتائبها الثابتة والمتنقلة.

أما النخب الليبرالية -أو الرمادية- فكانت دائما وفية لمبدأ الربح والخسارة البوصلة الأساسية لنزوعها الفطري نحو السلطة والمال والنفوذ بذريعة البراغماتية والواقعية السياسية.

الفاعل الرئيسي الثاني هو الانكشاف الخطير لدور "إعلام العار التونسي" -كما يسميه النشطاء في المجال الافتراضي- حيث تحوّل هذا المرفق الوطني من أداة لتحقيق السلم الاجتماعي وتثبيت السيادة الوطنية إلى منبر نشط للخطاب الانقلابي، ومنارة لبث الفرقة وتهديد النسيج الأخلاقي، ومعول من معاول هدم الهوية الوطنية ومحاربة القيم المشتركة للمجتمع والدولة. وهو دور دفع العديد إلى اعتبار المرفق الإعلامي خطرا حقيقيا على السيادة الوطنية، وجزءا لا يتجزأ من مشروع الانقلاب المعادي للثورة ومسارها.

ففي الوقت الذي يرتكب فيه "سفاح دوما" مثلا أبشع جريمة بشرية بقصف المئات من المدنيين العزل في الأسواق تُعنون صحف المخابرات البعثية الإيرانية في تونس صفحتها الأولى بقصة غرام السفاح بزوجته، بل إن من المنابر ما أصبح مدافعا عن التعذيب ومشرّعا له، وهو السلوك العائد بقوة إلى زنزانات الإيقاف التونسية بعد الثورة.

الفاعل الثالث هو انحسار "الموجة الثورية الأولى" عربيا، حيث مثّل الانقلاب المصري انتكاسة كبيرة للمسار الثوري العربي عامة وللثورة التونسية بشكل خاص، وكذلك تراوح المشهد في ليبيا، وتواصل مجازر النظام الطائفي الإيراني في سوريا.

اليوم تتفتق العبقرية المحلية في تونس عن "فكرة صهيونية"، وهي مشروع "جدار العار" بين الشعب الواحد في جريمة جديدة لم يعرف لها تاريخ المنطقة مثيلا، ولم تجرؤ عليها كل القوى الاستعمارية التي مرت على أرض المغرب العربي

هذا الانحسار الطبيعي أسهم في تيقظ مخابر الثورة المضادة وغرف عملياتها عربيا ودوليا من أجل تكريس نسخة معدلة من الأنظمة الاستبدادية. وليس الدعم الدولي السخي لبقايا الاستبداد العربي في مصر وسوريا مثلا أو تشجيع الهياكل والبُنى الانقلابية في تونس وليبيا واليمن إلا الوجه الآخر لحجم المؤامرة على إرادة التحرر عند الشعوب بشكل يفضح نفاق الشعارات الدولية وأكاذيب حقوق الإنسان، ويلغي من الوعي العربي شعارات الديمقراطية والحرية و"مسؤولية الحماية" التي لا تشمل أطفال "دوما" ولا متظاهري "رابعة".

تيقظ الوعي الثوري
حملة "وين البترول" (أين النفط) التي اكتسحت الفضاء الافتراضي ولا تزال مؤشرٌ حقيقي على تحول جديد في الوعي الشعبي العام، وهو جزء من الوعي الذي صنع ثورة ١٧ ديسمبر وأجبر "بن علي" على الهرب.

الحملة تحولت بسرعة من حملة افتراضية إلى حملة واقعية تجند لها الآلاف من الشباب التونسي الصادق الذي أيقن أن جوهر الصراع هو الثروة الوطنية، وأن الأنظمة الاستبدادية العربية ليست في خاتمة المطاف إلا حارسا أمينا لشركات النهب الدولية.

الدولة العميقة سرعان ما كشرت عن أنيابها القديمة، وكانت مشاهد القمع في شارع الثورة لا تختلف عن مشاهد قمع الثوار خلال الأيام الأخيرة لحكم "بن علي". أما على المستوى الإعلامي فقد حركت الثورة المضادة كل أذرعها المكتوبة والمرئية والمسموعة من أجل "شيطنة" الشارع في استنساخ حرفي لردود أفعال النظام المنهار مفعلة في ذلك آليتين رئيسيتين:

تتمثل الأولى في تفعيل آلية "المؤامرة الأجنبية" على دولة الحداثة التونسية وتهديد مكاسب الدولة المعاصرة التي انقشعت عن أكثر النماذج التنموية فسادا وليست حوادث القطارات الدامية وانهيار المنظومة التعليمية والصحية وانحسار منظومة القيم الاجتماعية إلا خير دليل على زيف دولة الاستقلال دولة اللوبيات والفساد المنظم التي ما زال أطفال الأرياف فيها يشربون من الأنهار والأودية الملوثة بالنفايات السرطانية.

أما الآلية الثانية فهي الأكثر فعالية، لأنها تندرج في سياق عالمي ملائم، وهو الحرب على "الإرهاب الإسلامي"، لأنها تضمن استعادة دائرة الخوف، وتطلق يد القمع القديمة من جديد، وليس "قانون الإرهاب" الأخير إلا فصلا جديدا من فصول تكميم الأفواه قانونيا وعبر الوسائل "المعترف بها دوليا".

أزمة الجوار الإقليمي
في الوقت الذي تنشط فيه الدبلوماسيتان المغربية والجزائرية من أجل التوسط في صراع الإخوة بالجارة ليبيا -وهي عمق تونسي بامتياز- تنشط الخارجية التونسية في خلق كل أنواع الأزمات الخارجية عبر تصريحات لا مسؤولة لوزيرها مع الجارة ليبيا دون مراعاة واقع الأرض، حيث تعيش نفس العائلات والقبائل ولا يفصلها عن بعضها غير خطوط الرمال التي خطتها المعاهدات الاستعمارية وكرّسها النظام الإقليمي العربي.

نفس الوزير لم يتردد في اتهام دولة عظمى بتمويل الإرهاب ودعمه بشريا عبر حادثة "تأشيرة الجهاد" الشهيرة إلى تركيا. اليوم تتفتق العبقرية المحلية بتونس عن "فكرة صهيونية" وهي مشروع "جدار العار" بين الشعب الواحد في جريمة جديدة لم يعرف لها تاريخ المنطقة مثيلا، ولم تجرؤ عليها كل القوى الاستعمارية التي مرت على أرض المغرب العربي.

الأخطاء القاتلة التي ترتكبها النخب الحاكمة في تونس مدفوعة بأموال عصابات النهب والدول الراعية للانقلابات من خلال قوانين تبييض الفساد وبيع البنوك العمومية والتفويت في الثروات الوطنية هي التي ستُبقِي شروط التغيير الاجتماعي قائمة مهما حاول "إعلام العار" تزييفها ونسفها

أضف إلى ذلك ما ذكرته مصادر كثيرة عن مشروع القاعدة العسكرية الأميركية ومنصة التجسس التي وترت العلاقات بين تونس والجزائر في المدة الأخيرة.

لكن في المقابل، تُبرَم مع القوى العظمى نصوص غامضة لم تعرض تفاصيلها على وسائل الإعلام ولا على مجلس النواب، وليست الاتفاقيات الأخيرة مع الولايات المتحدة الأميركية وكل الغموض الذي أحاط بها إلا مؤشر جديد على جدية المسار الانقلابي على الثورة التونسية.

كذلك البيان الخطير لمنظمة "أنا يقظ" المدنية التي اتهمت فيه الدولة التونسية باستباحة البيانات الشخصية لمواطنيها بناء على تقرير منظمة العفو الدولية الصادر في شهر يونيو/حزيران ٢٠١٥، الذي اعتبر تونس دولة "تتقاسم بشكل تلقائي مع وكالة الأمن القومي الأميركي المعطيات الشخصية لمواطنيها".

وهو أمر على قدر كبير من الخطورة، وسابقة في تاريخ تونس، تواجهها الدولة بالسكون المتواطئ، مما يضع كثيرا من نقاط الاستفهام على دور مؤسساتها وقد صاحب ذلك صمت مريب من مجلس "نواب الشعب" رغم الخرق الواضح لنص الدستور وفصوله السيادية.

اليوم يتجه المسار العام على مستوى السطح نحو استعادة المنظومة القديمة بشكل أكثر قبولا وأقل إثارة واستفزازا للمشاعر الثورية، خاصة بعد قبول جميع الفصائل السياسية بكل مطالب الدولة العميقة من أجل التطبيع مع السلطة واستجداء القبول الدولي.

لكن الأخطاء القاتلة التي ترتكبها النخب الحاكمة في تونس مدفوعة بأموال عصابات النهب والدول الراعية للانقلابات من خلال قوانين تبييض الفساد وبيع البنوك العمومية والتفويت في الثروات الوطنية هي التي ستُبقِي شروط التغيير الاجتماعي قائمة مهما حاول "إعلام العار" تزييفها ونسفها.

هذه الشروط الاجتماعية أساسا -لا السياسية- هي التي ستمنح الوعي الشعبي المتربص القدرة على إتمام الثورة وتفعيل الموجات الجديدة التي ستحقق حتما الأهداف التي من أجلها سقط شهداء الوطن ودفع عبرها الفقراء والمعطلون من أحرار الوطن كل ما يملكون وما لا يملكون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.