جريمة "القديح".. السعودية عصية على الطائفية

People examine the debris after a suicide bomb attack at the Imam Ali mosque in the village of al-Qadeeh in the eastern province of Gatif, Saudi Arabia, May 22, 2015. A suicide bomber killed 21 worshippers during Friday prayers in the packed Shi'ite mosque in eastern Saudi Arabia, residents and the health minister said, in an attack claimed by the Islamic State militant group. REUTERS/Stringer

إذكاء الفتنة الطائفية
ضرورة تجريم الطائفية
الخط أحمر

فجعت السعودية بحادث إجرامي إرهابي يوم الجمعة 22 مايو/أيار 2015، استشهد فيه 21 مواطنا سعوديا وأصيب ما يزيد على الثمانين من المصلين الأبرياء، حيث تعرض مسجد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وكرم وجهه- في بلدة القديح بمحافظة القطيف (شرق السعودية)، لعملية إرهابية بشعة، استخدمت فيها مادة "آر.دي.إكس" الشديدة الانفجار.

وقد شيع هذا العمل الجبان باستنكار ضخم، وصدرت الإدانات المجتمعية والرسمية، وهرع الناس للتبرع بالدم في عدة مناطق سعودية، وأظهروا تلاحما وطنيا رائعا، وتبادلوا العزاء بمختلف طوائفهم المذهبية وفئاتهم الاجتماعية.

وقد أعلنت وزارة الداخلية السعودية أن مقترف جريمة القديح هو صالح بن عبد الرحمن القشعمي المنتمي إلى خلية إرهابية تابعة لما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)، وهي الخلية التي اقترفت جرما قبل عدة أيام، استشهد فيه جندي سعودي (هو البطل ماجد عائض الغامدي). ومن المفارقات التي تبين كارثية التفكير لدى هؤلاء الإرهابيين، أنهم حينما اقترفوا جريمة قتل هذا الجندي أحرقوا جثته بطريقة شنيعة، ثم نشب بينهم خلاف حول مدى جواز تصوير "الجريمة"!

وحينما نحلل فكر تنظيم الدولة وخطابه وممارساته، فإنه يسعنا القول بأن فكره يؤسس "لعدمية مطلقة"، في قوالب وحشية مبررة لدى أتباعه الذين يتوفرون على سقوف مرتفعة من "الانصياعية الفكرية"، مما يجعل المتورطين بهذا الفكر يُقدِمون على أفظع الجرائم بمَضاء مرعب. ولنا هنا أن نتساءل: ما الهدف من وراء هذه الجريمة النكراء في السعودية في هذا التوقيت بالذات؟

إذكاء الفتنة الطائفية
من أخطر الملفات التي تعمل بعض الأطراف على تأزيمها في منطقتنا وعالمنا العربي "ملف الطائفية"، ولا سيما بعد تنامي الخطابات الدينية المتشددة (ومن أبرزها السلفيات السنية والشيعية والصوفية..) التي تكفر بالتعددية ولا تؤمن بغير إقصاء الآخر ونسفه. وقد أفلحت تلك الأطراف -بكل أسف- في تفجيرها في عدد من الدول كالعراق وسوريا واليمن ولبنان.

حينما نحلل فكر تنظيم الدولة وخطابه وممارساته فإنه يسعنا القول بأن فكره يؤسس لعدمية مطلقة، في قوالب وحشية مبررة لدى أتباعه الذين يتوفرون على سقوف مرتفعة من الانصياعية الفكرية، مما يجعل المتورطين بهذا الفكر يُقدِمون على أفظع الجرائم بمَضاء مرعب

ومن الجلي أن الهدف الرئيسي لهذا العمل الإرهابي في بلدة القديح العزيزة هو توريط السعودية في حبائل الطائفية. ومع تورط التنظيم الإرهابي لداعش في هذه الجريمة القبيحة، فإننا نسارع إلى القول بأنه ليس تنظيم داعش "السني" فقط هو من يروم تحقيق مثل هذا الهدف الحقير، فقد أظهرت عدة أطراف إقليمية ودولية الرغبة في إيجاد بيئة مواتية لفيروسات الطائفية.

ويصعب أن نتجاوز تسمية "دولة الملالي" (إيران) وأذرعها كحزب الله والمليشيات الشيعية المتطرفة، فهم يتحدثون بشكل سافر وفي غير مناسبة عن ما يسمونه "تصدير المعركة إلى الدول الأخرى"، وبخاصة بعد نجاح السعودية في قيادة "عاصفة الحزم" وما بعدها، والسعي إلى لملمة الوضع العربي والإسلامي، في ضوء رؤية سياسية ذات أفق متسع، وعمل دبلوماسي احتوائي متوازن.

إذن، ذاك هو الهدف، فهل يفلحون في مثل هذا المبتغى الدنيء؟ بكل جزم، أقول بأنه يتعذر عليهم تحقيق ذلك، فالسعودية ليست عربة يسهل جرها إلى "مستنقع الطائفية"، بل هي دولة كبيرة مستقرة، وهي تجسد نموذجا للتعايش والاندماج الاجتماعي بين أطياف اجتماعية ومذهبية لعقود طويلة جدا، مما أوجد نسيجا وطنيا ووحدة وتلاحما.

ولا يعني هذا البتة أن النموذج السعودي نموذج مثالي أو أنه ليس ثمة هوامش كبيرة للتحسين والتدعيم، أو أن مثل هذا الاندماج لا يحتاج إلى عمليات تقوية وصيانة مستمرتين، كلا، فالاندماج في أي مجتمع يفتقر إلى عمل مجتمعي دؤوب، بل إلى "هندسة اجتماعية ذكية" تتخلق من خلالها أفكار تأسيسية قارة في الوعي، ومجذرة لضرورات الاندماج بل حتميته التاريخية والاجتماعية والإنسانية، في سياق يؤمن بالتعددية الدينية والثقافية، ويحسن في تعضيد الهوية الوطنية.

والمنهجية العلمية تقضي بالتقرير بأن الطروحات الدينية المتشددة (الممثلة بالسلفية في الرواقين السني والشيعي على وجه التركيز) مهددةٌ للاندماج الاجتماعي، حيث تؤسس هذه الطروحات لفكر إقصائي متطرف يتجاوز الاختلافات المذهبية ذات الطابع الديني المجرد، ليصل إلى صناعة "أنساق تكفيرية مغلظة"، وذلك أنها تتجه إلى نوع من "التكفير الشامل" لعموم المخالفين أو أكثريتهم الساحقة، مع ترتيب ما يسمونها "العقوبات المستحقة للمرتدين".

ومثل هذه الطروحات موجودة، وهي تنمو للأسف الشديد داخل الرواقين، وقد رأينا شواهد تؤكد وجودها في مسرح جريمة القديح، والسياق هنا لا يسعف للإطالة في هذا المسار.

ضرورة تجريم الطائفية
التحليل السابق يؤكد على ضرورة التقدم خطوة من أجل الوفاء بمقوم رئيسي من مقومات "الدولة الحديثة" -دولة القانون والمواطنة- والمتمثل في البعد القانوني، فالحاجة تمس إلى إيجاد تشريعات واضحة وصارمة لتجريم أي طروحات تؤدي إلى تأجيج الطائفية في أي بلد عربي، من أي مصدر كان، فالمتطرفون لا يَكفُ أذاهم إلا القانون والعقاب الصارم.

ويحظى هذا الموضوع بقبول مجتمعي متنام في السعودية، حيث طرحه ويطرحه كثير من المثقفين والباحثين والمغردين السعوديين (كنت أحد هؤلاء وذلك قبل عدة سنوات)، وقد تناول مجلس الشورى السعودي أيضا مسألة تجريم الطائفية بجانب القبائلية والمناطقية، وقد نسمع قريبا خبرا جيدا عنه، فتجريم الطائفية بات ضرورة ملحة لإيقاف ألسنة المتشددين وتهشيم تروسهم الصدئة التي يحركون بها عقول البسطاء، لتقتات على التكاره والتشاحن والتلاعن.

الخط أحمر
لا يسوغ إطلاقا الاعتقاد بأن هذا المصاب في القديح يخص طائفة معينة (الشيعة تحديدا)، بل هو مصاب الوطن كله، فنحن كلنا متوجعون متألمون للأرواح البريئة التي أزهقت وأصيبت، والأمر يحتم علينا جميعا النأي عن أي طرح من شأنه تأجيج المشاعر السلبية أو المس بوحدة الوطن وأمنه واستقراره، بأي شكل كان.

من الضروري التقدم خطوة من أجل الوفاء بمقوم رئيسي من مقومات الدولة الحديثة المتمثل في البعد القانوني، فالحاجة ماسة لإيجاد تشريعات واضحة وصارمة لتجريم أي طروحات تؤدي إلى تأجيج الطائفية في أي بلد عربي، من أي مصدر كان

وفي هذا الاتجاه، نعبر عن استيائنا الشديد للطروحات الموتورة لبعض المراجع الشيعية السعودية كالدعوة إلى تأسيس ما أسموه "الحشد الشعبي" (أو "اللجان الشعبية") أسوة بما يحدث في العراق وغيره، وهذا خط أحمر، إذ لا يمكننا البتة القبول به. وقد لاقى هذا الطرح استهجانا كبيرا في الداخل السعودي، فالإرهاب ضرب -وما يزال- عدة مدن سعودية، فهل يسمح لسكان هذه المدينة أو تلك بالمطالبة بتأسيس "أذرعة أمنية" خارج نطاق أجهزة الأمن الوطنية؟ قطعا، هذا لا يُتصور إطلاقا، ولم يقل به أحد من قبل.

ولذا فإنني أشدد على أهمية وجود إنكار قوي وبقالب صريح لا مواربة فيه، من قبل كافة الإخوة الشيعة -بمختلف أطيافهم ووظائفهم الدينية والثقافية والمجتمعية والرسمية- لمثل هذه الطروحات الخطرة التي تعزف نشازا على أوتار الطائفية البغيضة، فالأمن جهاز وطني متكامل واحد، وهو يخدم الجميع ويحمي الجميع، وهذا هو المعمول به.

ومثل هذه الأفكار السوداء يتم طرحها وتداولها في شبكات التواصل الاجتماعي كبعض المعرفات المتطرفة في تويتر مثل: أحرار القطيف، والقطيف مباشر، ولا نعلم مصدر هذه المعرفات، مع غلبة الظن أنها تدار بأذرع إيرانية، فلغتها فجة متشنجة.

إن كلمة العقل والاتزان والإنصاف لها قيمتها، فقط إن قيلت في وقتها، مع توخي المصلحة الوطنية العليا في دلالاتها وحروفها ونبراتها.

وفي ختام هذه المقالة، أسوق مقولة معبرة لدانتي في "الكوميديا الإلهية" حيث يقول: إن أشد الأماكن حرا في جهنم محجوزة لأولئك الذين يقفون على الحياد في أوقات الأزمات الكبرى! وأعيد مقولتي بأن: السعودية ليست عربة يسهل جرها إلى "مستنقع الطائفية"، بل هي دولة كبيرة مستقرة، متنعمة باندماج اجتماعي جميل، يبهج الأصدقاء ويهيج الأعداء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.