هل أسقطت "السلفيةُ الشيعيةُ" النخبةَ الشيعيةَ؟

المليشيات تقتحم المنازل في ديالى

جرائم توجب المكاشفة
توحش "السلفية الشيعية"
المثقف الشيعي "المعمم"
التضحية الواجبة
نحو احتواء النخبة

هل أسقطت "السلفية الشيعية" النخبة الشيعية؟ بكل مرارة أقول: نعم، أسقطت الأكثرية. وحينما أقول "الأكثرية" فهذا يستلزم عدم التعميم، إذ ثمة مثقفون شيعة يمارسون نقدا صارما لـ"السلفية الشيعية" في قوالب مختلفة، كتبا ومقالات ومحاضرات وطرحا في شبكات التواصل الاجتماعي، وهم ينتمون لعدة أقطار عربية. وأحسب أن كثيرين يعرفون لهؤلاء المثقفين الحقيقيين نبلهم وصدقهم في ممارسة النقد العلمي الواجب تجاه الظواهر والإشكاليات (ولكيلا أنسى البعض فسأعرض عن سوق الأسماء).

وبدهي أن إجابتي لا تنصرف إلى مثقفي التيارات الشيعية المعتدلة أصلا، كالتيار الشيعي العروبي في لبنان وبعض دول الخليج العربي، فهؤلاء "يغردون دائما خارج النسق"، وهم محل فخر واعتزاز. إذن الإجابة التي صدّرتُ بها المقال (نعم)، تنصرف لمن؟

نعم "المرّة" -في إجابتي- تنصرف إلى أكثرية في "النخبة الشيعية"، وذلك أنهم يخفقون المرة تلو الأخرى في نقد "السلفية الشيعية"، لدرجة أننا لا نرى تجريما لخطايا السلفية الشيعية وعنفها وإرهابها المتنامي داخل "النسق الشيعي"، ولا سيما أن "الذاكرة الجمعية للسلفية الشيعية" استمرت بالعزف النشاز على "أوتار المظلومية" وتأجيج نيران التكاره والتباغض، الأمر الذي قد يجعل الحاضنة الاجتماعية الشيعية -وهذا مكمن الخطر- حاضنة للعنف والإرهاب الطائفي التي تمارسه السلفية الشيعية في عدة أقطار عربية، مبررة ذلك بحماية الطائفة وأهدافها ومصالحها من عنف "النواصب" و"الوهابيين" و"التكفيريين" وإرهابهم.

بعد أن طفحت جرائم "السلفية الشيعية" في أماكن كثيرة وبأقدار متعاظمة، فإنه لا يسعنا السكوت على مشهد نرى فيه إخفاقا بينا لعدد كبير من "النخبة الشيعية"، فبعضهم يدعم ويسوغ، وبعضهم يبرر برداء التفسير، وبعضهم الآخر يلوذ بصمت غير مقنع

فعلى سبيل المثال، يُظهِر تقرير حديث لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" بأدلة دامغة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في "العراق الجريح" من قبل مليشيات السلفية الشيعية كـ"فيلق بدر" و"جيش المهدي" و"جيش المختار" و"عصائب أهل الحق" و"لواء أبو الفضل العباس"، والتي تتغذى على "حليب الكراهية" من "الأم الإيرانية"، في رضاعة طبيعية وصناعية، لا ينقطع شؤمها ولا يفتر تحريضها.

جرائم توجب المكاشفة
بكل صراحة وشفافية، أقول بأنني ظللت فترة طويلة أرغب بنفسي عن معالجة هذا السؤال المحرج الذي بات يُطرح بوتائر متزايدة في الفضاءات الفكرية العامة والخاصة، على حد سواء.

ولم يكن الحامل لي على هذا النأي هروبا أو خوفا، بل كان قناعة شخصية بأن المثقف يقوم بدوره النقدي في أي فضاء فكري، ولا فرق بين سياق سني وشيعي، وذلك أن المثقف -عندي- لا بد أن يتسم بما أسميه بـ"الصدق الممنهج"، باعتبار ذلك سمة جوهرية للمثقف الحقيقي، فهو صادق في نفسه وصادق مع مجتمعه، وصدقه مُمنهج، وبهذا يفترق عن الإنسان العادي، الذي يكون صدقه غير ممنهج، لعدم امتلاكه أدوات منهَجَة الصدق.

أنا لست من أنصار التصنيف والتمييز بين المثقفين على أطر مذهبية أو طائفية، كالتصنيف والتمييز بين "مثقف سني" و"مثقف شيعي"، لإيماني بالأطر المدنية والثقافية في الدولة الحديثة، وأعني بها دولة المواطنة ودولة القانون ودولة التعدد، وهي الدولة المنشودة المفقودة في عالمنا العربي المعاصر.

وعلى الرغم من كل ما سبق بيانه، وبعد أن طفحت جرائم "السلفية الشيعية" في أماكن كثيرة وبأقدار متعاظمة، فإنه لا يسعنا السكوت على مشهد نرى فيه إخفاقا بينا لعدد كبير من "النخبة الشيعية" في أقطارنا العربية -وعلى رأسها الخليجية- فبعضهم يدعم ويسوغ، وبعضهم يبرر برداء التفسير، وبعضهم الآخر يلوذ بصمت غير مقنع البتة.

البعض منهم يكتب مقالا أو مقالين أو ثلاثة ويضمنها قدرا من "النقد المحتشم"، مع عدم تفويت الفرصة لفتح "باب المواربة التبريرية"، إن بشكل مباشر أو غير مباشر، مما يُفقِد الطرح لأي "منفعة فكرية" تذكر، فالسلفية الشيعية وحاضنتها الاجتماعية ستجد سبيلا للولوج من ذلك الباب، لتصل إلى باحة فسيحة من "التبرير المطلق" أو شبه المطلق، وهنا نكون إزاء معضلة تتفاقم، ككرة ثلج متدحرجة.

وفي هذا المقال، سأكشف النقاب عن جملة من الحقائق والمعطيات، التي تراكمت لدي عبر سنين، وقد تكون غائبة عن أذهان الأكثرية، وذلك أنها مهمة في التشخيص لهذه الإشكالية العويصة، ولتكن في عناوين ومحاور مختصرة.

توحش "السلفية الشيعية"
خضت في نقاشات معمقة ولعدة سنوات مع عدد من المثقفين الشيعة في دول الخليج العربي وبالذات السعودية، وتبين لي أن ثمة "ارتعابا" شديدا يعتري بعضا من أولئك المثقفين، فهم يخافون -كما أسروا لي بذلك- من "بطش السلفية الشيعية"، عبر "التهميش الاجتماعي" أو "النبذ الاجتماعي" أو "التضييق الاقتصادي"، وربما الإيذاء بالاعتداء أو الضرب، بل قد يصل إلى حد "التصفية الجسدية" -كشعور مُدرَك، وربما تعضده وقائع معيشة- وهذا مؤشر ينم عن "توحش السلفية الشيعية" في سياقاتها الاجتماعية.

"السلفية الشيعية" أسوأ من "السلفية السنية" في تقبلها للنقد، هناك نقد موجع من قبل عدد من مثقفي السنة لسلفيتهم السنية، دون أن يتعرضوا للأذى داخل محيطهم الاجتماعي، ومن المؤكد لدي أن غياب النقد الصارم أحد أكبر الأسباب الموصلة لهذه النتيجة الوخيمة

وهنا نجد أن "السلفية الشيعية" أسوأ من "السلفية السنية" في هذا الاتجاه، فثمة نقد موجع من قبل عدد من مثقفي السنة لسلفيتهم السنية، دون أن يتعرضوا للأذى داخل محيطهم الاجتماعي، وهذه شهادة حق للتاريخ. ومؤكد لدي بأن غياب النقد الصارم أحد أكبر الأسباب الموصلة لهذه النتيجة الوخيمة. ومثل هذه الملاحظة جديرة بالاهتمام والنقاش، كما أن هؤلاء المثقفين جديرون بالعناية والاحتواء والحماية، ولا يسوغ تركهم لقمة سائغة لمثل هذا العنف الفكري والذي قد يُترجَم إلى تمييز وإرهاب.

المثقف الشيعي "المعمم"
حينما نقول: "النخبة الشيعية المثقفة"، ماذا نقصد بها؟ هذا مفهوم يكتنفه الكثير من الغموض واللبس. الأصل أنه يضم كل الفئات المثقفة بغض النظر عن أطرهم أو مدارسهم الفكرية التي ينتمون إليها. ومثل هذا الغموض واللبس يزداد حينما نستجلب حقيقة "اندساس" فئات يفترض ألا تندرج ضمن تلك النخبة أصلا، لأسباب عديدة، تتمحور حول انتفاء اتسام تلك الفئات بالسمات الرئيسة للمثقف.

ومن أولئك المندسين ما يمكننا نعته بـ"المثقف المعمم غير المعمم"، كيف؟ أعني به "المعمم باطنا" و"غير المعمم ظاهرا". إنه رجل دين، ومثقف مؤدلج بامتياز، وإن امتلك بعضهم بعض الأدوات الثقافية في التحليل والتشخيص والخطاب، بل إن بعضهم قد يحوز شهادات دكتوراه في العلوم الاجتماعية والإنسانية والسياسية من جامعة غربية متميزة، ولكنه في النهاية والبداية: "معمم غير معمم".

وبالنظر التحليلي المعمق لطروحات "المعمم غير المعمم" ندرك أنه يتحمل وزر تكرس السلفية الشيعية في محاضننا الاجتماعية في عدد من أقطارنا الخليجية والعربية، فهم أعداء للاندماج الاجتماعي الحقيقي، وبعضهم من منظري خرافات "ولاية الفقيه" ونحوها من أساطير السلفية الشيعية.

التضحية الواجبة
تمتاز "السلفية الشيعية" بأنها تعلي من شأن "المرجعية الدينية" بشكل يفوق الممارَس لدى "السلفية السنية"، فالسلفية الشيعية تغرس لدى أتباعها "أنساق الطاعة المطلقة" للمرجعية، مما يجعلها غير مفتقرة إلى استخدام "الأدلة الشرعية التفصيلية" في الفتاوى الدينية والسياسية، فالمرجعية قادرة على إقناع "الأتباع" دون أدلة تفصيلية، وهذا يعني "وعورة الطريق النقدي" داخل فضاء السلفية الشيعية، وقد سبق لي التأكيد على ذلك في كتابي (السلفية الشيعية والسنية، 2013) مع تشديدي على أن هنالك ضرورة لأن نمارس "نقدا صارما داخل الإطار الشيعي لتخليص الجمهور من سلطة الرموز الشيعية التي تمتلك هذا القدر الباذخ من التأثير، فمجرد كليمات تحرك الجماهير" (ص 44 ).

كما أن السلفية الشيعية نجحت في جهود "مأسسة الدين" -تحويله إلى مؤسسات تابعة للرموز الدينية- مع توفرها على قدرات مالية ضخمة من خلال تمرير السلفية الشيعية لـ"عقيدة الخمس"، وكل ذلك يؤدي إلى تماسك "الجماعة السلفية الشيعية" (المرجع السابق، ص 39).

أحسب أن إضعاف مد السلفية السنية سيعين العقلاء على معالجة المشكل الطائفي الذي يتفاقم بمرور الأيام، كما أن في ذلك احتواء ودعما للأطياف الشيعية المعتدلة، سواء على مستوى النخب المثقفة أو الحواضن الاجتماعية، وما أكثر تلك الأطياف، ولكن ثمة من يروم تغييبها! "

الحيثيات والمعطيات السابقة تبرهن كلها على أن نقد السلفية الشيعية يتجاوز مرحلة "النقد الفكري" إلى ما يشبه "البطولة الفكرية" التي تتطلب جسارة وشجاعة، نرى بأن المثقف لا بد أن يتوافر على أقدار كافية منها، لكي يُقبل في عداد "المثقفين"، فـ"الثقافة صدق ممنهج"، وإن قاد الصدق إلى شيء من التضحية الواجبة.

نحو احتواء النخبة
مطالبة المثقفين الشيعة بالتضحية أمر لا غبار عليه، فهذا قدرهم، بيد أن ذلك لا يعني عدم مناصرتهم وحمايتهم في مختلف السياقات الفكرية والاجتماعية. كيف؟

سأشرح ذلك باختصار. إن استمرار "السلفية السنية" في كيل الاتهامات للشيعة وحقن الذاكرة الجمعية السنية بملفات التكاره التاريخي والراهن، يزيد من الإشكالية ويصعّب معالجتها. ومع إني أدرك تماما أن طروحات السلفية السنية لا تشكّل كل الأنساق الفكرية داخل الإطار السني، إلا أن لها تأثيرا كبيرا للأسف الشديد على شرائح اجتماعية كثيرة، مع انجرافها إلى وضع الشيعة في سلة واحدة، فكلهم "رافضة" و"مجوس" ونحو ذلك، ولا يملكون أدنى استعداد للنقاش حول هذه المسألة. مما يجعلني أطالب بالتضييق الفكري على طروحات السلفية السنية لإضعاف تأثيرها في بناء عقليات التشدد والتضاغن مع الطوائف الإسلامية الأخرى.

أحسب أن إضعاف مد السلفية السنية سيعين العقلاء على معالجة المشكل الطائفي الذي يتفاقم بمرور الأيام، كما أن في ذلك احتواء ودعما للأطياف الشيعية المعتدلة، سواء على مستوى النخب المثقفة أو الحواضن الاجتماعية، وما أكثر تلك الأطياف، ولكن ثمة من يروم تغييبها!

وفي الختام، أهمس في أذن "النخبة الشيعية المثقفة الحقيقية" لأقول لهم: آن أوان فضح "المعممين غير المعممين"، فهم يسيئون لكم ولنا جميعا، كما أنه قد حان وقت الاعتزاز بكل مثقف يمارس نقدا صارما لأطره الفكرية والمجتمعية، بما يخلق قيم التحضر والتمدن، ويجسر لأواصر التعايش بل الاندماج الاجتماعي وفق أطر الدولة الحديثة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.