رحيل الضاري واحتلال العراق الثاني

صور من تشييع الضاري
الجزيرة


رحل الزعيم الإسلامي الوطني العراقي حارث الضاري في وقت تستعد فيه تشكيلات واسعة من القوات الإيرانية والموالية لها للإطباق على مدن رئيسية لم تخضع لسيطرتها، في وضعية عسكرية وسياسية لإيران أقوى من شراكتها مع الاحتلال الأميركي في 2003.

إنه تحالف فعلي وعسكري مع واشنطن تعزّز بصورة كبيرة على الأرض حتى قبل الإعلان النهائي عن الاتفاق النووي، ليُكرس أزمة ضعف وغياب مشروع الإنقاذ العراقي، الذي كان د. حارث الضاري بشخصه وفكره وبمشروع هيئة علماء المسلمين أحد أهم عناصر صناعة المشروع البديل له ولعمليته السياسية.

وأسوء ما يتصوره المرء أن يحدث ما توقعه في مقالات نُشرت هنا من أن حصاد سقوط داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) كما صعوده سيُسدده سُنة المنطقة وخاصة في العراق، بل الجسم العربي الوطني ونسيجه في أقطار المشرق العربي.

إنّ غياب الضاري اليوم يُذكّر بما تحلى به في أزمة احتلال العراق وما تميّز به خطابه ومشروعه بل وبرنامجه التنفيذي، الذي قدمه للداخل العراقي وطلب دعم العرب، فخذلوه فزحفت إيران عليهم، في وقت دقيق لكن كانت فرص نجاحه ممكنة

إننا نعيش هذا المشهد الدموي من جديد بعد 2003 و2006، لكن بزخم طائفي وعنف مدعوم دوليا، شرّعت فيه عواصم العالم أبوابها لدعم تجنيد جيش من المليشيات الذين صَنعت عقيدتهم القتالية فتوى تحشيد طائفي صريحة من مراجع إيران، في حلقة استثمار مروعة لبرنامج دحرجة داعش ليكون حصان طروادة لمشاريع التفتيت والإبادة الكُبرى للشرق، والذي لن يقف تأثيره عند سُنة المشرق الإسلامي كأكبر ضحايا أفرانه.

إنه يضرب الجغرافيا والتاريخ، ويُمزّق بشناعة أركان التعايش والاقتران الأُممي والإنساني لطوائف وشعوب الشرق، وهو ما أدى لانهيار كل تصور معنوي أو سياسي في العراق لخلق برنامج قيادة وطنية من العشائر والثوار والقوى الاجتماعية السياسية بما فيها خط الاعتدال الشيعي ومرجعية السيد الصرخي.

وبالتالي تقف كل الدول والتحالفات خارج قرار إيران وواشنطن موقف الراغب في المشاركة أو الحياد السلبي، رغم معرفتها بخطورة هذا النموذج الثاني للاحتلال الإيراني للعراق على المدنيين ومستقبله السياسي وعلى كل الشرق العربي، باعتبار أن داعش شُعلة نار لا يُمكن التفاهم معها ولا تحييدها، وأن الحرب تُسعّر للنجاة منها ودحرجتها على أي طرف، مهما كانت العواقب.

وهكذا نجح المشروع المركزي الكبير، سواء كان مؤامرة أصلية، أو صناعة تحالفية للفرقاء لحصد ما زرعته داعش، والعراق هو من يُسدد، في حالة تيه كبير لا تقف عند الموقف الرسمي الشريك أو اللا مبالي، ولكنها حالة فوضى تضرب اليوم في مفاصل الوعي العربي وتشحنه بتفكير عاطفي، يُغيّب عنه أولويات الإنقاذ وضرورات تفكيك المشهد، وأن استدعاء المشهد الجنائزي للملاعنة لن يُسعف البقية من أراض للشرق ولن يُنقذ من هم في جمر محنته.

إنّ غياب الضاري اليوم يُذكّر بما تميّز به في احتشاد أزمة احتلال العراق وتميّز خطابه ومشروعه بل وبرنامجه التنفيذي، الذي قدمه للداخل العراقي وطلب دعم العرب، فخذلوه فزحفت إيران عليهم، في وقت دقيق لكن كانت فرص نجاحه ممكنة.

لقد قدم الضاري وشركاؤه في الهيئة بناء صلبا للمقاومة السياسية التي دعمت المقاومة الراشدة من داخل جسم العراق ووعيه الإسلامي، قبل أن تخترق ميدانه القاعدة، وقبل أن يتوحش ويتمكن الحشد الشعبي الطائفي الأول من جسم العراق العربي وعلاقات إنسانه.

الغريب أن من ينتقد الضاري في موقفه من رفض العملية السياسية للاحتلال وبنائها التقسيمي الكارثي للطوائف، يضع اللوم عليه فيما فشل فيه شركاء هذه العملية السياسية، حيث أُنتجت العملية مرارا وتكرارا بشركاء سُنة، ولم تتوقف بناءً على رفض هيئة علماء المسلمين

والغريب أن من ينتقد حارث الضاري من الكُتّاب العرب في موقفه من رفض العملية السياسية للاحتلال وبنائها التقسيمي الكارثي للطوائف، يضع اللوم عليه فيما فشل فيه شركاء هذه العملية السياسية، حيث أُنتجت العملية مرارا وتكرارا بشركاء سُنة، ولم تتوقف بناء على رفض هيئة علماء المسلمين، بل تكثفت منذ لقاء شركاء الحوار في لندن قبل الاحتلال حتى حكومة حيدر العبادي.

ويمثل ذلك أقوى دليل على أن ما طرحه الضاري من خديعة المشروع السياسي المنفّذ على محاصّة مغرقة في تفجير النزعات العرقية والطائفية ومبنية على شراكة إيرانية مباشرة، لم ولن تنقذ العراق.

كما أن تمسكّه والهيئة بالمقاومة السياسية وبخطاب إسلامي ووطني ومشروع انتقالي لكل الطوائف، كان في أقل تعبير هو الخطاب الوطني الذي حافظ على طهارته ورفض أن تقوم العلاقات لعراق ما بعد 2003 على محاصّات طائفية بدلا من ما عرف به العراق عبر تاريخه من انسجام قوي بين أبنائه وطوائفه وعُمق عروبته وإسلامه.

لقد هوجمت الهيئة ودوهم جامع أم القرى المركز السياسي للشيخ الضاري والهيئة بتغطية وتحريض من شركاء العملية السياسية من سُنة العراق، أي أن هذا الطرف الذي دخل العملية السياسية عدة دورات استُخدم من قبل الإيرانيين والأميركيين لاقتلاع هذا البيت العراقي الذي حاول بكل جهده إبقاء الرابط العربي والإسلامي والإنساني للشعب العراقي، ليكون بوابة عودة لمصالحة اجتماعية تاريخية، العراق مضطرٌ لها في أي زمن قادم، فرغم بشاعة الواقع ظلت خطابات وبيانات الهيئة وأداؤها السياسي والإعلامي تمثل أكبر ضربة لمساعي الاحتلال وخطابات التحشيد الطائفي، وهو ما يشهد به كل مراقب منصف.

ومع الدعم الإعلامي والمعنوي والسياسي الذي قدمه الضاري والهيئة للفصائل الراشدة للمقاومة، فقد كان من أوائل الجهات التي أكدت وحذّرت من خطورة اختطاف الميدان العراقي، وافترق خطاب الهيئة تماما عن خطاب حزب البعث العربي جناح السيد عزت الدوري، الذي مد الجسور مع مجموعات القاعدة، قبل أن تولد داعش، واستمر التورط المتكرر بعد الموصل في 2014 والذي أصدرت فيه الهيئة بيانا تحذر فيه من اختطاف الساحات واغتيال الانتفاضة المدنية وتكرار كارثة 2006 على سُنة العراق وعلى مشروع تحريره بعد هزيمة الأميركيين.

وكان خطاب الهيئة بقيادة الضاري مُشددا ضد سفك دماء المدنيين من كل الطوائف، فضلا عن استهداف ذوي الوظائف والمهن غير القتالية لجيش الاحتلال الذي كان يطوف بدباباته كل مدن العراق، ويُعلن رسميا وبقرار دولي أن العراق محتل ولكن بشراكة سياسية مع إيران.

لم يكن خطاب  الضاري ولا حراكه السياسي والهيئة عدميا، لكنه أدرك صعوبة واستحالة الواقع العراقي، وفتح الجسور مع الدول العربية بحثا عن دعم مشروع انتقالي يوائم بين النصر العسكري للمقاومة المنفصلة كليا عن القاعدة، وبين واقع الحال في بلاده

ومع تحذير الهيئة القوي الذي أطلقته من خطورة صناعة مشروع الصحوات الذي استغلته طهران وواشنطن لإسقاط المقاومة وتفتيت مناطق السنة، مستفيدة من جرائم القاعدة في مناطق السُنة وتسلطها عليهم وعلى علمائهم ووجهائهم، فقد كانت ضد أي سفك لدماء أفراد العشائر الذي انخرطوا فيها فترة من الزمن ثم تركوها وأضحت حراب القاعدة سلاح تصفية لهم استخدمه المالكي ومن قبله لمنع أي قوة في أحياء السُنة توقف مذابح مليشيات إيران الدموية.

لم يكن خطاب الشيخ حارث الضاري ولا حراكه السياسي والهيئة عدميا، لكنه أدرك صعوبة واستحالة الواقع العراقي، وفتح الجسور مع الدول العربية بحثا عن دعم مشروع انتقالي يوائم بين النصر العسكري للمقاومة المنفصلة كليا عن القاعدة وبين الواقع السياسي في بلاده، لكنه اشترط ألا يكون هذا المشروع الانتقالي من ذات العملية السياسية التي تُمسك بأوراقها واشنطن وطهران وتستغل كل شراكة سُنية لتعزيز ابتلاع كل شيعي عراقي وتسخير هذه المشاركة لتثبيت كارثة المحاصّة التي تنفجر ذاتيا في كل دورة.

ويطول بنا الشرح في عرض توازن المشروع الوطني العراقي، الذي قدمه حارث الضاري وصمدت فيه هيئة علماء المسلمين، ومع الواقع الأخطر اليوم إلا أن وضع العراق لا يزال يتكرر في أصول أزمته، واليوم لا يُمكن أن يُصاغ مشروع للإنقاذ والحِراب تخوض في أرضه بتوافق أميركي إيراني شرس.

لكن البوابة الأولى ذات الدلالة الكبرى بين الواقع واستحضار كفاح حارث الضاري، هي حاجة العراقيين الضرورية لبناء سياسي صلب مستقل عن تأثيرات وحماقات داعش ومستقل عن إرادة واشنطن وطهران، للتأسيس لمرحلة صعبة جدا عقّدت وضع العراق، ومكّنت خصومه..

ولذلك فالسؤال هو: هل من سبيل لصناعة هذا المشروع اليوم؟ أم إن هذا الضوء لن يبين في آخر النفق، إلا بعد دورة حصاد مُر؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.