قدرات الناتو على شن حرب على روسيا

تواجه دول الحلف مجموعة من التحديات سواء تعلق الامر بالتهديد الروسي او من قبل الحركات الإسلامية المسلحة


هناك سؤال تاريخي وآني في الوقت نفسه يحير ليس فقط المواطن العربي العادي، وإنما المثقف العربي، وهو لماذا يعادي الغرب روسيا في كل الظروف (كان يعاديها قبل الشيوعية، ثم خلال الحقبة الشيوعية، والآن بعد الشيوعية)؟

يتفرع عن هذا السؤال سؤال محير آخر وهو: لماذا يتنكر بعض الأوكرانيين وبعض البولونيين لأرومتهم القومية الحضارية التاريخية، أي الأرومة "السلافية" الشرقية، التي تجمعهم مع الروس، ويقفون مع الغرب ويحاربون معه ضد روسيا، منذ أيام "الإمبراطورية الرومانية"، وحتى حلف الناتو في أيامنا الراهنة، مرورا بـ"الحروب الصليبية الشمالية" في القرون الوسطى، ثم حملة نابوليون، ثم "الحرب الصاعقة" المسماة "عملية باربروسا" لهتلر في الحرب العالمية الثانية؟

وحتى لا نغرق في دوامات التاريخ الأوروبي والعالمي، نحوّل السؤالين، الأصلي والفرعي، إلى واقعنا العربي ونقول: لماذا يعادي الغرب العرب (قبل المسيحية كان تدمير قرطاجة، وبعد المسيحية، وقبل الإسلام وبعده، وبعد الحرب العالمية الأولى تصالح الغرب مع تركيا وبقي عداء الغرب لـ"حلفائه" العرب)؟ ولماذا "أبناء عمومتنا" اليهود، وبعض اللبنانيين والعرب الآخرين، ساروا مع الغرب ومع إسرائيل ذاتها ضد أرومتهم الشرقية والعربية؟

الغرب يعادي العرب وروسيا معا، وقد أثبت الاستعمار عبر التاريخ أنه لا يريد ولا يحتاج إلى "شركاء"، بل إلى "عملاء" و"أجراء" و"مرتزقة" يستغني عنهم ويضحي بهم ويبيعهم ببرميل نفط ساعة تقتضي مصلحته ذلك

والجواب، في اعتقادي الشخصي المتواضع، بسيط، وهو أن الغرب يعادي العرب، كل العرب (سواء كانوا صيادي سمك فقراء لا يجدون لقمة عشاء لأطفالهم في غزة، أو ملوكا وأمراء في الخليج)، فهو -أي الغرب- لا يريد الصداقة مع العرب، بل يريد استعمارهم واستعبادهم ونهب خيراتهم. وكذلك هو موقف الغرب الأساسي من روسيا.

ولكن الطبيعة القاسية لروسيا جعلت أرضها وشعبها عصيّان على الاستعمار طوال التاريخ، وهذا ما يفسر الحقد الأسود للغرب على روسيا.

أما لماذا خان ويخون اليهود "أبناء عمومتهم" العرب؟ ولماذا خانوا ويخونون روسيا التي أنقذتهم من الفناء التام على يد هتلر؟ ولماذا يسير بعض اللبنانيين، والعرب، والسلافيين (من الأوكرانيين والبولونيين) مع الغرب الاستعماري؟ فلأنهم يعتقدون أنهم يمكن أن يصبحوا "شركاء" متكافئين معه.

ولكن الاستعمار أثبت عبر التاريخ أنه لا يريد ولا يحتاج إلى "شركاء"، بل إلى "عملاء" و"أجراء" و"مرتزقة" يستغني عنهم ويضحي بهم ويبيعهم ببرميل نفط ساعة تقتضي مصلحته ذلك.

وهذا هو اليوم وضع روسيا بمواجهة حلف الناتو، وريث "الإمبراطورية الرومانية" القديمة+ أميركا.

فلننظر في إمكانيات حلف الناتو لضرب روسيا واستعمارها.

بعد معركة جورجيا سنة 2008 التي أسفرت عن استقلال مقاطعتي أوسيتيا الجنوية وأبخازيا عن جورجيا، قام الجيش الروسي بإرسال دباباته باتجاه أوسيتيا الجنوبية، وحلقت الطائرات الروسية فوق تبليسي، أمام أنظار "المستشارين" العسكريين الأميركيين، فوقف الناتو "يتفرج" عاجزا عن فعل أي شيء، لأن قيادته أدركت أن أي عمل عدواني ضد روسيا سيقابل بهجوم روسي شامل على دول الناتو جميعا من لوكسمبورغ إلى أميركا، واعترفت روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. واضطرت قيادة الناتو ذاتها إلى تأجيل موضوع انضمام جورجيا إلى الناتو إلى أجل غير مسمى، لن يأتي أبدا!

وفي الأزمة الأوكرانية الراهنة، نشرت وكالة الأنباء الأوكرانية "أونيان" تحليلا عسكريا، نقلته القناة التلفزيونية البولونية "TVN24″، يبدو من خلاله الناتو بإمكانياته الكبيرة أشبه بفيل ضخم يشمخ فوق الدب الروسي ولكنه فيل فارغ من الداخل وعاجز.

يقودنا هذا إلى استعراض عابر لجوانب من الميزانيات العسكرية للطرفين، فالموازنة العسكرية لدول الناتو تبلغ 950 مليار دولار، وموازنة روسيا العسكرية أقل من 90 مليار دولار، أما القوات المسلحة فلدى الناتو 3.5 ملايين عسكري، ولروسيا 766 ألف عسكري. وباختصار، يبدو على الورق أن الناتو يتفوق على روسيا من كل النواحي. ولكن هل الأمر هو كذلك في الواقع؟

لنأخذ المثال الأوكراني: في شهر فبراير/شباط 2014 بدا على الورق أن أوكرانيا تمتلك الجيش السادس في العالم من حيث التعداد والتكنولوجيات العسكرية. ولكن كيف أمكن أن تنتصر على هذا الجيش في جنوب وشرق أوكرانيا فصائل من المتطوعين الشعبيين، التي يقودها موسيقيون سابقون، وممثلو مسرح هواة، وعمال مناجم فحم وأحد علماء ترميم الآثار؟

وإذا أدخلنا المعطيات الأساسية لجيوش جميع البلدان الأعضاء في الناتو في لائحة إلكترونية واحدة، فإن اللوحة تبدو مختلفة نوعا ما. فللوهلة الأولى تبدو الأمور شكليا كما يلي: ينضوي في عضوية الحلف 28 بلدا يبلغ تعدادها السكاني 888 مليون نسمة، وبمجموعها يوجد لديها: 3.9 ملايين جندي، وأكثر من 6000 طائرة حربية، وحوالي 3600 مروحية، و17800 دبابة، و62600 من مختلف الآليات العسكرية المدرعة، و15 ألف مدفع، و16 ألف مدفع هاون، و2600 منصة إطلاق صواريخ، و302 من السفن الحربية الأساسية (بما فيها الغواصات).

الجيوش لا تعني مجموعة من الرجال والبنادق والدبابات والآليات المصفحة، بل هو بنية منظمة ومدربة بكفاءة لأداء مهامها، وبالمفهوم البنيوي لا تدخل كل القوات المسلحة للدول الأعضاء في "جيش الناتو"، بل على الأكثر يدخل فقط ثلث تلك القوات

ولكن تبقى النقطة الجوهرية هي أن كل هذه الأرقام لا تعطي الصورة الحقيقية عن الناتو، لأن هذه الحسابات تحتوي الكثير من الغش.

ولنأخذ على سبيل المثال فرنسا، فغالبا ما يجري ضم قواتها المسلحة إلى المجموع العام لقوات الناتو. ولكن الحقيقة أن هذا البلد خرج منذ وقت طويل من البنى العسكرية للحلف، وهو -في أحسن الأحوال- يقدم بعض الوحدات "المؤجرة" كمرتزقة أو كموظفين مستأجرين، وهكذا يسقط على الفور من التعداد الإجمالي للناتو 64 مليون نسمة من السكان، و654 ألف عسكري، و637 دبابة، و6400 آلية مدرعة إلخ.

ويمكن أن يبدو ذلك غير ذي أهمية. فحتى من دون 600 مدفع فرنسي، يبقى لدى الناتو نحو 14 ألف مدفع. ولكن ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن غالبية الأسلحة المعدودة توجد بشكل رئيسي في المستودعات وقواعد التخزين، فأوكرانيا أيضا كان لديها 2500 دبابة من مختلف الأنواع، ولكن حينما دقت ساعة الحرب، اتضح أن الدبابات الجاهزة فعليا للقتال هي تقريبا 600 دبابة، وأن عددا مماثلا يمكن أن يكون جاهزا أيضا للقتال في فترة مقبولة، أما ما تبقى فلم يعد سوى نفايات.

وفي ألمانيا توجد 858 دبابة و2002 آلية مصفحة. وفي إسبانيا توجد 456 دبابة و1102 آلية مصفحة. وعمليات الحفظ والتخزين هي أفضل مما لدى الأوكرانيين.

ولكن هذا لا يغير في جوهر الأمور شيئا. فمعطيات لوحة الأرقام العامة تشير إلى نتائج مذهلة. فعلى الورق يملك الناتو 55600 آلية مدرعة مختلفة (62 ألفا محذوف منها 6400 لفرنسا). ومن هذا العدد هناك 25300 موجودة في الولايات المتحدة الأميركية، و20 ألفا منها توجد في مستودعات التخزين الطويل الأمد تحت طبقة سميكة من الشحوم!

وفي أحسن الأحوال فإن نصف عدد الآليات المصفحة هي في حالة "الخدمة"، والنصف الآخر ينبغي تجهيزه أو هو تالف في أسوأ الأحوال، كما أن البلدان الأعضاء الجديدة في الناتو كبلغاريا والتشيك لا يمكن حساب ما تملكه من دبابات وآليات مصفحة، لأنها موروثة من العهد السوفياتي، وليس لها قطع غيار غربية.

وفي الأخير، وبعد إجراء الحسابات بدقة ومسؤولية، لأن الحرب ليست لعبة، ينبغي القول إن "الجيوش" لا تعني مجموعة من الرجال والبنادق والدبابات والآليات المصفحة، بل هو بنية منظمة ومدربة بكفاءة لأداء مهامها. وبالمفهوم البنيوي لا تدخل كل القوات المسلحة للدول الأعضاء في "جيش الناتو"، بل على الأكثر يدخل فقط ثلث تلك القوات، وهذا الثلث ينقسم بدوره إلى ثلاث فئات:

الأولى، وتبلغ تقريبا 15% (من الـ30% من الجيوش الوطنية المفروزة للناتو)، هي ما تسمى "قوات الاشتباك الأولي" (RNF). ويتم الاحتفاظ بها بنسبة 75 إلى 85% في زمن الحرب في كل دولة، وتكون جاهزة للشروع في العمليات العسكرية بعد 7 أيام من تلقيها الطلب. و25% تكون في حالة "الاستعداد العملياتي" وتحتاج من 3 إلى 4 أشهر لتحقيق جهوزيتها. و60% الأخيرة تحتاج إلى 365 يوما لتحقيق جهوزيتها القتالية. أما بقية القوات المسلحة للبلدان الأعضاء في الحلف فتبقى منشغلة بمهمات البرامج العسكرية الوطنية لكل بلد.

وبناء على هذه الخلاصات التي نشرتها بعض الصحف الروسية، يعلق أحد القراء قائلا: لقد تم إشراك الناتو في الحرب في أفغانستان والعراق والشرق الأوسط، ولكنها كانت مشاركة شكلية واستعراضية، وذات أهداف سياسية، ولكن تلك المناطق هي شيء، وروسيا -ذات الجهوزية القتالية الكاملة 24\24 ساعة لحرب نووية شاملة في البر والبحر والجو والفضاء- شيء آخر تماما. ويضيف أن الناتو موجود على الورق، ولكنه في الواقع لم يعد موجودا. ولذلك يصح فيه التعبير الصيني القديم: إنه نمر من كرتون.
نظريا يمكن للناتو أن يستعيد قوته السابقة ولكنه هدف مكلف جدا، وسيكون على شعوب أوروبا وأميركا أن تتحمل  تخفيض مستوى معيشتها لنحو20% أو 25%، بكل ما يعنيه ذلك من فوضى وإضرابات وقلاقل وانتفاضات وثورات داخل بلدانها

وهنا علينا أن نشير إلى نقطة اقتصادية عسكرية جوهرية وهي أن روسيا "السوفياتية" السابقة هي التي كانت "تطعم" و"تساعد" و"تسلح" جميع دول الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية السابقة، والآن فإن انهيار المنظومة والاتحاد السوفياتيين السابقين مثل انتصارا للغرب، وخسارة سياسية لروسيا، ولكنه ألقى عن كاهلها عبئا اقتصاديا لا يطيقه أي شعب آخر غير الشعب الروسي الجبار.

وكل الإمكانيات الهائلة التي وفرها انهيار النظام السوفياتي لروسيا قد وجهت إلى المجمع الصناعي الحربي، والجيش، وقطاع الطاقة (النفط والغاز والنووي) (ويقود هذه القطاعات ثلاثة من صقور "البوتينية": دميتريي روغوزين وسيرغيي شويغو وألكسي ميلر).

وفي حين تبحث أميركا في قدرتها على خوض حربين إقليميتين في وقت واحد (في أفغانستان والعراق مثلا)، فمنذ مجيء بوتين إلى السلطة وضعت أمام الجيش الروسي مهمة خوض حرب فضائية وحرب عالمية شاملة في وقت واحد. وقد حل العلماء والعسكريون والصناعيون الروس هذه المهمة.

والآن فإن صاروخ "بولافا" (ذا أنواع مختلفة، برية وبحرية وجوية وفضائية، ويزن من 35 إلى 100 طن وأكثر، ويحمل كل واحد من 6 إلى 10 رؤوس نووية على الأقل، كل رأس يتجه إلى هدف مختلف) حينما يتلقى الأمر المناسب، يستطيع في اللحظة ذاتها أن يضرب برأس نووي هدفا في الفضاء، وبرأس آخر غواصة في قاع المحيط، وبرأس ثالث مروحية على سطح البيت الأبيض، وبرأس رابع مكتب رئاسة أركان حلف الناتو في بروكسل.. إلخ.

نظريا يمكن لحلف الناتو أن يستعيد قوته السابقة لدى تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنه هدف مكلف جدا، وسيكون على شعوب أوروبا وأميركا أن تتحمل أولا تخفيض مستوى معيشتها لنحو20% أو 25%، بكل ما يعنيه ذلك من فوضى وإضرابات وقلاقل وانتفاضات وثورات داخل بلدانها، وهو أمر تخشاه أميركا وأوروبا أكثر من خشيتهما من مواجهة حرب باردة جديدة مع روسيا، التي لم تعد تخشى لا الحرب الباردة ولا الحرب الساخنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.