مجالات وحدود المواجهة التركية الروسية

An image grab made from a video shows a burning Russian fighter jet coming down after being shot down near the Turkish-Syrian border, in Hatay on November 24, 2015. NATO member Turkey shot down a Russian fighter jet on the Syrian border today, threatening a major spike in tensions between two key protagonists in the four-year Syria civil war. AFP PHOTO / IHLAS NEWS AGENCY ***TURKEY OUT***

تغير الموقف التركي
الرد الروسي
التداعيات الإقليمية
حدود الموقف التركي

ما زالت أزمة إسقاط تركيا للمقاتلة الروسية تتفاعل وتتسارع تطوراتها ككرة الثلج، شاملة عدة مجالات ونطاقات، ليس بينها -حتى الآن وفي المدى المنظور- المواجهة العسكرية الشاملة، مما يدفع لضرورة الوقوف على المتغيرات التي أدت إليها، فضلا عن استشراف انعكاساتها على العلاقات الثنائية بين البلدين وعلى مجمل الأزمة السورية التي يختلفان في الرؤية لحلها.

تغير الموقف التركي
منذ اللحظة الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا حاولت موسكو مرارا الاحتكاك بتركيا واخترقت أجوائها مرات عدة، رغبة منها في تحجيم دورها ووأد فكرتها المتعلقة بالمنطقة الآمنة في الشمال السوري وفرض حظر طيران فعلي.

نظرا للعلاقة التاريخية المتوترة بين البلدين وشخصية بوتين والتاريخ الروسي الحديث الزاخر بالمغامرات العسكرية المفاجئة من أفغانستان إلى أوكرانيا، فقد توقع البعض نشوب نزاع مسلح بين البلدين، بيد أنه استنتاج متسرع بكل الأحوال

حينها، لم تخرج ردود الفعل التركية عن إطار المناشدة والتنبيه لاختراق أجوائها التي تعتبر حدودا جوية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، تأثرا بحالة الارتباك السياسي في البلاد بعد انتخابات يونيو/حزيران التي لم تفض إلى حكومة مستقرة. لكن بعض المتغيرات المهمة حملت جديدا هذه المرة بخطوة بحجم إسقاط مقاتلة روسية ومقتل الطيار، أهمها:

أولا، انتخابات الإعادة التي أعادت حزب العدالة والتنمية للحكم منفردا، منهية فترة عدم الاستقرار السياسي والتذبذب الاقتصادي والتراجع الأمني، وهو ما قوى موقف أنقرة في السياسة الخارجية.

ثانيا، التقارب مع الولايات المتحدة، بعد أن حملت الفترة الانتقالية في تركيا وما قبلها حالة تراجع في العلاقة مع واشنطن تمثلت بإهمال تحفظات أنقرة على التعاون مع الفصائل الكردية في سوريا، بما في ذلك دعمهم بالسلاح ثم تقديم الغطاء الجوي لهم خلال هجومهم على تل أبيض وتفريغها من العرب والتركمان دون علم أنقرة.

فالانتخابات الأخيرة والتهديد الروسي وتراجعات تركيا التكتيكية (الانخراط الفعلي في التحالف الدولي وإتاحة قاعدة إنجيرليك) دفعت أنقرة مجددا للتقارب مع الموقف الأميركي مما شجعها على اتخاذ مواقف أعلى سقفا من ذي قبل.

ثالثا، رفع موسكو مستوى استفزازها لأنقرة من خلال القصف الجوي المكثف لجبل التركمان قرب الحدود التركية وتقديم الغطاء لقوات الأسد هناك، بما يعني عودة النظام للحدود التركية وتقويض فرص المنطقة الآمنة وتهديد التركمان المحسوبين على تركيا تاريخيا وسياسيا وعرقيا.

رابعا، التواصل التركي الجيد خلال الفترة الأخيرة مع حلف الناتو بشأن الانتهاكات الروسية لأجوائها، وإيصال رسالة واضحة للروس بأن أنقرة ستفعّل "قواعد الاشتباك" إذا انتهكت أي طائرة مجالها الجوي، وهو ما قوى موقفها من الناحية القانونية.

الرد الروسي
نظرا للعلاقة التاريخية المتوترة بين البلدين وشخصية بوتين والتاريخ الروسي الحديث الزاخر بالمغامرات العسكرية المفاجئة من أفغانستان إلى أوكرانيا، فقد توقع البعض نشوب نزاع مسلح بين البلدين، بيد أنه استنتاج متسرع بكل الأحوال. فلا تركيا تريد مواجهة عسكرية مع موسكو، ولا روسيا في وارد تصعيد عسكري قد يضعها بمواجهة مع حلف الناتو تضامنا مع قاعدته الشرقية.

بيد أن المنتظر أن تقصر روسيا رد فعلها العسكري على الداخل السوري، وأن تفعل الردود/العقوبات الدبلوماسية والاقتصادية على أنقرة لاسيما في مجال الطاقة الذي تملك اليد العليا فيه. فروسيا هي مصدر حوالي 55% من الغاز الطبيعي الذي تستورده تركيا، وهي الشريك التجاري السابع لها، والدولة الثانية من حيث عدد السياح فيها، بينما يبلغ حجم الميزان التجاري بين البلدين 31 مليار دولار ويميل بشكل واضح لمصلحة موسكو.

وفي حين كانت ردة الفعل الروسية الأولية إلغاء زيارة وزير خارجيتها المجدولة مسبقا لأنقرة واستدعاء السفير التركي لإبلاغه باحتجاجها، فقد بدأت موسكو سلسلة إجراءات/عقوبات اقتصادية تمثلت في التالي:

– دعوة الروس لعدم التوجه لتركيا للسياحة باعتبارها غير آمنة.
– مناشدة مواطنيها الموجودين في تركيا مغادرتها "في أقرب وقت".
– تجميد إجراءات الإعداد لمنطقة التجارة الحرة بين البلدين.
– التهديد بالتراجع عن المشاريع الكبيرة المشتركة بين البلدين، ومنها خط الغاز التركي.
– تجميد وزارة الدفاع الروسية التواصل والتعاون العسكري مع أنقرة.
– التهديد بخفض وتيرة الطيران المدني بين البلدين.

ما يمكن اعتباره محوريا وإستراتيجيا في الردود الروسية أمرين: الأول توجيه الاتهامات لتركيا بدعم "الإرهاب" وتنظيم الدولة، ورفع مستوى الوجود العسكري الروسي في سوريا من خلال استقدام منظومة أس 400 للدفاعات الجوية كبداية

ورغم كل ذلك، ثمة ما يدعونا للاعتقاد بأن خطاب موسكو الحاد متفهم ومتوقع كرسالة للداخل الروسي وحفاظا على ماء وجه المؤسسة العسكرية الروسية باعتبار أن الحادثة لها أبعادها العسكرية المتعلقة بالقوات الجوية الروسية وطائرتها "سوخوي" لإضافة لأبعادها السياسية المتعلقة بتحدي موسكو و"هزيمتها" في هذه الجولة.

من ناحية أخرى، ورغم أن شخصية بوتين التفردية في روسيا وطريقة إدارته لسياسة بلاده الخارجية يوحيان بإمكانية انتهاج سياسة العناد وزيادة العقوبات ضد أنقرة، فإن الملف الاقتصادي بطبيعته سلاح ذو حدين، فروسيا مستفيدة كما تركيا سواء بسواء من التعاون الاقتصادي، وأي تخفيض في مستوى هذا التعاون سيضرها بنفس الدرجة مع أنقرة -ثاني مستوردي الغاز الطبيعي منها- بل ربما أكثر، إذا ما وضعنا في الحسبان العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها، واقتصادها المتراجع، وتهاوي أسعار النفط عالميا، والاستثمارات المتبادلة بين الطرفين وخاصة مشروع المفاعل النووي التركي الذي استثمرت فيه 3 مليارات دولار، فضلا عن تدخلها في كل من أوكرانيا وسوريا وما يمثلانه من عبء مالي عليها.

التداعيات الإقليمية
لا شك أن الخطوة التركية ليست مجرد حدث منفرد متعلق بالسيادة الجوية، بل ستكون لها انعكاسات يمكن وصفها بالإستراتيجية، منها:

– تحدي الوجود الروسي العسكري وخاصة الجوي في سوريا، وانتفاء حالة الردع التي حاولت موسكو تأسيسها.

– إعادة حالة الاستقطاب ولو جزئيا بين روسيا والدول الغربية، بعد أن قرّبت هجمات باريس من مواقفها بالتركيز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية بغض النظر عن مستقبل الأسد.

– إعادة الروح لفكرة المنطقة الآمنة وحظر الطيران في الشمال السوري، خصوصا أن الحادثة كان قد سبقها غطاء جوي تركي أميركي للمعارضة السورية استعادت بفضله قريتين من تنظيم الدولة، فضلا عن التصريحات الأميركية المادحة لتركمان سوريا واعتبارهم "لاعبا محليا" يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التنظيم.

– خلط الأوراق وإعادة توزيعها على طاولة التفاوض قبيل بدء المرحلة الانتقالية المتفق عليها بين موسكو وواشنطن.

كما أن موقف تركيا القانوني والتسجيلات التي بثتها لإثبات انتهاك مجالها الجوي وحقها فيما أقدمت عليه، فضلا عن الدعم اللفظي -الخجول نوعا ما- من دول حلف الناتو، صعّب من موقف موسكو السياسي والقانوني وخفض من سقف رد فعلها المباشر والسريع.

لكن ذلك لا يعني أن ما أقدم عليه الأتراك سيمر دون رد فعل يحفظ الكبرياء الروسي، ويمنع تدحرج الأحداث بما يضر بموقفها ورؤيتها في سوريا، بل يحاول استثمار الحدث بالقدر الممكن. حيث يتوقع أن يكون الرد الروسي على الرقعة السورية استهدافا للتركمان، وللشمال السوري، ولفصائل المعارضة "المعتدلة" المحسوبة على أنقرة بدرجة أو بأخرى. وهو ما كان، حيث كثفت المقاتلات الروسية من طلعاتها وقصفها على تلال جبل التركمان تحديدا وعلى امتداد الشمال السوري في إعزاز وغيرها بطريقة مضاعفة كمّا ونوعا، كما استهدفت قافلة إغاثية يشارك فيها أتراك بادعاء أنها تحمل النفط الذي يصدّره تنظيم الدولة.

من جهة ثانية يمكن لروسيا لعب دور داعم لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وذراعه العسكرية "قوات حماية الشعب" في سوريا، المصنفين على قائمة الإرهاب التركية، واللذين أبديا رغبة مسبقة في التعاون مع موسكو في "محاربة الإرهاب"، وغني عن الإسهاب القول إن الملف الكردي برمته -لاسيما في جزئية إقامة أي كيان سياسي لهم على الحدود التركية- من الخطوط الحمر للأمن القومي التركي.

في حين لا يمكن استبعاد إمكانية لجوء موسكو لتحريك بعض الجهات الداخلية ضد أنقرة بشكل حاسم، وخاصة المجموعات اليسارية والكردية الراديكالية.

أخيرا، لا يمكن تقييم الموقف الروسي بعيدا عن تحالفات موسكو، وهي ليست مقتصرة على إيران ونظام الأسد، بل تمتد لتشمل عدة جمهوريات وأنظمة مرتبطة بها، وقد بدأ فعلا بعضها -مثل روسيا البيضاء وإقليم القرم المحسوب على موسكو- بالإعلان عن إجراءات عقابية لأنقرة متعلقة بالسياحة والنقل البري والبحري.

بيد أن ما يمكن اعتباره محوريا وإستراتيجيا في الردود الروسية أمرين:

الأول توجيه الاتهامات لتركيا بدعم "الإرهاب" وتنظيم الدولة، وهو اتهام له حساسيته لدى أنقرة وصداه في الغرب، وتريد روسيا من خلاله دفع تركيا للموقف الدفاعي.

تعمل تركيا التي تعرف حدود إمكاناتها العسكرية وخطورة التعامل مع الدب الروسي على ثلاثة أصعدة: دعم فصائل المعارضة السورية بما يمكن أن يشغل روسيا ويستنزفها، ومحاولة إخراج فكرة المنطقة الآمنة إلى حيز التنفيذ، وتنويع مصادر الطاقة

الثاني، رفع مستوى الوجود العسكري الروسي في سوريا من خلال استقدام منظومة أس 400 للدفاعات الجوية كبداية، والتي ستحاول روسيا من خلالها تقويض أي دور مستقبلي للطيران التركي في شمال سوريا وتصعيب تنفيذ المنطقة الآمنة.

حدود الموقف التركي
من جهتها، تحرص أنقرة على تجنب المواجهة المباشرة مع موسكو لاعتبارات عدة أهمها فلسفة السياسة التركية الخارجية القائمة على تفادي النزاعات، والعلاقات الاقتصادية المتشابكة مع روسيا، وعدم ثقتها بالمواقف المستقبلية الفعلية للناتو.

ولذلك فقد حرصت تركيا على لسان أكبر مسؤوليها ومنذ اللحظة الأولى على التأكيد على عدم استهداف روسيا كدولة والاكتفاء بإجراء "اضطراري" لحماية حدودها وسيادتها وفق قواعد الاشتباك المتعارف عليها بين الدول.

من الواضح إذن أن إستراتيجية أنقرة تتمثل في الاكتفاء بإرسال رسالة لروسيا بخصوص سيادتها على أجوائها وحدودها ودورها في حماية التركمان ورسم مستقبل سوريا والمنطقة، وتجنب الانزلاق نحو أي مواجهة قد تكون محفوفة بالمخاطر، بل وتفويت الفرصة على موسكو في تصعيد الموقف، وهو ما يفسر محاولات أردوغان الاتصال هاتفيا ببوتين وطلب لقائه دون جدوى حتى كتابة هذه السطور.

أما على المدى البعيد فتعمل تركيا التي تعرف حدود إمكاناتها العسكرية وخطورة التعامل مع الدب الروسي صاحب المفاجآت والمبادرات الصدامية، على ثلاثة أصعدة: دعم فصائل المعارضة السورية لاسيما في الشمال بما يمكن أن يشغل روسيا ويشكل لها حالة استنزاف، ومحاولة إخراج فكرة المنطقة الآمنة إلى حيز التنفيذ بالتعاون مع واشنطن ولو بالتدريج، وتنويع مصادر الطاقة التي تستوردها حتى لا يبقى شريان حياتها بيد موسكو وحلفائها.

إذن، في المحصلة، فما زلنا أمام حدث بالغ الجدة والحدة، ومفتوح على عدة سيناريوهات في ظل الإرث التاريخي للعلاقات الثنائية بين الجارين اللدودين وخلافاتهما في مجمل ملفات السياسة الخارجية وتشابك علاقاتهما الاقتصادية.

بيد أن المتوقع أن تتراجع حدة المواقف الأولية التي تخاطب عاطفة الشارع في كلا البلدين لتحل مكانها -ولو جزئيا وبالتدريج- لغة المصالح المشتركة والتفاهمات المقبولة منهما على حد سواء، وهذا هو التحدي الكبير الذي تواجهه العاصمتان في المستقبل القريب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.