طموحات بوتين تقود روسيا نحو الكارثة

In this photo taken on Monday, Oct. 5, 2015, a Russian pilot fixes an air-to-air missile at his Su-30 jet fighter before a take off at Hmeimim airbase in Syria. NATO also strongly criticized the Russian air campaign in Syria that began Wednesday. (AP Photo/Dmitry Steshin, Komsomolskaya Pravda, Photo via AP)
أسوشيتد برس


لا تزال العمليات العسكرية الروسية في سوريا تثير أسئلة كثيرة حول أهدافها المباشرة وحدودها ومداها الزمني وفرص تحقيق الغاية منها (فرض روسيا كقطب ثان في النظام الدولي).

كانت روسيا قد دخلت في صراع مع الغرب على خلفية نشر الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا، وقيام واشنطن بتحديث سلاحها النووي التكتيكي، كما على خلفية تمدد حلف الأطلسي نحو حدودها الغربية.

فبعد اندفاع بوتين خلال السنوات الثلاث الأولى من حكمه -وبحماسة- لتحقيق تكامل أوثق مع أوروبا والغرب بشكل عام غيّر توجهاته فجأة وانصرف نحو بناء دولة قوية، وتبنى إستراتيجية قائمة على محورين: الجوار القريب والبعيد، هدف الأول استعادة ما يعتبره أراضي روسية ألحقت بدول الجوار، واستعادة نفوذ روسيا في دول الاتحاد السوفياتي بذريعة حماية الروس والناطقين بالروسية، والثاني هدفه الحد من دور أميركا العالمي ونفوذها، ولعب روسيا دور كبير في القرار الدولي.

تعمل روسيا منذ فترة على استعادة موقعها في نظام ثنائي القطبية إلى جانب الولايات المتحدة، ولتحقيق ذلك أطلق بوتين برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن إلى وضع روسيا الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي لفرض حضورها وهيبتها

ويتضمن ذلك العمل على استعادة روسيا موقعها في نظام ثنائي القطبية إلى جانب الولايات المتحدة، ولتحقيق ذلك أطلق بوتين برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن إلى وضع روسيا الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي لفرض حضورها وهيبتها.

وهكذا عمل على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفياتية السابقة من خلال قواعد عسكرية ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ودعا إلى تشكيل اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، وتبنى عقيدة عسكرية قائمة على تعزيز الدفاعات الصاروخية، وتطوير المكونات القادرة على حمل رؤوس نووية (أنظمة الصواريخ، وغواصات نووية، وقاذفات إستراتيجية).

ناهيك عن تحديث الأسلحة التقليدية تم تشكيل قيادة عملياتية في البحر الأبيض المتوسط، حيث ترابط حاليا مجموعة سفن تابعة للأسطول الحربي الروسي بشكل دائم، بالإضافة إلى إنشاء شبكة قواعد عسكرية في منطقة القطب الشمالي، ونشر قوات الدفاع الجوي الفضائي الروسية في أرخبيل "نوفايا زيملا"، وقيام ألوية التدخل السريع وسفن الأسطول الحربي بالانتشار على طول طريق الشمال البحري.

هذا مع الإكثار من استعراض العضلات، وتبني تكتيك حافة الهاوية، والتلويح باحتمال انفجار حرب عالمية، وزاد في الإنفاق على التسليح حيث تجاوز نسبة 9% من الناتج المحلي، واتخذ موقفا متصلبا في الخارج باستئنافه إرسال دوريات القاذفات والأساطيل في المحيطين الأطلسي والهادي والبحر الأبيض المتوسط.

أثار انفجار ثورات الربيع العربي خلافات إضافية بين روسيا والغرب، خاصة بعد تدخل الأخير في ليبيا وحرمانها من كعكتها، وتهديد مصالحها في سوريا، مما دفعها إلى الدخول في مواجهة غير مباشرة معه عبر دعم النظام السوري في مواجهة الثورة، وحمايته سياسيا باستخدام حق النقض (الفيتو) أربع مرات، ناهيك عن تزويده بالسلاح والمال والخبراء العسكريين، والتنسيق مع إيران لمنع سقوطه تحت الضغط السياسي والعسكري.

كما أثار تحرك الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي لضم أوكرانيا إليهما فزعها لموقع الأخيرة في التصور الروسي للاتحاد الأوراسي فتصاعد التوتر بينهما فحركت الروس المقيمين في أوكرانيا، وأوكرانيي الشرق الذين يتكلمون الروسية وضمت جزيرة إليها، ودفعت سكان المقاطعات الأوكرانية الشرقية لإجراء استفتاء وإعلان قيام جمهوريتين شعبيتين في دونيتسك ولوغانسك.

كما استثمرت حالة الفتور السائدة بين الولايات المتحدة وعدد من حلفائها، دول الخليج العربية على خلفية الاتفاق النووي الإيراني، ومصر على خلفية تحفظها على القمع السياسي والإفراط في استخدام العنف ضد الإخوان المسلمين وتسييس القضاء فعقدت معهم صفقات تجارية وتسليحية واستثمارية، وعقودا لبناء مفاعلات نووية مدنية، كل هذا على أمل إجبار واشنطن على التعاطي معها كالقوة العظمى الثانية والعودة بالعلاقات الدولية إلى نظام ثنائي القطبية.

تم ذلك وروسيا تعيش حالة تضخم وانكماش في ضوء العقوبات الاقتصادية الغربية وتراجع أسعار النفط والغاز (ثمة توقعات لمراقبين روس بتراجع سعر النفط إلى أربعين دولارا، وحتى إلى عشرين دولارا، علما أن هبوط سعر النفط بمقدار دولار واحد للبرميل يحرم الميزانية الروسية من 2,5 مليار دولار).

رغم بلوغ عائدات روسيا من تصدير النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي في الفترة من 2000-2013 نحو 3,2 تريليونات دولار فإنه لم يسفر عن تحديث الاقتصاد الروسي وتنويعه ووقف اعتماده على تصدير المواد الأولية واستيراد التكنولوجيا المتقدمة من الخارج بل كان بمثابة نمو من دون تنمية

هذا دون أن ننسى خدمة الدين الخارجي البالغ سبعمئة مليار دولار، وديون الشركات الروسية خمسمئة مليار دولار، خمسها يجب أن يسدد هذا العام وهروب رؤوس أموال تراوحت قيمتها عام 2014 بين مئة ومئتي مليار دولار، وازدياد المعروض من النفط والغاز بعد الاكتشافات الكبيرة التي ستعيد تشكيل السوق وتفرض توازنا جديدا بحيث تتراجع حصتها فيه (يشكل النفط والغاز نحو 74% من الصادرات الروسية وتمثل عوائدهما حوالي 50% من موارد الدولة، (وهما المصدر الرئيس للعملات الصعبة) وسحب استثمارات الشركات الغربية (87 شركة صفت أعمالها أو خفضتها)، وما ترتب عليها من انهيار سعر العملة الوطنية (انخفض سعر صرف الروبل أمام الدولار منذ مطلع هذا العام بنسبة 20%، علما أن الدولار كان مطلع العام 2014 حوالي 33 روبلا، بينما بلغ الآن 66 روبلا، وقاد هذا إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة 30%، وتراجع النمو إلى ما دون الصفر.

ورغم بلوغ عائدات روسيا من تصدير النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي في الفترة من 2000-2013 نحو 3,2 تريليونات دولار فإنه لم يسفر عن تحديث الاقتصاد الروسي وتنويعه ووقف اعتماده على تصدير المواد الأولية واستيراد التكنولوجيا المتقدمة من الخارج بل كان بمثابة نمو من دون تنمية، مما رتب تناقضا في بنية الدولة الروسية بين القوتين العسكرية والاقتصادية حيث ما زال الوصف الذي أطلق على الاتحاد السوفياتي: عملاق بساقين واحدة جبارة (العسكرية) وأخرى هزيلة (الاقتصادية) ينطبق على روسيا الاتحادية.

وهذا الأمر يعيدنا إلى معادلة المؤرخ الأميركي بول كنيدي لقيام وسقوط القوى العظمى: اقتصاد قوي يمول جيشا ينتشر في الخارج، وعدم توفر قدرة مالية للصرف على العمليات العسكرية في الخارج يضعان القوة العظمى على طريق السقوط، فاستمرار الصراع الروسي الغربي لبعض الوقت ومشاركة القوات الروسية في القتال بأوكرانيا وسوريا مع احتمال انخراطها في القتال في العراق سيقود إلى تآكل الكتلة النقدية الروسية المتبقية ويدفعها إلى حافة الإفلاس.

وقد أثار هذا الأمر هواجس ومخاوف المواطنين وعمق الهوة بينهم وبين السلطة، وهي حالة لا تنسجم مع أدبيات النظام الشعبوي وبطله الأوحد فلاديمير بوتين الذي يعتمد على إثارة حماسة المواطنين وتعصبهم القومي لحشدهم خلفه، سعيا إلى تحصين نفسه من غضبة الشعب بـ"تسويق" توصيفه للوضع الذي آل إليه الروس باعتباره جزءا من مؤامرة غربية تحاك ضدهم.

ينطوي التدخل العسكري الروسي في سوريا على فرص ومخاطر، من الفرص تعزيز النفوذ الروسي والحد من قدرة واشنطن على التحرك المنفرد في الإقليم والعالم ودفعها إلى التفاوض مع روسيا على ملفات إقليمية ودولية، مما يعني الاعتراف بها كند وشريك في القرار الدولي.

لكنه ينطوي على مخاطر أكبر، فواشنطن لا تقبل موسكو ندا أو لاعبا مؤثرا في الساحة الدولية وتتعامل معها كشريك صغير في تقاطعات ستصب في مصلحة الأقوى وفق نظرية التقاطعات التي بشر بها زبيغينو برجنسكي -مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر- في كتابه "أميركا والعصر التكنتروني" (ترجمه الدكتور محجوب عمر تحت عنوان "بين عصرين" وصدر عن دار الطليعة في بيروت عام 1980).

إن الزج بروسيا في أتون حرب مجهولة النتائج وتنطوي على مخاطر كبيرة على بلد يعاني مشكلات اقتصادية ويكاد يبلغ درجة الإفلاس والعجز عن سداد الديون، ومشكلات اجتماعية، وقلق وجودي من أجل هدف مستحيل التحقق يعكس خللا بالنظرة الإستراتيجية
وقد توقعت تحليلات كثيرة أن ترتفع حدة الانتقادات الداخلية مع سقوط قتلى من القوات الروسية في سوريا ووصول النعوش إلى موسكو، فعلى الرغم من تبني روسيا تكتيك الاعتماد على القصف الجوي لإنهاك المعارضة تمهيدا لهجوم بري يقوم به النظام وحلفاؤه الإيرانيون والمليشيات التابعة لهم لاستعادة الأراضي التي خسروها في الأشهر الأخيرة، ولإبعاد قوات المعارضة عن الساحل -حيث القاعدة البحرية الروسية- فإن هذا التكتيك يصطدم بعقبات كثيرة.

 
ولعل أولى هذه العقبات عدم نجاعة القصف الجوي في تحقيق نتائج حاسمة في الحروب غير المتوازية التي تواجه بها جيوش نظامية قوات غير نظامية، وثانيها ارتباط روسيا بحليف ضعيف (النظام)، مما يزيد الأوضاع صعوبة ويشكل عبئا ثقيلا عليها.

فإذا نجحت كتائب المعارضة السورية في تجنب الضربات الجوية وامتصاصها وردت بضربات موجعة لجيش النظام وحلفائه فإنها تكون قد قطعت الطريق على "القيصر" في تحقيق نتائج سريعة كالنجاح في تعزيز موقع النظام والضغط على الغرب لقبول المقايضة، وتكون بذلك قد حققت نصرا تكتيكيا في ضوء طبيعة الصراع غير المتوازي والقاعدة الحاكمة له: "ينهزم الجيش عندما لا ينتصر، وتنتصر المقاومة عندما لا تنهزم".

ومن شأن ذلك أن يضع القيادة الروسية في مواجهة الرأي العام الروسي الذي ما زال يعاني من متلازمة أفغانستان، القلق من الانزلاق في حرب خارجية.

كما أن دفع روسيا إلى الانسحاب من سوريا دون تحقيق نتائج مجزية سينعكس سلبا على صورة "البطل" بوتين ويؤدي إلى تراجع دورها الدولي لتعود إلى الحظيرة وتقبل شروط واشنطن التي حددها الرئيس الأميركي للحل في سوريا (سوريا بقيادة جديدة).

إن زج الدولة الروسية في أتون حرب مجهولة النتائج وتنطوي على مخاطر كبيرة على بلد يعاني من مشكلات اقتصادية ويكاد يبلغ درجة الإفلاس والعجز عن سداد ديونه الداخلية والخارجية، ومشكلات اجتماعية، وقلق وجودي بسبب العامل السكاني والتركيبة الدينية وتوازناتها من أجل هدف (العودة إلى النظام ثنائي القطبية) تحقيقه مستحيل يعكس خللا في النظرة الإستراتيجية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.