كردستان العراق.. توافق أم انفجار؟

A picture taken on July 3, 2014 shows the building of Iraq's autonomous Kurdistan region's parliament in Arbil, Kurdistan's capital in northern Iraq. The president of Kurdistan, Massud Barzani asked its parliament to start organising a referendum on independence. AFP PHOTO / SAFIN HAMED
غيتي إيميجز

رئاسة الإقليم
البعد الإقليمي
تحديات مصيرية

لا يمكن النظر إلى الخلافات التي تفجرت مؤخرا في إقليم كردستان العراق تحت عنوان أزمة الرواتب والأوضاع المعيشية بعيدا عن الخلافات السياسية التي تشغل ساحة الإقليم والصراعات الحزبية وتناقض المواقف السياسية إزاء جملة من القضايا المثارة. هذا فضلا عن دور العوامل الخارجية ولاسيما إيران وتركيا الدولتان اللتان لهما نفوذ وتأثير على الأطراف السياسية في الإقليم.

ولعل القضية الجوهرية التي تشكل اليوم نقطة خلاف أساسية هي قضية رئاسة الإقليم بعد أن انتهت في التاسع عشر من أغسطس/آب الماضي مهلة السنتين لرئيس الإقليم مسعود البارزاني والتي مددها البرلمان بعد ولايتين دستوريتين بدأهما عام 2005.

رئاسة الإقليم
ربما تعتقد العائلة البارزانية والتي اكتسبت مشروعية زعامتها القومية من نضالها التاريخي في قيادة الحركة الكردية، فضلا عن نفوذها العشائري وبعدها الاجتماعي والديني (العائلة البارزانية حملت خلال العهد العثماني لواء الطريقة النقشبندية) بأحقيتها في رئاسة الإقليم خاصة بعد الاتفاق الإستراتيجي بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني عام 2007 والذي أقر بأن كرسي رئاسة الإقليم من حصة الحزب الديمقراطي مقابل أن تكون رئاسة الجمهورية في العراق من حصة الاتحاد الوطني الكردستاني.

لعل القضية الجوهرية التي تشكل اليوم نقطة خلاف أساسية هي قضية رئاسة الإقليم بعد أن انتهت في التاسع عشر من أغسطس/آب الماضي مهلة السنتين لرئيس الإقليم مسعود البارزاني والتي مددها البرلمان بعد ولايتين دستوريتين بدأهما عام 2005

لكن المشكلة أن الجيل الكردي الجديد بات يرى أن زمن القيادة العائلية لأسرة البازراني أو المحاصة السياسية انتهى وأن الكرد بلغوا مرحلة من النضج السياسي لتأسيس نظام سياسي جديد يليق بالتطور الحاصل في كردستان، وهو ما يشكل سندا قويا للأحزاب الكردية الأربعة (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير (كوران)، والجماعة الإسلامية، والاتحاد الإسلامي الكردستاني) في مطالبتها بإصلاحات سياسية.

وتتعلق هذه الإصلاحات بقانون رئاسة الإقليم وتقليص صلاحيات الرئيس والانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني ووضع دستور للإقليم حيث لا يزال يدار من خلال قوانين بعد أن تعثر مشروع الدستور الذي أعد ليكون ناظما لعمل السلطات في الإقليم، وهو ما يراه الحزب الديمقراطي الكردستاني انقلابا سياسيا، يهدف لقطع الطريق أمام تولي البارزاني فترة رئاسية ثالثة حيث يحظر القانون النافذ في الإقليم ذلك ويحدده بولايتين فقط، فيما يأمل البارزاني وحزبه بتعديل القانون المذكور وإيجاد حالة من التوافق السياسي بين الأحزاب الكردستانية كي يكون بمقدور البارزاني البقاء في الحكم لولاية جديدة.

وعليه وبموجب القانون النافذ فإن من يشغل حاليا منصب رئاسة الإقليم هو رئيس البرلمان يوسف محمد صادق الذي ينتمي إلى حركة التغيير التي لها 24 مقعدا في البرلمان مقابل 38 للحزب الديمقراطي الكردستاني و18 لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني فيما تحوز الجماعات الإسلامية الثلاث 17 مقعدا.

اللافت أنه مع فشل اللجنة التي شكلت للدفع بمشروع الدستور الجديد للإقرار في البرلمان سرعان ما انتقل الخلاف بشأن رئاسة الإقليم إلى داخل البرلمان في ظل استقطاب سياسي حاد، بين الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يريد اختيار الرئيس من الشعب مباشرة سواء من خلال الانتخاب أو الاستفتاء وبين الأحزاب الأخرى التي تريد انتخاب الرئيس من داخل البرلمان.

وفي سبيل ذلك سارع البارزاني إلى تحديد موعد للانتخابات الرئاسية في العشرين من أغسطس/آب الماضي، أي بعد يوم واحد من انتهاء مدة التمديد له لسنتين، إلا أن الأحزاب الكردية وكذلك المفوضية العليا للانتخابات رفضا الموعد المذكور، وتوالت بعد ذلك اقتراحات ومشاريع قوانين، وعقدت نحو عشر جلسات بين الأحزاب المذكورة للخروج من الأزمة، إلا أن جميع هذه المشاريع والاقتراحات فشلت.

فيما زاد تمسك البارزاني بولاية جديدة عبر بوابة التوافق السياسي أو وضع دستور للإقليم من تمسك الأحزاب الأربعة بالإصلاحات السياسية، وهو ما عمق من الانقسام السياسي وظهرت تداعيات خطرة وصلت إلى حد مطالبة أوساط كردية مناوئة للبارزاني بانفصال السليمانية عن أربيل وتشكيل حكومة وبرلمان محليين فيها على اعتبار أن سلطة أربيل قائمة على احتكار السلطة.

البعد الإقليمي
عند الحديث عن الخلافات بين أربيل والسليمانية ولا سيما الحديث عن انفصال السليمانية سرعان ما تتجه الأنظار إلى إيران من خلال اتهامها بدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني وحزب حركة التغيير بزعامة نوشيراون مصطفى في مواجهة البارزاني وحزبه، فيما الثابت أن ثمة علاقات تاريخية لإيران بمنطقة السليمانية لأسباب جغرافية وتاريخية وثقافية ولغوية (السليمانية تعتمد الأبجدية العربية واللهجة السورانية القريبة من إيران فيما أربيل تعتمد الأبجدية اللاتينية واللهجة الكرمانجية رسميا) خلافا لأربيل الواقعة تحت تأثير النفوذ التركي.

وعلى المستوى السياسي ثمة أسباب سياسية كثيرة تجعل علاقة إيران بالسليمانية أفضل من علاقتها بأربيل، ولعل من أبرز هذه الأسباب توجه البارازني لإقامة شراكة سياسية واقتصادية وأمنية مع تركيا الدولة الإقليمية المنافسة لإيران ولا سيما بعد إقامة خط أنابيب لتصدير النفط من إقليم كردستان عبر تركيا بشكل مباشر ومن دون موافقة بغداد، والعلاقات الوثيقة للبارزاني مع الدول الغربية وسماحه بفتح ثلاث قواعد عسكرية للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا على أراضي الإقليم، فضلا عن خطه السياسي ونهجه الداعي إلى انفصال إقليم كردستان عن العراق وإقامة دولة كردية.

لا يستبعد البارزاني وقوف حزب العمال الكردستاني وراء الاحتجاجات الأخيرة التي جرت في السليمانية والتي كانت سببا في تفجر الوضع الداخلي بغية إضعافه، فيما تحمل العديد من الأوساط الحكومة مسؤولية انهيار الوضع المعيشي بسبب اعتمادها على الاستيراد

وأمام هذه الأسباب السلبية لعلاقة إيران بأربيل تبدي تركيا -ولا سيما في عهد رجب طيب أردوغان– المزيد من التفهم والدعم للبارزاني وسياساته سواء على مستوى كردستان أو العراق أو الموقف من الأزمة السورية، وبشكل أدق من كرد سوريا خاصة بعد سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني على المناطق الكردية في سوريا، فيما علاقات تركيا تشهد حالة من الفتور مع كل من الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير ولا سيما في ظل مواقف الطرفين المؤيدة لحزب العمال الكردستاني في الحرب المندلعة مع تركيا حاليا.

وفي العمق لا يستبعد البارزاني وقوف حزب العمال الكردستاني وراء الاحتجاجات الأخيرة التي جرت في السليمانية والتي كانت سببا في تفجر الوضع الداخلي بغية إضعافه، فيما تحمل العديد من الأوساط الحكومة مسؤولية انهيار الوضع المعيشي بسبب اعتمادها على الاستيراد بدلا من الاهتمام بالزراعة والصناعة وقد انكشف هذا الأمر بشكل كبير بعد أن أوقفت حكومة المالكي دفع حصة الإقليم من الميزانية والبالغة شهريا مليار ومئتي مليون دينار.

في الواقع، الاستقطاب الحاصل بين إيران وتركيا على ساحة كردستان العراق أثر على سياسات الأحزاب الكردية وخياراتها السياسية تجاه معظم القضايا المطروحة على الساحة الكردية وبغداد، فمقابل اللهجة الندية للحزب الديمقراطي الكردستاني تجاه الحكومة المركزية في بغداد يبدي كل من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير لهجة مرنة تنحو نحو حل الخلافات العالقة مع بغداد عبر الحوار والبقاء ضمن السلطة المركزية خلافا للبارزاني الذي يعتمد نهجا أقرب إلى التفكيك والانفصال وفرض سياسة الأمر الواقع.

وقد بدا هذا الأمر جليا بعد سيطرة البشمركة على كركوك الغنية بموارد الطاقة من نفط وغاز، كذلك الأمر فإن ثمة خلافات بين الجانبين بشأن طبيعة العلاقة مع تركيا، فالتحالف الذي نسجه البارزاني مع أنقرة على أساس المصالح المشتركة واتباعه سياسات مشتركة معها تجاه العديد من القضايا الإقليمية ولا سيما الأزمة السورية والموقف من حزب العمال الكردستاني، تقابله مواقف مختلفة ومتباينة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وحركة التغيير.

فالحزبان الأخيران أعلنا مرارا رفضهما للحرب التي تشنها تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، بل إن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أدان القصف التركي لشمالي العراق وهدد بمجابهة الجيش التركي إذا توغل فيه خلافا لموقف البارزاني الذي أبدى تفهما للموقف التركي.

كما أن الاتحاد انتقد مرارا موقف تركيا من معركة كوباني ودعم تركيا للمجموعات المسلحة في حربها لإسقاط النظام السوري، وقد ازدادت الخلافات الكردية العراقية حدة مع تزويد الدول الغربية للكرد بالسلاح، إذ أعلنت بعض الأحزاب رفضها لآلية توزيع السلاح من قبل حكومة إقليم كردستان مؤكدين أنه تم حرمان بشمركة السليمانية أي القوات التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني من السلاح أو الذخيرة وحصره بمقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني، وقد زاد هذا الأمر من قناعة الأحزاب الكردية المعارضة للبارزاني بأن سلطة الأخير قائمة على احتكار القرار والثروة وتهميش مناطق السليمانية، وهو ما عزز من الدعوات المطالبة بتشكيل حكومة محلية في السليمانية.

تحديات مصيرية
الخلافات الكردية الكردية التي لها جذور عميقة تتفاعل على وقع الاستقطاب الحزبي والانقسام الجغرافي والتنافس على السلطة والثروة والأبعاد الإقليمية. هذه الخلافات تظهر من جهة مدى هشاشة العملية السياسية الجارية خاصة في ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده إقليم كردستان مع تفاقم الخلافات مع بغداد وتراجع أسعار النفط من جهة.

الخلافات الكردية الكردية التي لها جذور عميقة تتفاعل على وقع الاستقطاب الحزبي والانقسام الجغرافي والتنافس على السلطة والثروة والأبعاد الإقليمية، هذه الخلافات تظهر مدى هشاشة العملية السياسية الجارية خاصة في ظل التدهور الاقتصادي الذي يشهده الإقليم

ومن جهة ثانية تظهر مدى خطورة المشهد السياسي الكردي واحتمال تفجره في أي وقت ولا سيما في ظل ضعف البنيان الداخلي الذي يعاني من اختراقات إقليمية ساهمت على الدوام في جعل التاريخ الكردي تاريخا قائما على بحر من الخلافات والحروب الداخلية والعداوات. وكل ما سبق يجعل من عملية التغيير السياسي المنشودة في الإقليم ولا سيما قضية منصب رئاسة الإقليم وآلية انتخابه، عملية محفوفة بالمخاطر والتحديات.

فالمطلوب كرديا ليس إيجاد حالة من المحاصة والصوملة السياسية في كردستان وإنما تجربة سياسية ديمقراطية تحقق الأماني القومية الكردية، وفي الوقت نفسه تقدم نموذجا للحكم في منطقة تشهد حروبا وصراعات غير مسبوقة.

وعليه يمكن القول إن العملية السياسية في إقليم كردستان العراق وصلت إلى نقطة مصيرية خطرة، فأما أن يتجاوز الإقليم خلافاته العميقة على أساس من التوافق السياسي وإقرار دستور ينظم عمل السلطات عبر عملية إصلاحية جذرية تنهي أزمة الرئاسة والمحاصة الحزبية واحتكار السلطات، أو حتى إيجاد قاعدة جديدة لتقاسم السلطة كالعودة إلى الاتفاق الإستراتيجي بين الحزبين الديمقراطي والاتحاد الكردستانيين وتحول الأحزاب الأخرى إلى المعارضة، أو الدخول في سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات.

فتداعيات الخلافات والانقسامات طالت مختلف مناحي الحياة في الإقليم على شكل استنزاف للقدرات وانهيار للاقتصاد وتوقف للمشاريع الضخمة التي أطلقت وهجرة للكفاءات والاستثمارات، فالشلل السياسي أصاب كل مؤسسات الإقليم وبات يهدد مصيره، إنه التحدي الأصعب الذي ينتظر الإقليم بعد سنوات من الازدهار والحديث عن ريادته على مستوى العراق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.