قواعد الحكم وسلوك المعارضة في مصر

Demonstrators protest in front of the presidential palace in Cairo, Egypt, Saturday, April 26, 2014. Hundreds of secular-minded activists and protesters rallied in front of the presidential palace Saturday, demanding the interim president abolish a disputed protest law used extensively over the past months to jail and prosecute activists, including leading figures of the 2011 uprising that toppled longtime autocrat Hosni Mubarak.
أسوشيتد برس

لا بد أن نعترف بأنه لا يمكن بناء النظام السياسي في مصر بقرار من الحاكم، لكن النظام السياسي السليم لا بد أن ينشأ بشروط ثلاثة، يتعلق أولها بسيادة مناخ من الحرية السياسية تمكّن الشعب من المساهمة في بناء هذا النظام بالرأي والمشاركة السياسية بأوسع معانيها.

أما الشرط الثاني فهو إصلاح النخبة السياسية والإعلامية والثقافية والمجتمعية بحيث تكون قادرة على قيادة المجتمع لبناء النظام السياسي، ولا يمكن أن يبنى النظام السياسي من صوت واحد وفريق واحد بينما بقية المجتمع عاجزة لأسباب مختلفة بالقهر أو بالجهل عن المشاركة خصوصا وأن الاضطراب الذي حدث في مصر قد خلخل أماكن ومواقع النخبة والتبس الأمر على الأغلبية الساحقة منها، فأمعنت في تضليل المجتمع وتوجيهه توجيها سلبيا فابتعدت كثيرا عن المناخ المطلوب لبناء النظام.

لا يماري أحد في أن تقاليد الحكم في مصر ليست مستقرة منذ العام 1952 وكل حاكم يرسم لنظامه الطريق الذي يريد، وكانت النتيجة هي الأزمة المستحكمة في السلطة ونظام الحكم ولم يكن الشعب طرفا في صناعة النظم السابقة

وليكن واضحا للكافة أن النظام السياسي لا يمكن اختزاله في مجرد إجراء انتخابات دون مضمون حقيقي، ولذلك فإن قرار إجراء الانتخابات يجب أن يرافقه إصلاح النخبة والحياة الحزبية والثقافية والإعلامية حتى لا تجرى الانتخابات في فراغ وتكرس في البرلمان أوضاعا شاذة من القوى التي ثار عليها المجتمع.

أما الشرط الثالث موضوع هذه المقالة فهو ضرورة وضع ثقافة للحكم والمعارضة. فلا يماري أحد بأن تقاليد الحكم في مصر ليست مستقرة منذ العام 1952 وكل حاكم يرسم لنظامه الطريق الذي يريد، وكانت النتيجة هي الأزمة المستحكمة في السلطة ونظام الحكم ولم يكن الشعب طرفا في صناعة النظم السابقة، كما أن النخب توزعت بين بطانة للنظام ومنتفع منه، وبين ناقم عليه ومعارض له بسبب حرمانه من ذهب المعز أو بسبب ما ناله من آلام من سيف المعز.

على الجانب الآخر لا يدعي أحد أن مصر عرفت قواعد المعارضة للحاكم، لأن الحاكم حريص على أن تأتي المعارضة للانتخابات أليفة مستأنسة، وإذا حدث وأفلت مرشح يحمل رؤية نافعة ومغايرة للحاكم فإن الحكومة تتربص به ولا تتجاوب مع طلبات دائرته مما يعرضه للسقوط المروع في دائرته.

ومصر كنز لا يفنى من الأمثلة والتجارب في هذا الباب، وربما عرفت مصر لأول مرة الانتخابات النزيهة في عهد المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير، وتلك ومضة في تاريخ مصر لا يقاس عليها، لأن المشكلة أصبحت أشد تعقيدا ما دام المجتمع قد فقد الانسجام، وما دام الجدل حول فكرة المواطنة قد داخله نظام فاسد ضربته ثورة 25 يناير في رأسه دون أن تتمكن من إنشاء نظام بديل، وهو يطل الآن مرة أخرى لكي يضع مصر في ثنائية بغيضة إما هذا النظام وإما الفوضى، كما أطاحت الجماهير بعد ذلك بنظام عاجز ظن الناس أنه يمكن أن يكون القادر على العمل بروح الثورة وقواها ولكنه لأسباب كثيرة عجز وتسبب في ضياع الثورة واستهداف الثوار.

ومعنى ما تقدم أن مصر بحاجة إلى وضع قواعد للحكم وقواعد للمعارضة، ولا يمكن القول بأن الدستور يكفي في هذا المقام، فمصر لا تحتاج إلى الدستور وإلى احترامه فقط، بل تحتاج إلى أكثر من ذلك وهو التربية السياسية بين الحاكم والمحكوم على أساس أن الحاكم هو الذي فاز بثقة الشعب في انتخابات حرة حقيقية توفرت فيها كل ضمانات النزاهة والشفافية وانعدام التأثير على الناخب بأي صورة.

ثم إن هذا الحاكم لابد أن يخضع للمساءلة ولابد أن يثق بأن المنصب الذي يتولاه ملك للمجتمع وليس له ولا لأسرته وأصحابه، وأنه مرصود من الجميع في الداخل والخارج، فإن أنس في نفسه القدرة على القيام بما أراده الشعب فعليه أن يستعين بكل أبناء الوطن على أساس الكفاءة، وليس الولاء والقرابة السياسية، وتلك آفة مصر طوال العقود السابقة.

المعارضة في مصر حتى الآن إما ناقمة على الحاكم ومتربصة به، وإما منضمة إلى المهللين له والمنافقين لعمله، وتاريخ المعارضة في مصر يؤكد هذا التصنيف، ولذلك أدت أزمة المعارضة إلى تفاقم أزمات مصر

ولا أظن أن في مصر سجلا حقيقيا لمستويات الكفاءة الموضوعية لأبنائها في الداخل والخارج لأن هذا السجل عادة صنعته الحكومة وفقا لضوابط أخرى لا علاقة لها بالكفاءة.

ولذلك فنحن نحتاج إلى فريق من الأكفاء الوطنيين حقا يضعون قوائم لأبناء مصر المتميزين لجميع الساحات، وأنا على ثقة بأن قدرات المجتمع أعلى ملايين المرات مما تسمح به الظروف لعناصر معينة لكي تظهر في القمة، والنتيجة هي أن من في القمة لا يمثلون طاقة المجتمع الهائلة حتى رغم ما لحق بالمجتمع من تخريب في التعليم والثقافة والإعلام والاقتصاد والأخلاق.

ولكي نصور أزمة الحكم والمعارضة في مصر -وهذه نقطة جديرة بالمناقشة المجتمعية الواسعة- فيكفي في شأنها أن نعرض في تكوين المعارضة لعقود سابقة وعلاقاتها بالسلطة، كما لا أظن أننا يجب أن نقيس مصر بالدول الديمقراطية المستقرة، لأن مصر لا تزال خارج دائرة النظم الديمقراطية، فهي تريد الديمقراطية وتستخدم بعض أدواتها مثل الانتخابات لكنها تصبح دولة ديمقراطية إذا توفرت لها شروط كثيرة تنتقل من دائرة التخزين إلى دائرة الفعل.

إذن فالحاكم يجب أن يعرف طبيعة المنصب وأن يدرك أن مهمته مؤقتة وأن الرقابة عليه يجب أن تبدأ بالإعلام والبرلمان، وأن المحاسبة والنقد هما أهم ضمانات توجيه الحاكم إلى الصواب، خاصة وأن الحاكم لا يشترط أن يكون عبقريا وإنما يشترط أن يستعين بالعباقرة.

أما المعارضة في مصر حتى الآن فهي إما ناقمة على الحاكم ومتربصة به، وإما منضمة إلى المهللين له والمنافقين لعمله، وتاريخ المعارضة في مصر يؤكد هذا التصنيف، ولذلك أدت أزمة المعارضة إلى تفاقم أزمات مصر.

ولسنا بحاجة إلى تفصيل طرق تكوين المعارضة في مصر وعلاقتها بالسلطة. ففي عهد الملكية كانت الأحزاب السياسية تعرف حدود معارضة الحكومة والدائرة التي تعمل فيها ولكن الحكومة والمعارضة يهتفان معا من أجل الاستقلال الذي طبع الحركة الوطنية، كما اتجهت المعارضة أحيانا إلى نقد السلطة، وكان المقال الصحفي كفيلا بإقالة الحكومة، أي أن مصر في العهد الملكي كانت لديها حساسية عالية وكانت الانتخابات تجرى بناء على سمعة المرشح والحزب الذي ينتمى إليه وليس على وعي المواطن أو برامج المرشحين.

ومعنى ذلك أن علاقة المعارضة بالسلطة كانت أيضا محاولة من ليس في الحكم إسقاط من يجلس عليه، وتلك قضية تحتاج إلى دراسات موسعة من المتخصصين، وهي ضرورية في بناء النسق الفكري التاريخي لهذا الموضوع الهام.

أما جمال عبد الناصر فقد تمكن من أن يلتف الشعب حوله عندما تصدى للإقطاع ورأس المال وأحدث نوعا من العدالة الاجتماعية للأغلبية على حساب الأقلية، فنشأت قوى استفادت من هذه الإجراءات تسانده، ومع ذلك كانت الانتخابات مزورة، ويبدو أنها آفة لازمت مصر منذ العام 1952.

وما دام عبد الناصر شخصية كارزمية فقد كان فوق القانون الذي يضعه بنفسه ولم يكن ممكنا أو متصورا للزعيم أن يخطئ أو أن توجه إليه المشورة فسقط وسقطت مصر كلها دون أن يستفيد من العقلاء الذين لم تتح لهم فرصة ترشيد قراراته، ومات وبقيت مصر تلعق جراحها.

سيكتب التاريخ عن مبارك ما لم يجرؤ القضاء المصري على كتابته، من فساد في الأخلاق وتجفيف لمنابع السياسة وإفساد في الإعلام والنخب وتجويع وأمراض وتسطيح لعقل المواطن وتدمير كل مؤسسات الحكم

ثم جاء السادات وروايته حول نشأة الأحزاب السياسية للسفير الأميركي في ذلك الوقت هيرمان إيليتس من عام 1975 الذي طلب من السادات أن يكون لمصر نظام ديمقراطي ونصحه بأن تكون لديه معارضة، فنادى أصحابه على الفور ليشكلوا حزبا معارضا برئاسة صهره وقال لهم إن علاقة المعارضة بالحاكم هي علاقة الابن بأبيه فالأب هو الذي أنجب الولد، والحاكم هو الذي أنجب المعارضة، فالأدب مطلوب في علاقة المعارضة بالحاكم. وهكذا فوت السادات على مصر فرصة ذهبية بعد عبد الناصر لترشيد الحكم والمعارضة.

ثم جاء حسني مبارك واختصر الطريق وعمد إلى طريقة بسيطة وهي إنشاء معارضة شكلية ديكورية، وتشكيل البرلمان بمعرفة الأمن، ووصل قمة الملهاة في برلمان 2010 عندما كان يفاخر بالتزوير، بل إنه وبعد أن سئم المنصب إثر ثلاثة عقود دون أن يراجعه أحد اتجه إلى توريث الحكم ما دام الشعب غائبا وما دام الأمن والاقتصاد في يده.

وسوف يكتب التاريخ عن حسني مبارك ما لم يجرؤ القضاء المصري على كتابته، من فساد في الأخلاق وتجفيف في كل منابع السياسة وإفساد في الإعلام والنخب وتجويع وأمراض وتسطيح لعقل المواطن وتدمير كل مؤسسات الحكم جميعا وهو التركة الثقيلة التي كشفتها ثورة 25 يناير.

والإصلاح يحتاج إلى كل فرد في مصر، وهي حكمة يجب أن يتحلى بها أي حاكم في المستقبل، ويتعلق الأمر أكثر بإصلاح الشعب تعليميا وثقافيا واقتصاديا حتى ينتج نخبا محترمة وحكومات رشيدة وحكاما يعرفون أصول الحكم وفنون القيادة، ومعارضة تصوّب للحاكم خطواته وتعبر عن ضمير المجتمع وأن تكون المصلحة العليا هي غاية الجميع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.