لهيب الحرب.. ماذا وراء صناعة "الوحش الافتراضي"؟

صورة نشرتها مؤسسة الفرقان الإعلامية التابعة لتنظيم الدولة

نمط متطوّر
إعلام بديل
قفزة نوعية كبيرة
الوحش الافتراضي

يمثل فيلم "لهيب الحرب" (Flames of War) أحد أهم الإصدارات الإعلامية والفنية لتنظيم الدولة الإسلامية وآخرها، وربما تتملك الصدمة المشاهد العربي والمراقبين عندما يجدون الفيلم باللغة الإنجليزية مترجما ترجمة احترافية وبجودة فنية عالية تنافس شركات الإعلام العالمية والعربية الكبرى.

"لهيب الحرب" -الذي يتضمن تغطية لمعارك عديدة لتنظيم الدولة ورسالة موجهة لدول التحالف المشاركة في الحرب الراهنة على التنظيم- أصدره الجناح الإعلامي التابع للتنظيم الخاص باللغة الإنجليزية (مركز الحياة"، بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2014).

نظرا لجودته الفنية والمهنية ورعب التكتيكات القتالية المصورة فيه، فاق الفيلم التوقعات، إذ حصل على أكثر من مليوني مشاهدة خلال ساعات، مما جعل إدارة موقع "يوتيوب" تعمل على تتبعه وحذفه في اليوم عشرات المرات.

نمط متطور
تدور أحداث الفيلم في قرابة الساعة (55.14 دقيقة)، وتتضمن سردا تاريخيا لبدء الولايات المتحدة الأميركية إعلان الحرب على العراق من خلال كلمة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، قبل أن ينتقل إلى بداية إعلان الرئيس الحالي باراك أوباما، مجددا عن الحرب على تنظيم الدولة.

نظرا لجودته الفنية والمهنية ورعب التكتيكات القتالية المصورة فيه، فاق الفيلم التوقعات إذ حصل على أكثر من 2 مليون مشاهدة خلال ساعات، ما جعل إدارة موقع "يوتيوب" تعمل على تتبعه وحذفه في اليوم عشرات المرات

يوثق الفيلم مشاهد تكشف لأول مرة العديد من المعارك التي خاضها التنظيم في الأشهر الماضية على جبهات عدة، فقد قاتل ضد النظام السوري، والحكومة العراقية، وضد الجيش الحر وجبهة النصرة وغيرها من التنظيمات المسلحة. كما يظهر مشاهد قتالية ابتداء من معارك السيطرة على مطار منغ شمال سوريا، مرورا بأحداث الموصل والسيطرة على مقر "الفرقة 17" في الرقة بسوريا، والمعارك التي خاضها مع قوات البشمركة الكردية.

قد تكون إحدى أبرز اللقطات، التي حازت على اهتمام المراقبين والمشاهدين، تتمثّل بظهور "الرجل الملثم"، صاحب اللكنة الإنجليزية، الذي شارك في قتل الرهينتين الأميركيتين في مشاهد سابقة، ليظهر في آخر الفيلم أمام أسرى من جنود النظام السوري يحفرون قبورهم بأيديهم ليتم قتلهم رميا بالرصاص على حافة القبور التي حفروها.

المستوى الفنّي والتقني العالي الذي ظهر عليه فيلم "لهيب الحرب"، والأفلام التي سبقته من إعداد القسم الإعلامي في تنظيم الدولة الإسلامية يدفع نحو جملة من التساؤلات عن أهمية الحرب المعنوية والإعلامية في خطاب تنظيم الدولة وأهدافها وعن الفريق الذي يتولى إعداد جزء كبير من هذا الإنتاج الفني-الإعلامي، وهو ما يقودنا إلى رصد تطور أهمية الإنترنت لدى التنظيمات الجهادية ونقطة التحول في مستوى المادة الفنية والسياسية والإعلامية المطروحة.

إعلام بديل
استثمرت القاعدة في الأعوام الماضية الثورة الاتصالية في بث رسالتها الدعوية الدينية والسياسية والتجنيد والدعاية النفسية، وإذا كان الجيل الأول من "الجهاديين" اعتمد في بث دعايته في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي على وسائل الاتصال التقليدية الشفوية والكتابات الورقية، فقد استثمر الجيل الثاني دخول شبكة الإنترنت منذ منتصف التسعينيات من خلال تأسيس آلاف المواقع الجهادية، وعدم قدرتهم على الوصول إلى المنابر الإعلامية والفضائيات، فكان بزوغ الفضاء الإلكتروني العالمي مساحة جديدة وخصبة لأبناء التيار السلفي الجهادي للتعويض عن افتقارهم لأدوات ووسائل الإعلام التقليدي.

إلا أن القفزة الكبيرة والنوعية في التعامل مع الإنترنت والفضاء الإلكتروني جاءت بعد الحرب الأفغانية في العام 2002، ثم الحرب العراقية، مع بزوغ ما يسمى بالجيل الجهادي الرابع، إذ يعتمد بدرجة كبيرة على العالم الافتراضي والتأثير فيه، في نشر رسالة القاعدة وبناء التنظيمات والجماعات المحلية والإقليمية، والتجنيد والتدريب عبر توفير المواد التعليمية والإعلامية لمن يجنَّدون ويؤمنون بهذا الفكر.

ومن رحم هذا الجيل ولد مفهوم "الجهاد الفردي"، الذي يستند، في الأساس، على شبكة الإنترنت والتجنيد من خلالها، ونجد في هذا المجال نماذج وأمثلة متعددة، مثل الطبيب ذي الأصول الفلسطينية في قاعدة تكساس نضال مالك، الذي قتل زملاءه في القاعدة، أو حالة عمر الفاروق أو فيصل شاهزاده أو حتى أبو دجانة الخراساني، الطبيب الأردني، الذي قام بتفجير خوست الانتحاري في أفغانستان.

إذا شهد استخدام الإنترنت تصاعدا وانتشارا وتوسّعا في اعتماد القاعدة والجماعات الجهادية عليه في عمليات التجنيد والتعبئة ونقل الرسالة الإعلامية والسياسية، وبدأ هناك اهتمام ملحوظ في فترة لاحقة بتجنيد المواطنين الغربيين من أصول عربية وإسلامية، وهو ما ظهر بوضوح مع تخصيص مجلة الإلهام باللغة الإنجليزية، وكان يشرف عليها أنور العولقي، أحد منظري القاعدة في اليمن (الجزيرة العربية)، قبل مقتله في العام 2011، وهو الذي نجح لخبرته في المجتمعات الغربية ودراسته هناك وإلمامه باللغة الإنجليزية في التأثير على أفراد من الأجيال الجديدة للجاليات العربية والمسلمة في الغرب.

قفزة نوعية كبيرة
رغم أن أبا مصعب الزرقاوي، مؤسس قاعدة العراق، التي تمثل الجماعة الأولى التي يمتد إليها تنظيم الدولة الإسلامية، كان ممن توسعوا في استخدام الإنترنت والشرائط المصورة، خاصة مشاهد الذبح للرهائن وأعداء التنظيم، فإن استخدام الفضاء الافتراضي (الإنترنت) شهد قفزة نوعية واتساعا كبيرا من قبل التنظيم بعد الثورة السورية، خاصة مع العامين الأخيرين، ويأتي تويتر في مقدمة وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمها التنظيم، وهو الأوسع وأكثر المواقع التي يستخدمها مناصرو الدولة.

استخدام الفضاء الافتراضي شهد قفزة نوعية واتساعا كبيرا من قبل التنظيم في العامين الأخيرين، ويأتي تويتر في مقدمة وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمة من التنظيم، وهو الأوسع وأكثر المواقع التي يستخدمها مناصروه

ولإدراك أهمية التويتر لدى التنظيم وأفراده في الدعاية والاتصال والتجنيد، طلبت إدارة موقع "تويتر"، من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، القيام بحملة واسعة لحرمان تنظيم الدولة الإسلامية من استغلال هذه الوسيلة المهمة بالنسبة له، وذلك بتتبع حسابات أنصار التنظيم وإلغائها، من خلال تتبع معرفات الأنصار كذكر اسم (الدولة) أو (مناصر للدولة) أو (#باقية) أو (#خلافة) أو (#أنصار) أو (#موحد) وغيرها مما يقرب منها باللغتين العربية والإنجليزية.

كما عملت إدارة موقع تويتر على تتبع الدعاة المشهورين والنشطاء الفاعلين من أنصار تنظيم الدولة الإسلامية، وإلغاء حساباتهم، وعلى رأسهم الجهادي الافتراضي الأهم (ترجمان الأساورتي) وهو المعروف بإصداراته المرئية التي لها رواج كبير عند الأنصار ويتناقلونها بكثرة.

وكذلك تتبعت إدارة تويتر حسابات الشيوخ المشهورين ممن يناصرن الدولة، ولهم دور ملحوظ في الرد على خصومهم، كالشيخ (مأمون حاتم) و(أحمد بوادي) و(عبد المجيد الهتاري) و(شيبة الحمد) و(عبد الرحمن المرزوقي) وشاعرهم (محمد الزهيري) وغيرهم من الأنصار، بل وجنود الدولة في ميادين القتال.

مثل هذا العمل يقوم على جهد مضن وشاق جنّدت له الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها آلاف العملاء لرصد وتتبع هذه الحسابات وإلغائها وقرصنتها! حتى وصل الأمر إلى أن بعض الأنصار يُلغى حسابه في اليوم ثلاث مرات في سياق حرب الشبكات المستعرة!

المفارقة أنه بمجرد إلغاء الحسابات تصدر (الهاشتاقات) من الأنصار لدعم الحسابات الجديدة. فلا يملون ولا يكلون من إنشاء الحسابات الجديدة، وحسب بعض الإحصائيات فإن أنصار تنظيم الدولة الإسلامية على موقع تويتر وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي يصل إلى أكثر من نصف مليون!
لجأ أنصار الدولة إلى مواقع أخرى لنشر الأخبار وغيرها، فاستخدموا موقع شبكة "دياسبورا" للتواصل الاجتماعي، التي ذكر القائمون عليه أنهم عاجزون عن منع انتشار "المحتويات المتطرفة"، حسب قولهم.

ويتميز موقع (دياسبورا) عن (تويتر) بخاصية مهمة، إذ يستطيع القائمون عل الأول تتبع ما فيه وحذفه، وهذا ما استخدمته الحكومة الأميركية في حربها الإلكترونية هذه بحجة "الإرهاب"! في حين أن موقع (دياسبورا) معلوماته "تنتشر عبر أجهزة خوادم مستقلة، لا تخضع لسيطرة فريق العمل، وبالتالي "لا يوجد سبيل أمام فريق عمل المشروع للتلاعب أو إزالة محتوى من منطقة خاصة في الشبكة".

إلاّ أن النقلة النوعية الحقيقية والسلاح الفعال الذي يستخدمه الأنصار في دعم وإسناد ونصرة تنظيم الدولة الإسلامية يتمثل بالمقاطع والإصدارات المرئية، التي يصدرها التنظيم وينشرها على موقع يوتيوب، وهي مؤثرة جدا، خاصة بما حوته من دقة واحترافية في التصوير والمونتاج والإخراج، مما أرعب الخصوم! فما أن ينشر الإصدار حتى يشاهده الآلاف في اليوم الواحد قبل أن يُلغى! فيقوموا بنشره ثانية وثالثة ورابعة وهكذا!

في حقبة الزعيم الحالي للتنظيم، أبي بكر البغدادي، شهد هذا الجانب الإعلامي والفني تطورا كبيرا، وتؤكد الأشرطة والمواد الدعائية التي تصدرها المؤسسات الإعلامية التابعة للتنظيم كمؤسسة "الفرقان"، ومؤسسة "الاعتصام"، على التحول الكبير في بنيته وقدراته الفائقة، وتكتيكاته العنيفة، ما يكشف عن طبيعته الهوياتية، وإستراتيجيته القتالية ورسالته السياسية والعقديّة، فقد أصدر سلسلة من الأفلام المتقنة، أطلق عليها "صليل الصوارم"، بدءا من صليل الصوارم (1) يوليو/تموز 2012، وصليل الصوارم (2) أغسطس/آب 2012، وصليل الصوارم (3) يناير/كانون الثاني 2012، ثم صليل الصوارم (4) مايو/أيار 2014.

وعقب سيطرة التنظيم على الموصل (في 10 يونيو/حزيران 2014) وتوغله باتجاه إقليم كردستان، نفذت طائرات أميركية غارات جوية على مواقعه، وفي 19 أغسطس/آب 2014، قام التنظيم بنشر شريط مصور بعنوان "رسالة إلى أميركا"، يقوم فيه عضو ينتمي إلى التنظيم بقطع رأس رهينة أميركي يُدعى جيمس فولي، ومع تواصل الهجمات الجوية الأميركية قام التنظيم بعد أيام قليلة في 2 سبتمبر/أيلول 2014، بنشر شريط آخر بنفس العنوان يتضمن قطع رأس رهينة أميركي ثانٍ يدعى ستيفن سوتلوف، وكلا الرهينتين صحفي أميركي.

وربما قيمة هذا "الوحش الافتراضي" في عالم الحروب اليوم تعدل إن لم تتفوق على الجانب المادي والواقعي في الحرب، تبعا لتضاعف أهمية الحرب المعنوية والدعاية النفسية في الحروب اليوم

ثم بث التنظيم شريطا مصورا آخر بعنون "رسالة إلى حلفاء أميركا" في 14 سبتمبر/أيلول 2014، يقوم فيه بقطع رأس رهينة بريطاني لدى التنظيم، يدعى ديفيد هينز، ليكون بذلك الرهينة الأجنبي الثالث الذي يقطع رأسه التنظيم، وتضمن الشريط في نهايته مقطعا يهدد بقطع رأس رهينة بريطاني آخر يدعى آلان هينينغ، في حال لم تتوقف بريطانيا عن دعم البشمركة، والتحالف مع واشنطن.

ومن أهم الإصدارات التي كان لها انتشار ملحوظ في موقع "يوتيوب" إصدار "كسر الحدود" بتاريخ 29 يونيو/حزيران 2014، و"خطبة البغدادي في الموصل" بتاريخ 5 يوليو/تموز 2014، وسلسلة إصدارات بعنوان "رسائل من أرض الملاحم" وهي سلسلة توثق إنجازات وعمليات التنظيم تصدر تباعا بلغت حتى الآن (50) إصدارا، وكذلك سلسلة إصدارات بعنوان "فشرد بهم من خلفهم"، ويغطي الجزء الأول معركة تحرير اللواء 93 في ولاية الرقة السورية بتاريخ 23 أغسطس/آب 2014، والجزء الثاني يغطي معركة تحرير مطار الطبقة في ولاية الرقة السورية بتاريخ 7 سبتمبر/أيلول 2014.

الوحش الافتراضي
ليس تنظيم الدولة الإسلامية هو الوحيد بين الفصائل الإسلامية، الذي يتوسع في استخدام التسجيلات المصورة ويوتيوب، لكن إصداراته متميزة فنيا بصورة ملحوظة، وتشي بوجود قدرات، بعضها لديه خبرة غربية ملموسة في الإنتاج المقدم، هي على درجة من المعرفة والاحتراف في مجال التقنية والإعلام والدعاية السياسية، مما يمكن ملاحظته بوضوح من خلال الجودة الفنية العالية من جهة، والاهتمام بالمتلقي الغربي، الذي أصبح هدفا للتجنيد والدعاية، بعد أن أصبح هذا التنظيم الأكبر حجما وضخامة من زاوية نسبة المقاتلين القادمين من الغرب، سواء كانوا ذوي أصول عربية ومسلمة أو ممن اعتنقوا الإسلام.

ثمت دلالات واضحة بأن التنظيم يستخدم الفضاء الافتراضي ليساعده على تحقيق أهداف الحرب النفسية والمعنوية في الصراع، من خلال بث الرعب في قلوب الخصوم والأطراف الأخرى، وهو ما يشي به عنوان بعض إصدارتهم "فشرّد بهم من خلفهم"، وربما قيمة هذا "الوحش الافتراضي" (المقاطع المصورة للقتل والذبح والمفخخات والحرب) في عالم الحروب اليوم تعدل إن لم تتفوق على الجانب المادي والواقعي في الحرب، تبعا لتضاعف أهمية الحرب المعنوية والدعاية النفسية في الحروب اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.