الرابحون والخاسرون من العدوان على غزة

epa04371246 Palestinian fighters of the Ezz Al-Din Al Qassam militia, the military wing of Hamas, pose with weapons in Al-Shejaeiya neighbourhood in the east of Gaza City, 27 Augast 2014. An indefinite ceasefire to end seven weeks of fighting between Israel and Palestinian militant groups in the Gaza Strip was holding 27 August, with Hamas declaring 'victory' and the Israeli cabinet divided on the deal. EPA/MOHAMMED SABER
وكالة الأنباء الأوروبية

إسرائيل التي لا تتعلم
الثنائي الفلسطيني
مصر والأطراف الأخرى

بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، اختلفت معطيات القضية الفلسطينية بمختلف أبعادها، اختلافا كبيرا عما كانت عليه قبل وأثناء العمليات العسكرية. ومن المهم في هذا السياق النظر في وضعية كل طرف من زاوية المكاسب والخسائر، قياسا على أهداف ودوافع كل منها تجاه الأزمة وطريقة إدارتها.

إسرائيل التي لا تتعلم
لما كانت إسرائيل هي البادئة بالعدوان، فهي أكثر الأطراف جدارة بالتوقف عند وضعيتها وعمل جردة حساب لمكاسبها وخسائرها. إذ يفترض أن لصاحب المبادأة أهدافا محددة، وخطة واضحة لتحقيقها، فالأمر تمَّ عن عمد وليس اضطرارا كما بالنسبة لحماس وفصائل المقاومة.

في البداية، أعلنت تل أبيب أن عملياتها العسكرية جاءت ردا على اختطاف ثلاثة مستوطنين، وفضلا عن أن العدوان يعدُّ ردا مبالغا فيه بشدة مقارنة بذلك السبب المعلن، لم يكن للاستمرار في قصف غزة أي مبرر خصوصا أن المستوطنين الثلاثة قتلوا، وأصلا لم تثبت مسؤولية حركة حماس أو أي من فصائل المقاومة عن اختطافهم. بل إن عملية الاختطاف والتصفية يحيطها غموض كبير يثير احتمالات متعددة حول الطرف الذي يقف وراءها.

أهداف إسرائيل الحقيقية هي كسر إرادة المقاومة، واستكشاف التطور الذي وصلت إليه القدرات العسكرية لها، والقضاء على أكبر قدر من تلك القدرات، بما في ذلك استنزاف مخزون الصواريخ وتدمير منصاتها، وقطع شرايين الإمداد عبر الأنفاق

فبدا واضحا أن إسرائيل تذرعت -إن لم تكن افتعلت- الاختطاف تبريرا للعدوان، بغرض تحقيق أهداف بعينها. وبالفعل، سرعان ما أعلنت تل أبيب، بعد أيام قليلة من بدء القصف على القطاع، أن تدمير الأنفاق هو الهدف. ثم لاحقا ومع تفاجؤ الإسرائيليين بوصول صواريخ المقاومة إلى مناطق ومديات لم تكن متوقعة، أعلن نتنياهو أن العملية لن تنتهي إلا بعد إسكات صواريخ حماس.

وهكذا تطورت أهداف إسرائيل المعلنة لتبرير بدء العدوان والاستمرار فيه أسابيع، ثم استجابة للتطورات العسكرية. غير أن ثمة أهدافا أخرى لإسرائيل، غير تلك الجزئية التكتيكية المتعلقة بالعمليات العسكرية على الأرض. وهو ما يمكن الاستدلال عليه من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والسلوك الفعلي متمثلا في قصف وتدمير البنية التحتية في القطاع واستهداف المدارس والمساجد بل وعقارات سكنية.

وقد تمحورت أهداف إسرائيل الحقيقية حول:
أ- كسر إرادة المقاومة الفلسطينية.
ب- استكشاف التطور الذي وصلت إليه القدرات العسكرية للمقاومة تسليحا وتدريبا وتخطيطا.
ج- القضاء على أكبر قدر من تلك القدرات، بما في ذلك استنزاف مخزون الصواريخ وتدمير منصات إطلاقها. وقطع شرايين الإمداد العسكري والمدني عبر الأنفاق.
د- إحداث دمار واسع النطاق في القطاع ككل، بحيث يتطلب الأمر وقتا طويلا ومبالغ طائلة لإعادة الإعمار.
هـ- قطع الطريق على التوجه الفلسطيني نحو المصالحة، بفرض أمر واقع جديد يعيد تعميق الفجوة بين حماس والسلطة.

الملاحظة الجديرة بالانتباه، أن تلك الأهداف الإسرائيلية ليست جديدة، وهي تقريبا ذات الأهداف وراء عدواناتها الثلاثة التي شنتها على غزة، منذ سيطرة حماس على القطاع في يونيو/حزيران 2007.

وكما لم تنجح في إنجاز تلك الأهداف في المرتين السابقتين (الرصاص المصبوب/عامود الدخان) أخفقت تل أبيب مجددا في "الجرف الصامد". فمن بين الأهداف الخمسة، لم تحقق تل أبيب إنجازا حقيقيا سوى الدمار الواسع لبنية ومنشآت القطاع، بينما لا إشارة إلى تحقق أي من الأهداف الأخرى، بما فيها استنزاف القدرة العسكرية للمقاومة.

فحتى اليوم الأخير من العمليات وإلى ما قبل إنفاذ وقف إطلاق النار بدقائق، كانت صواريخ المقاومة حاضرة وتستهدف مناطق داخل إسرائيل. لقد تكبدت فصائل المقاومة خسائر عسكرية مباشرة وكبيرة، لكن لا نتنياهو أو أي من القيادات العسكرية الإسرائيلية، يستطيع القول إنه قضى على حماس والمقاومة عسكريا، ولا تملك تل أبيب أي حصانة عسكرية ضد صواريخ المقاومة مستقبلا، بما في ذلك "القبة الحديدية" التي تتكلف مليارات بينما أداؤها دون المستوى.

في وضع كهذا، تكون التبعات السياسية هي الخسائر الحقيقية. لذا يمكن القول إن حياة نتنياهو السياسية قد انتهت بموجب تهوره العسكري. فقد شن العدوان وهو يعاني توترا سياسيا داخليا، وخرج منه بلا نصر حقيقي يقدمه لخصومه أو للمواطن الإسرائيلي. ومما يزيد الوضع سوءا بالنسبة له، الفشل في الأهداف المعلنة وغير المعلنة أيضا.

وتجدر الإشارة هنا إلى محاولة يائسة أخيرة قام بها نتنياهو في الأيام الأخيرة قبل التفاهم النهائي على وقف إطلاق النار، بشن غارات مكثفة على القطاع وعمليات استهداف محددة لتصفية بعض القيادات الميدانية للمقاومة. وكان محمد الضيف على رأس تلك القيادات المطلوبة. غير أن نجاة الضيف أكدت الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي وعمت إخفاقات تل أبيب في غزة. لذا لن يكون من المستغرب أن يطاح قريبا بنتنياهو لينضم إلى أولمرت وباراك وغيرهما، من قيادات إسرائيل التي لا تتعلم من دروس الماضي، وتجيد فقط سياسة الهروب إلى الأمام.

الثنائي الفلسطيني
تكبد الفلسطينيون خسائر كبيرة بشرية ومادية في قطاع غزة. ووفق التقديرات المبدئية، ستستغرق إعادة الإعمار من عامين إلى ثلاثة، فضلا عن آلاف الشهداء والجرحى، وعشرات الآلاف من النازحين والمشردين. تلك هي حدود خسائر الفلسطينيين في قطاع غزة.

من المكاسب المهمة أن حماس وبقية فصائل المقاومة ستدفع تل أبيب إلى التردد كثيرا قبل الشروع في عدوان جديد، على الأقل في المدى القصير. هذا بالطبع مع افتراض أن إسرائيل ستعي الدرس وسيستفيد قادتها العسكريون من حصاد العمليات ودلالاتها

وفي المقابل، حققت المقاومة الفلسطينية ما يمكن اعتباره انتصارا من المنظور العسكري، فقد فُرضت الحرب على المقاومة، وهي ليست جيوشا نظامية ولا وجه للمقارنة مع القدرة العسكرية الإسرائيلية.

وبالتالي فإن فشل تل أبيب في سحق المقاومة يعني بساطة أن تلك الفصائل محدودة التسليح لديها القدرة على تقديم نموذج يدرس في الحروب غير المتماثلة. والمكسب الأهم في هذا السياق، أن حماس وبقية فصائل المقاومة ستدفع تل أبيب إلى التردد كثيرا قبل الشروع في عدوان جديد، على الأقل في المدى القصير. هذا بالطبع مع افتراض أن إسرائيل ستعي الدرس وسيستفيد قادتها العسكريون من حصاد العمليات ودلالاتها.

لكن المكاسب الفلسطينية الحقيقية سياسية بالأساس، سواء بالنسبة لحماس والمقاومة أو بالنسبة للسلطة برئاسة أبو مازن. ومن أهم تلك المكاسب السياسية:

أ- عودة حماس: فبعد محاولات إسرائيلية (وعربية أيضا) لاستبعاد حماس من المعادلة الفلسطينية وتصفية دورها تدريجيا. خرجت حماس من "الجرف الصامد" أكثر قوة وحضورا وفرضت نفسها مجددا على الساحة، لتعود شريكا أصيلا في تفاعلات القضية مع مختلف الأطراف. وبعد أن كانت إسرائيل ترفض حكومة فلسطينية تشترك فيها حماس، أصبحت تفاوض (عبر مصر) حماس والمقاومة، والسلطة مجرد طرف مشارك.

ب- تكريس وضعية غزة: منذ سيطرة حماس على غزة قبل سبع سنوات، لم تتوقف محاولات إنهاء هذا الوضع وإعادة غزة تحت سيطرة سلطة رام الله. وواجهت حماس مشكلات حقيقية نتيجة هذا الوضع، خصوصا فيما يتعلق بتحمل أعباء الحكم واستيفاء متطلباته المالية والتنظيمية في القطاع. مما أدى إلى تذبذب شعبية حماس داخل القطاع. حسب مدى تلبيتها المطالب الحياتية للغزيين.

ثم جاء العدوان الإسرائيلي، ليجعل فلسطينيي غزة يصطفون مجددا خلف حماس، بل ليؤكد قيادتها للقطاع ولتتوارى الأصوات التي كانت تعلو من حين إلى آخر تدعو إلى العودة تحت لواء سلطة رام الله، بل إن التظاهرات التي خرجت أثناء العدوان في الضفة تأييدا لحماس والمقاومة، كانت مؤشرا قويا إلى أن الصورة الذهنية لحماس "الزعيمة" قد اكتسبت زخما بين الفلسطينيين داخل القطاع وخارجه.

وبغض النظر عن ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي يصب بالتأكيد في صالح إسرائيل، فإن المؤكد من نتائج العدوان الأخير، أن سلطة حماس في غزة قد تكرست. الأمر الذي يعني بالتبعية تقوية موقف حماس في مواجهة السلطة والأطراف الأخرى، سواء بالنسبة لأفكار وشروط إنهاء الانقسام الفلسطيني، أو فيما يتعلق بالعلاقة مع أطراف أخرى مثل مصر.

ج- انتهاء مأزق السلطة: عانى محمود عباس (أبو مازن) من مأزق حقيقي في الفترة السابقة على عدوان إسرائيل ضد غزة. في ظل الاضطرار إلى التقارب مع حماس وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ورفض إسرائيل تلك الخطوة. بينما لا أفق واضحا للتسوية السلمية في ظل تعنت إسرائيلي وانحياز أميركي أكدته مقترحات جون كيري الأخيرة. فجاء العدوان الإسرائيلي ليخرج أبو مازن من ذلك المأزق ويفتح زوايا جديدة للتعامل مع مشهد جديد ومختلف. وهو ما جعل عباس متحمسا بشدة للتوصل إلى تفاهم. على أن يكون الاتفاق تحت المظلة المصرية التي تفضل رام الله العمل من خلالها.

المكسب الثاني الذي تحقق للسلطة من العدوان (بالأحرى فشل العدوان) هو إعادة القضية الفلسطينية إلى ذاكرة العالم، حتى إن كان ذلك من مدخل إنساني. بعد أن كانت القضية مستبعدة من قائمة الاهتمام الدولي سواء سياسيا أو إعلاميا.

أخيرا، ثمة مكسب ربما يكون الأهم بالنسبة لأبو مازن، وهو موقف معبر رفح بين القطاع ومصر. والذي تشير الدلائل إلى احتمالات قبول حماس تسليم إشراف الجانب الفلسطيني عليه إلى السلطة. فلو تحقق هذا، سيكون مدخلا يمكن البناء عليه لاحقا لعودة السلطة إلى غزة.

مصر والأطراف الأخرى
بعد إسرائيل والفلسطينيين، تأتي مصر في صدارة الأطراف المتأثرة بالعدوان ونتائجه. ويمكن القول إن مصر خرجت بمكاسب حقيقية سياسية بل ميدانية أيضا، والمقصود بالميدانية هنا ما يتعلق تحديدا بمعبر رفح. فالاتفاق على تسليم الجانب الفلسطيني من المعبر للسلطة لا يصب فقط في صالح أبو مازن في سياق العلاقة بين السلطة وحماس، لكنه يصب أيضا في صالح مصر 3 يوليو التي تتحفظ بشدة على سيطرة حماس على غزة. وتريد التعامل مع الفلسطينيين من خلال السلطة الرسمية. فهي تتعاطى مع سيطرة حماس على غزة اضطرارا بحكم الأمر الواقع.

ميدانيا أيضا، يصب تدمير أعدادا كبيرة من الأنفاق بين مصر والقطاع في صالح الموقف المصري الراهن الذي يرفض وجود تلك الأنفاق. وتم ذلك دون أن تتحمل القاهرة أعباءه الفعلية والمعنوية، إذ تكفلت إسرائيل بالمهمة.

يمكن القول إن مصفوفة الرابحين والخاسرين من "الجرف الصامد" تبدأ بأكبر الخاسرين، إسرائيل التي خرجت منه بخسائر فادحة عسكريا وسياسيا، وتنتهي بحماس وفصائل المقاومة، التي -رغم الخسائر البشرية والمادية- حققت مكاسب سياسية عميقة

ربحت مصر أيضا من عدوان إسرائيل على غزة، عودة الدور المصري المحوري في القضية الفلسطينية، وهو وإن لم ينته في السابق، إلا أنه كان تعرض للانكماش لاعتبارات كثيرة داخلية وإقليمية. وإن ساعدت مواقف أطراف أخرى على تثبيت الدور المصري كراع للتوصل إلى التفاهم النهائي، منها إسرائيل والسلطة الفلسطينية. الأمر الذي دعم موقف مصر في مواجهة تحركات أطراف أخرى كانت جاهزة للرعاية أو المشاركة في إنهاء العدوان، على رأسها تركيا وقطر.

لكن مقابل تلك المكاسب، خسرت مصر لدى الشارع الفلسطيني، نتيجة مواقفها في بداية العدوان بإغلاق معبر رفح وتحميل المقاومة مسؤولية العدوان، والحياد السلبي تجاه العمليات الإسرائيلية. وهو ما سينعكس بالضرورة على التعاطي الفلسطيني خصوصا في غزة، مع الدور المصري مستقبلا.

كما يمكن اعتبار خروج حماس والمقاومة بانتصار مواز للإخفاق الإسرائيلي عسكريا وسياسيا، بمثابة خسارة وفقا للرؤية المصرية السلبية تجاه حماس والوضع القائم في غزة. إذ لم تنجح تلك أبيب في تدمير قدرات أو حتى سلطة حركة حماس "الإرهابية" في نظر مصر الرسمية.

وهكذا، يمكن القول إن مصفوفة الرابحين والخاسرين من "الجرف الصامد" تبدأ بأكبر الخاسرين، إسرائيل التي تعمدت شن عدوان ثم خرجت منه بخسائر فادحة عسكريا وسياسيا في الخارج والداخل، إلى حد قد ينهي وجود نتنياهو السياسي. وتنتهي بحماس وفصائل المقاومة، التي -رغم الخسائر البشرية والمادية- حققت مكاسب سياسية عميقة ستعيد تشكيل المعادلة الفلسطينية بتثبيت المقاومة رقما أساسيا لا يمكن استئصاله منها. ومكاسب ميدانية مرحلية بإثبات قدرتها على خوض حرب غير متماثلة ضد آلة عسكرية جبارة، وإجبارها على نهاية مخجلة.

بين هذين النقيضين، تراوح حصاد بقية الأطراف بين مكاسب وخسائر نسبية. إذ لم تتح لدول عربية وإقليمية فرصة الاضطلاع بدور أو القيام بتحركات واسعة (خصوصا تركيا وقطر)، وبالتالي لم تختبر بما يكفي لحساب الأرباح والخسائر بالنسبة لها، وإن كان غياب الفرصة للعب دور، يمثل بذاته خسارة لمكسب افتراضي كان يمكن تحقيقه.

أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية ومصر، فجرد الحساب يشير إلى مكاسب نسبية ولو على المدى القصير، بينما المحصلة متوازنة إلى حد كبير بالنسبة لمصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.