تنصيب أردوغان وتدشين "تركيا الجديدة"

Turkey's Prime Minister Tayyip Erdogan sits amoung members of his ruling AK Party (AKP) during a meeting at the party headquarters in Ankara on August 14, 2014. Turkish Prime Minister Recep Tayyip Erdogan on Thursday warned against the danger of any split in his ruling party, as he prepares to take presidency later this month to extend his domination of the country. AFP PHOTO / ADEM ALTAN

مثالب تركيا القديمة
ملامح تركيا الجديدة
هواجس العثمانية الجديدة

بإعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة إثر حصده قرابة 52% من الأصوات، في أول اقتراع شعبي عام مباشر لاختيار رئيس الجمهورية التركية، وتأهبه لتقلد مهام عمله رسميا بوصفه الرئيس الثاني عشر في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، يكون أردوغان قد وضع أقدامه على أسرع الطرق لاستكمال "الجمهورية التركية الثانية"، التي دأب طوال حملته الرئاسية وبعيد إعلان نجاحه على وصفها بـ"تركيا الجديدة".

وطيلة الماراثون الانتخابي، حرص أردوغان على الإيحاء بأن هناك برنامجين انتخابيين يتضمنان مشروعين لتركيتين يطرحان خلال الانتخابات الرئاسية، أولاهما قديمة ينحاز إليها مرشح المعارضة بتوجهاته وأهوائه، بينما يتبنى ثانيتهما أردوغان برؤيته وبرنامجه الانتخابي.

فالرجل خاض السباق الرئاسي متوخيا الفوز بمنصب الرئاسة والبقاء فيه لمدتين رئاسيتين حتى يدرك العام 2023 وهو رئيس واسع الصلاحيات للجمهورية التركية، بما يعينه على إتمام مشروعه الهادف إلى بناء "تركيا الجديدة" أو الجمهورية الثانية، التي ينوي الإعلان عن بزوغها في ذات العام بالتزامن مع إعلان أفول "تركيا القديمة" أو جمهورية أتاتورك الأولى التي تأسست عام 1923 ودامت مئوية كاملة حفلت بالتقلبات والانعطافات المثيرة.

مثالب تركيا القديمة
ربط أردوغان بين تركيا التي كانت سائدة قبل وصول حزب العدالة للحكم في العام 2002، وتلك التي كان يتطلع منافساه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى إقامتها حالة فوز أي منهما، واصفا كلتيهما بـ"تركيا القديمة" التي كانت تموج بالتسلط والانقسامات والمؤامرات والصراعات الداخلية إلى حدٍّ كبّلها عن الانطلاق نحو غد مشرق، كما عرقل ترسيخ الديمقراطية والاستقرار في ربوعها.

خاض أردوغان السباق الرئاسي متوخيا الفوز بالرئاسة والبقاء فيها مدتين رئاسيتين حتى يدرك عام 2023 وهو رئيس واسع الصلاحيات، بما يعينه على إتمام مشروعه الهادف إلى بناء "تركيا الجديدة" أو الجمهورية الثانية، التي ينوي الإعلان عن بزوغها في ذات العام

وقد تعرض أردوغان خلال حملته الدعائية الرئاسية لبعض مثالب "تركيا القديمة"، حيث ندد بسعي ما أسماه "الكيان الموازي"، المتغلغل في مفاصلها -والذي يقوده فتح الله غولن من أميركا- لإجهاض تطور تركيا ونهضتها وتقويض ديمقراطيتها، واتهم أردوغان أحزاب المعارضة باللجوء إلى أساليب ملتوية، بالتعاون مع ذلك الكيان، لانتزاع منصب الرئاسة بطرق غير شريفة أبعد ما تكون عن السياسة.

كذلك، انتقد أردوغان لجوء منافسه الأبرز ومرشح المعارضة العلمانية أكمل الدين أوغلو إلى تخفيض سقف تطلعات الأتراك والهبوط بها إلى حاجات أولية تجاوزتها إنجازات أردوغان وحكومته طيلة سنوات عشر خلت، إذ جعل شعار حملته الرئاسية "لأجل الخبز.. أكمل الدين" متجاهلا بذلك الرخاء الاقتصادي والتطور الاجتماعي والسياسي المذهل اللذين شهدتهما تركيا خلال العقد المنقضي.

وتوخيا لطي صفحة ما وصفه بـ"تركيا القديمة"، التي اعتبر أن حزبَي الشعب الجمهوري والحركة القومية المعارضيْن اللذين رشّحا أكمل الدين إحسان أوغلو للرئاسة، تحالفا لأنهما يريدان العودة إليها ومواجهة التغيير الذي يقود إلى تركيا الجديدة، من خلال الابتزاز والمؤامرات بعدما لم ينجزا أي شيء خلال مشاركتهما في الحكومات السابقة سوى دمار ودموع وظلم وفقر وأزمات اقتصادية؛ دشن أردوغان حملته الرئاسية بشعار براق هو "تركيا جديدة 2023″، طوى بين ثناياه ملامح جمهوريته الجديدة، التي يسعى إلى إرساء دعائمها بعد تعظيم صلاحيات رئيس الدولة، والبقاء لمدتين رئاسيتين، كلٌّ منهما خمس سنوات.

وفي آخر خطاب له خلال حملته الانتخابية بمدينة قونية بوسط تركيا يوم التاسع من أغسطس/آب، حاول أردوغان تفنيد مثالب "تركيا القديمة" من خلال تسليط الضوء على مزايا ومناقب "تركيا الجديدة".

وبعدما أظهرت النتائج الأولية للاستحقاق الرئاسي مساء يوم الاقتراع فوز أردوغان برئاسة تركيا، قال في خطاب النصر الذي ألقاه من شرفة مبنى حزب العدالة والتنمية بأنقرة أمام نحو 200 ألف من أنصاره: "فلنبدأ فترة مصالحة اجتماعية جديدة اليوم، ولنترك المناقشات القديمة في تركيا القديمة". وتعهد بمنع الالتفاف على الديمقراطية.

ملامح تركيا الجديدة
حدد أردوغان أبرز معالم تركيا الجديدة أو جمهوريته الثانية فيما يلي:
أولا: انتخاب الشعب رئيسه للمرة الأولى بالاقتراع العام المباشر وليس من خلال اقتراع غير مباشر داخل البرلمان، حيث يعتبر أردوغان إجراء كهذا بمثابة خطوة أولية جوهرية على طريق تركيا الجديدة، الأكثر ديمقراطية ومؤسسية، والتي تحقق مبدأ توكيد السيادة للشعب.

ثانيا: اعتماد النظام الرئاسي: فمنذ شخص أردوغان ببصره صوب كرسي الرئاسة بقصر شانقيا قبل سنوات وهو يتطلع إلى توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية. فإبان إلقائه خطاب ترشحه، أعلن صراحة نيته تخطي سلطات رئيس الجمهورية التقليدية، سواء من خلال العمل على تعديل الدستور، أو عبر فرض أمر واقع بصفته الرجل الأقوى في الحزب الحاكم، الذي وقع نوابه في البرلمان الـ311 جميعا خطاب ترشيح أردوغان، مع أنه يكفي 20 توقيعا فقط ليصبح الترشيح قانونيا. وقبيل ساعات من بدء الاقتراع وجّه أردوغان واحدا من أقوى نداءاته للشعب مطالبا إياه بقبول النظام الرئاسي.

ومن جانبهم، يبرر رموز وأقطاب وإعلام حزب العدالة والتنمية مساعي الرئيس المنتخب لتوسيع صلاحيّاته بعدة اعتبارات، أبرزها: كونه أول رئيس منتخب مباشرة من الشعب وفقا لتعديل دستوري جرى العام 2010 وليس بأغلبية أصوات نواب البرلمان كما كان معمولا به سابقا، وحصده نسبة 52% من الأصوات، متفوقا بذلك على النسب المئوية التي كان الحزب الحاكم يحصل عليها في الانتخابات البرلمانية والبلدية.

فاز أردوغان وحزبه منذ عام 2002 وحتى عام 2014 في تسعة استحقاقات انتخابية، ما بين برلمانيّة ومحليّة ورئاسيّة وبنسب أصوات متنامية، كما انتخب الرئيس لأول مرة من الشعب. ومن ثم يرى أنصاره أنه من غير الإنصاف أن يبقى منصبه شرفيا وفخريا

كما أن أردوغان وحزبه، منذ عام 2002 وحتى العام 2014 فازا في تسع استحقاقات انتخابية ما بين برلمانيّة ومحليّة ورئاسيّة وبنسب أصوات متنامية، هذا علاوة على تغيير الفترة الرئاسية من ولاية واحدة فقط للرئيس مدتها سبع سنوات إلى ولايتين متتاليتين مدة كل منهما خمس سنوات، ومن ثم يرون أنه من غير الإنصاف أن يبقى منصبه شرفيا وفخريا!

وفي سبيل توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، ينوي أردوغان السير بالتوازي في عدة مسارات:

– ممارسة صلاحيات الرئيس كاملة حسبما وردت في المادة 104 من الدستور الحالي، والتي لم يجترأ أي من الرؤساء السابقين على مباشرتها بحذافيرها تلافيا لإغضاب الجيش، إلى جانب كونهم غير منتخبين مباشرة من الشعب ومنها: دعوة البرلمان إلى الانعقاد وافتتاح أولى جلساته، والتوقيع على القوانين الجديدة، وتعيين وعزل رئيس الوزراء بعد موافقة البرلمان، إضافة إلى ضمان تطبيق الدستور، والحفاظ على اتساق وانتظام المهام التنفيذية للجهات الحكومية، وترؤس اجتماعات الحكومة ورئاسة مجلس الأمن القومي ومجلس الإشراف على الدولة الذي يتولى تدقيق الهيئات العامة، و دعوة مجلس الوزراء للانعقاد تحت رئاسته عند الضرورة، والدعوة للانتخابات البرلمانية، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية.

– استغلال كاريزميته وقوة شخصيته وإنجازاته، فضلا عن وجود رئيس حكومة ورئيس حزب شاب موال له أو متناغم معه بعيدا عن الحرس القديم كداود أوغلو، وممارسة صلاحيات رئيس بنظام رئاسي فعليا وليس قانونيا، خصوصا إذا ما نجح النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية، الذي يمنع ترشح النائب لدورة رابعة، في تنحية جميع قيادات الحزب المؤسسة من رجالات الحرس القديم، والزج بوجوه شابه معتدلة لخوض الانتخابات البرلمانية التي ستجرى بعد ثمانية أشهر أو أقل في حال اللجوء لانتخابات مبكرة. وهو ما يعني انتخاب نواب موالين تماما لأردوغان من الوجوه الجديدة التي ليس لها ثقل وتجربة تمكنها من التجرؤ على مناقشة سياساته أو مراجعتها.

– إدخال تعديل دستوري محدود يعيد توزيع السلطات بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وذلك من خلال إحدى آليتين: أولاهما، إجراء استفتاء شعبي، وثانيتهما، تمريره عبر البرلمان بعد فوز حزب العدالة بـ330 مقعدا في الانتخابات البرلمانية المقبلة بما يخوله توفير أغلبية لتعديل الدستور وتغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي تدمج فيه صلاحيّات رئيس الوزراء مع صلاحيّات رئيس الجمهوريّة، أو نظام شبه رئاسي يصبح فيه منصب رئيس الحكومة خاضعا لإرادة رئيس الجمهورية دون الحاجة إلى تحالفات مع الكتل البرلمانية لأحزاب أخرى أو إجراء استفتاء شعبي غير مضمون النتائج.

ثالثا: التخفيف من غلواء العلمانية الأصولية المتطرفة المعادية للدين والقوميات غير التركية، التي تبناها أتاتورك ومن والاه، وتحويلها إلى علمانية غير معادية للدين أو القوميات غير التركية في سياق ما اصطلحت النخب الفكرية المغاربية على تسميته "العلمانية المؤمنة"، الأمر الذي يستوجب مصالحة الأتراك مع تاريخهم ومع الإسلام الذي همّشه أتاتورك ومن سار على خطاه من الكماليين.

رابعا: تطوير التجربة الديمقراطية، والتقدّم في تطبيع الحياة السياسية والاجتماعية، ورفع مستوى الرفاهية للأتراك، ووضع تركيا بين قائمة الدول الرائدة في العالم.

خامسا: إبقاء الجيش بمنأى عن السياسة على نحو ما ظهر جليا خلال الانتخابات الرئاسية، حيث التزم الجيش الحياد ونأى بنفسه بعيدا عن التجاذبات السياسية التي تسود الشارع التركي.

وربما يعد ذلك ثمرة لجهود أردوغان طيلة السنوات القليلة الماضية من أجل تقليص النفوذ السياسي للجيش، والتي بلغت ذروتها في تعديل المادة 35 من قانون المؤسسة العسكرية لعام 1960، والتي كان الجيش يتخذ من تفسيرها مسوغا دستوريا للتدخل في السياسة، إذ كانت تنص على "أن وظيفة الجيش هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية كما هي محددة في الدستور"، لكن النص الجديد المعدل في 13 يوليو/تموز 2013، يؤكد أن "مهمة الجيش تنحصر في الدفاع عن الوطن والجمهورية تجاه التهديدات والأخطار الخارجية، والسعي إلى الحفاظ على القوة العسكرية وتعزيزها، بحيث تشكل قوة رادعة للأعداء، والقيام بالمهمات الخارجية التي تسند إليه من قبل البرلمان التركي، والمساعدة على تأمين السلام العالمي".

يخشى معارضو أردوغان من أن تكون البلاد بصدد ولادة نسخة ثانية من الجمهوريّة التركيّة، بالتوازي مع ولادة أتاتورك جديد، وربما عودتها نحو الأسلمة والمحافظة والعثمنة، بقيادة أتاتورك إسلامي عثماني معاصر

سادسا: إنهاء ما يعرف بـ"الكيان الموازي"، ويقصد به حركة "خدمة"، التابعة لعدو أردوغان اللدود، فتح الله غولن، الذي وصف أردوغان ما وجهته من اتهامات بالفساد لأردوغان ورجاله المقربين وبعض أفراد أسرته نهاية عام 2013؛ بـ"محاولة انقلاب ديسمبر".

وأكد أردوغان أنهم عازمون على تعقب الكيان الموازي، بكل حزم. وأنه مضطر لتعقبهم وتتبعهم، لأنهم خطر على الأمن القومي، لذا بدأ مع اقتراب إجراء الانتخابات الرئاسية يشن حملة قوية لتطهير أجهزة الشرطة والقضاء والإعلام من عناصر الكيان الموازي.

هواجس العثمانية الجديدة
يتخوف معارضون أتراك من نهم أردوغان لجمهوريته الثانية وتركيته الجديدة، وما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من تداعيات بالتزامن مع تحويل نظام الحكم في البلاد إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، خصوصا مع قلقهم من نزعات أردوغان التسلطية التي قد لا تقرب البلاد من النموذجين البريطاني أو الفرنسي بقدر ما تنزلق بهم في غياهب الأنظمة الشمولية ببلدان العالم الثالث، والاتجاه بتركيا نحو سلطوية بصبغة إسلامية.

ويخشى هؤلاء من أن تكون البلاد بصدد ولادة نسخة ثانية من الجمهوريّة التركيّة، بالتوازي مع ولادة أتاتورك جديد، وربما عودتها نحو الأسلمة والمحافظة و"العثمنة"، بقيادة أتاتورك إسلامي وعثماني معاصر.

والخشية قائمة لديهم من أن تغدو "الأردوغانية" هي الوجه الآخر الإسلامي للكمالية، لجهة الاستبداد والتفرّد وعبادة الزعيم الفرد. وفي هذا الخصوص وصفت صحيفة "سوزجو" أردوغان تهكما بـ"السلطان العثماني السابع والثلاثين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.