رمال الشرق المتحركة

دور تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا
الجزيرة

أسئلة المستقبل في خرائط وأوضاع المشرق العربي متعددة، فهو يعيش لحظة ذهول من تسارع الأحداث، ونشوء جماعات قوة خارج السياق العام للتوقع الإستراتيجي.

إن تلك الأحداث تمثل انعطافا نوعيا للمجهول مع تقاطر للمعارك أو المواقف والتطورات بصورة لم يعشها الشرق منذ اعتماد خطة سايكس بيكو وما تبعها من أمواج الحرب الباردة.

والتعلّق بكل حقيبة خرائط يُلقي بها الغرب عن مستقبل المشرق العربي وتقسيم دوله ليس رأيا متوازنا، فهذه الخرائط قد تكون بالفعل تحمل تهيئة لأحد التصورات أو تسريبا حقيقيا لرؤية التخطيط الإستراتيجي في البنتاغون لما قد تؤول له الأحداث ضمن تصورات أخرى تغيّر خط هذه الخريطة أو تعدها فرضية مستقبلية، وليس بالضرورة أن تكون مشروعا مخابراتيا غربيا كاملا، لكن الغرب دائما خاصة واشنطن تستعد لكل هذه الاحتمالات.

ولعل ما ذكره وليد جنبلاط من تعليق في حلقة "بلا حدود" مع الإعلامي أحمد منصور في قناة الجزيرة مؤخرا هو لفتة ذكية عما يمكن تسميته بمفاوضات الخرائط، وتدخل أتاتورك حينها في تغيير النماذج الأولى التي سبقت سايكس بيكو وخضوع الحلفاء له في حينها فيما يتعلق بفصل القسم الكردي من تركيا، فتم تغيير المقترح واعتمدت الخرائط الجديدة التي يعيشها الوطن العربي اليوم.

الخرائط التي يلقي بها الغرب قد تكون تهيئة لأحد التصوّرات أو تسريبا حقيقيا لرؤية التخطيط الإستراتيجي في البنتاغون، وليس بالضرورة أن تكون مشروعا مخابراتيا غربيا متكاملا

وما يهم في إشارة وليد جنبلاط هو أن مقترحات الغرب خضعت للقوة الإقليمية الأقوى، وهي تركيا، حينها عقب انتصار الجيش التركي -بعد سقوط الدولة العثمانية وقيام تركيا الحديثة- أمام الحلفاء الغربيين، وأنّ خط التغيير خضع لقوة هذا الإقليم الذي فرض في حينه رؤيته فيما يتعلق بخريطة دولته ومن ثم تعامل مع قواعد اللعبة الجديدة لخرائط بقية الدول، أو الدول التي أُنشئت ولم تكن أصلا دولا.

هنا أحد أهم موازين قراءة المستقبل للمشرق العربي، ومن هي القوة الإقليمية اليوم ذات الشأن وأين تتوجه علاقاتها مع الغرب في حال حصول انهيار كامل لمنظومة المشرق العربي، وهو انهيار إن حدث قد لا يكون مخططا له بالضرورة من طرف هذه الدول، ولكن تتابع الأحداث وبروز جماعات عابرة للحدود خاصة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) قد يخلق فوضى شاملة تحاول القوى الدولية معها ضبط خرائطها خيارا أو اضطرارا مع بقاء دوائر صراع شرس ومخيف يضرب في محيط المشرق ويمزقه طائفيا وديمغرافيا، لكن هذه القوى تسعى لمحاصرة خيوطه وخطوطه حتى تَقدِر على توجيه معادلته بعد أن يُستنزف كليا.

وجملة العناصر التي تعيشها المنطقة في أقل تقدير تطرح صعودا لهذا المستقبل من الفوضى، ومنذ نقض الربيع العربي خاصة في مصر وما تلاه من تقاطعات استخبارية وشراكة عربية وإيرانية مع موسكو وواشنطن تجاه الثورة السورية ازدادت حينها مساحة الاحتقان ومقدمات الانفجار في تيارات أيديولوجية كانت قد هدأت مع رياح الأحلام السياسية للربيع العربي.

لكن هذا الإسقاط الدامي غيّر المزاج العام كليا وبنى داخل المجتمعات العربية ومستوياتها الشبابية خاصة استعدادات نفسية هائلة للمواجهة، بدا معها واضحا أن داعش تحصد منها ثروة بشرية كبيرة، وتستطيع أن توجهها بجدول لا يُراجِع لماذا تُشعل هذه المعركة هنا ولماذا تُوقف هناك، هذا في مناطق المواجهة أمّا مناطق الترقب فهي تتأثر برياح فكرية وسياسية متعاطفة مع داعش أو مضطربة مع أخبارها وهو يخلق هشاشة كبرى وفراغا خطير في ظل انعدام أي مشروع أو أمل إصلاح سياسي في هذا المشرق.

وفي الوقت نفسه فإن انفجار صراعات أجهزة المخابرات العربية والإقليمية والدولية لتحييد آثار الانفجار الجديد في العراق وسوريا عن حدود ومصالح كل دولة يُعزّز أرضية هذه الفوضى، مع الأخذ بالاعتبار دور التوظيف الأمني السابق واختراقاته لبعض سياسات داعش أو مجموعاتها في خلق هذه الفوضى.

إن رسم صورة واقعية للوضع يبرز عبر قراءة مشهد المعارك في سوريا وإعلان داعش الخلافة وتعزز قوتها عبر مخازن السلاح الضخمة وأموال صادراتها، ثم هيمنتها على أغلب ديالى وقربها من سامراء ووصولها إلى 80 كلم من حزام بغداد يعطي دلالة لحجم هذا التطور الجديد.
 
انفجار صراعات أجهزة المخابرات العربية والإقليمية والدولية لتحييد آثار الانفجار الجديد في العراق وسوريا عن حدود ومصالح كل دولة يُعزّز أرضية الفوضى الدائرة حاليا بالمنطقة
فإذا أضفنا إلى ذلك تقدمها في سوريا وتتالي حصار وضعف جبهات الثوّار أمام الدعم المقنن العربي العجيب، الذي يُدير المعركة كساحة حرب دائمة وليس لقوة الثورة وتوحيدها، وهو ما ساهم في نجاح الحصار المنسق والمزدوج لداعش مع نظام الأسد لمواقع عديدة للثورة، ولم يوقف قصف النظام لداعش في الرقة التنسيق معها في أطراف أخرى.
 
هذه الصورة تقدم لنا مضمونا محددا هو أن كل جهة تتعامل بحسابات دعم أو مواجهة مع داعش تستفيد منها لخطتها، فإلى أين ستتجه هذه التقاطعات؟ وهل تستطيع أن توقف داعش أم أن حسابات داعش هي ما سيحسم الأمر؟

إن التوجيه المعنوي الضخم لداعش للتوجه جنوبا مع الحدود السعودية يُعطي مؤشرا حول خطة هذا التنظيم، وهو يؤكد هذا الاضطراب الشامل مع الأخذ بالاعتبار صعود شعبية داعش في المملكة والخليج العربي تحديدا هذه الأيام، مع إعلانها عن هويتها القتالية والسياسية والدينية بصرامة.

فمرجعها هو السلفية الطائفية التي تقوم على تصور محدد خارج الفقه السلفي المعتدل، حيث يقوم على أركان عقائدية وأيديولوجية شرسة ضد المدارس السنية، وترى داعش في اجتهادات هذه المدارس وميراثها الشرعي الضخم من طبقات المذاهب الأربعة، أو نماذجها السياسية والفكرية من الإخوان إلى التبليغ ومن تجربة تركيا إلى مقاومة حماس أن كل ذلك ضمن مذاهب الضالين المبتدعين أو الكفار المرتدين، وعليه فنحن هنا نتحدث عن فكر يقدم دينا مختلفا عن مسار الرسالة الإسلامية ويقاتل الناس عليها.

وتزداد القضية خطورة حين تستدعي داعش وبكثافة الدعوة الوهابية في بيانات وتغريدات حساباتها، وتتضح بسهولة لكل متابع كمرتكز رئيسي لتثقيفها دون سواها في مناهضتها للمدارس السنية وبالتالي عدم قبول فقهها، أو في تشريعاتها لأعمالها الحربية وارتباط ذلك بسياق الاستقطاب الشبابي في المنطقة، وهو تطوّر لم يكن لدى القاعدة بهذا التجسيد والارتباط كما تطرحه داعش، وبغض النظر عن جدلية المناقشة في هذا الأمر الذي يحتاج لاستعراض وتحرير، لكنه في حد ذاته مؤشر خطير للغاية مع تغييب الخطاب النقدي والإصلاحي الديني.

وهذا يحتاج إلى تفصيل أكبر لسنا بصدده اليوم في أصول الفكرة الأيديولوجية لداعش وقضية تصنيفها لأهل السنة بحكم أنهم العمق الديمغرافي لها، والفرق بينها وبين أصول فكر تنظيم القاعدة الذي يتعرض لعملية ضغط شديد من داعش رغم وجود تطرف أصلي لديه، بل إن الملا عمر بذاته وطالبان مع تشددها مع الغرب وانتصارها على الناتو مرتدة أو مشركة -وفقا لخطاب داعش- لانتمائها لهذه المدارس السنية التي تُكفّرها داعش، أي أن الشرق يواجه اليوم حالة تكفير مسلح وتشظ غير مسبوق.

وعودة هذه العقيدة أي السلفية الطائفية تحديدا إلى واجهة الانتماء والتطهير الديني الذي تطرحه داعش وما يُقابله من تعاطف كان يستتر أو يعتقد بقضية نصرة المسلمين ثم يتحول إلى مواجهة هؤلاء المسلمين السُنّة أنفسهم لتطهيرهم عقائديا أو ذبحهم، يعد توجها خطيرا في هذه المرحلة. والأخطر أنه يُلاقي فكرة منتشرة مدنيا أثناء الدعم الضخم الذي تلقته قديما لاستخدام الفكرة لمصالح سياسية وغربية ضد حواضر العالم السنية.

بغض النظر عن حجم ما قد يتحقق مستقبلا من نفوذ لداعش أو حرب مواجهة معها مدعومة غربيا، فما تقدمه الرمال الزاحفة يؤكد أن هناك خيوطا وخطوطا جديدة تنشأ في هذا المشرق

وتتعزز هذه الفوضى مع صعود الطائفية الشيعية في موقع جديد بعد العراق وسوريا عن طريق الحركة الحوثية في اليمن وانهيار الدولة تماما في معركة عمران التي تُنذر باندلاع حرب أهلية حتى مع انسحاب الحوثيين منها عبر تسليم الجيش صعدة لهم بالكامل وسحب الجيش منها وخضوعها لإدارة سياسية تابعة للحوثي، والذي يتضح فيه أن مستوى الدعم الإيراني المفتوح يُعطيه صعودا مطردا لحسم كيانه الانفصالي إذا لم يستطع الهيمنة على اليمن ككل.

كل هذه الأحداث وارتداداتها الثقافية العميقة باتت تعصف بالمنطقة بغض النظر عن حجم ما قد يتحقق مستقبلا من نفوذ لداعش أو حرب مواجهة معها مدعومة غربيا، فما تقدمه الرمال الزاحفة يؤكد أن هناك خيوطا وخطوطا جديدة تنشأ في هذا المشرق.

ومن ذلك استباق تركيا قضية إعلان كردستان دولة منفصلة برسالة تفاهم مع مسعود البارزاني يُحدد تصورها الذي يخصها في أمنها الإقليمي، حيث إن أنقرة رصدت التطورات المحيطة بها من العراق وسوريا ورصدت حجم العداء الإقليمي العربي لها الذي استهدف حكم العدالة ومستقبل تركيا الديمقراطي ورفض أن يتعاون معها، وعليه فإن التفاهم مع مشروع الانفصال الكردي في العراق ما دام الانفصال سيجري في كل الأحوال وضمان دعم البارزاني لمصالحة الأكراد الأتراك هو خيار اضطراري مقبول ومطلوب لدى أنقرة يمكنها التعامل دون المرور ببوابة واشنطن، وتقف عند ما يخصها وتترقب.

فيما سيكون المشروع الكبير وكنتيجة للتطورات أن يلتفت الغرب إلى قوة إيران الإقليمية للتعامل معها فيما يواليها من حدود وجغرافيا، وهو ليس خيارا مطلوبا للغرب بالضرورة، ولكنه تعامل واقعي مع مستقبل الشرق الجديد وإيران في خرائط الرمال المتحركة وأين تقف فيها الحدود والوجود العربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.