تراجع أسعار النفط يفاقم المأزق الإيراني

الواقع الاقتصادي الضاغط على المواطن الإيراني

عقوبات نفطية
أعباء اقتصادية
انخفاض أسعار النفط

لطالما انبلج تواضع جدوى العقوبات المفروضة على إيران، سواء تلك الجماعية من قبل الأمم المتحدة أو الفردية من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهما، والتي فرضت تباعا على الجمهورية الإسلامية منذ عام 2006 وحتى اليوم بجريرة أنشطتها النووية، بسبب نجاح نظام ولاية الفقيه في تحييدها عبر التحايل عليها بطرق شتى أفضت إلى تقليص تأثيرها عليه وعلى بلاده إلى أدنى حد ممكن، أو إلى مستوى يمكن احتماله بتكلفة مقبولة حتى حين.

وطوال سنوات لم يتوان النظام الإيراني عن التفاخر بتراجع تأثير العقوبات على إرادة الإيرانيين وصمودهم، مدعيا أنها تحثهم على التحدي والإبداع للتغلب عليها، وتوفير كافة احتياجاتهم ذاتيا، كما خولتهم تحقيق قفزات تكنولوجية هائلة للأمام تجلت أبرز ملامحها في تطوير برنامجهم النووي، وإعلان النظام ما بين الفينة والأخرى عن تصنيع سلاح جديد ومتطور محليا، من طائرات بدون طيار إلى غواصات وصواريخ متوسطة وطويلة المدى، في الوقت الذي لم تتوقف المناورات العسكرية عن توجيه رسائل سياسية إلي الأعداء والمتربصين تؤكد خلالها طهران صدقية إستراتيجيتها الردعية وجاهزيتها العسكرية للتصدي لأي تهديد محتمل.

بيد أن الجديد في أمر هذه العقوبات أن قدرة النظام الإيراني على التحايل عليها وتحييدها أو التقليل من تأثيرها قد بدأت تتآكل خلال الآونة الأخيرة مع الانخفاض المثير في أسعار النفط، علاوة على كثافة العقوبات وتنوعها وشمولها، فضلا عن تكاتف الدول الكبرى وتحقق الإجماع الدولي، سواء في فرضها أو تطبيقها، إضافة إلى تفنن الغرب في وضع آليات ناجعة للرقابة والمتابعة والتحقق من تنفيذ تلك العقوبات على أرض الواقع، الأمر الذي أسفر عن تفاقم سخط الشعب الإيراني على نظامه على وقع التدهور الاقتصادي والمعيشي.

عقوبات نفطية
لا مراء في أن تأثير العقوبات على الاقتصاد الإيراني قد تعاظم بعدما طالت قطاع الطاقة الذي يمثل العمود الفقري لذلك الاقتصاد، إثر صدور القرار الأممي رقم 1929 في 9 يونيو/حزيران 2012، ثم توقيع الرئيس الأميركي أوباما قانونا لتمويل وزارة الدفاع يقضي بتغليظ العقوبات على القطاع المالي الإيراني من خلال تجميد أرصدة أي مؤسسة مالية أجنبية تقوم بتبادل تجاري مع المصرف المركزي الإيراني في قطاع النفط، علاوة على تجميد الأصول الإيرانية في الولايات المتحدة.

وعلى أثر ذلك تراجع إنتاج إيران من النفط بشكل ملحوظ وانخفضت صادراته من أربعة ملايين برميل يوميا إلى 1.1 مليون برميل فقط. وبدورها، هرعت أكبر الدول المستوردة للنفط الإيراني كالصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند لتقليص وارداتها تلك بواقع النصف تقريبا، تجاوبا منها مع العقوبات الدولية التكميلية المفروضة على طهران.

تراجع إنتاج إيران من النفط بشكل ملحوظ وانخفضت صادراته من أربعة ملايين برميل يوميا إلى 1.1 مليون برميل فقط. وبدورها، هرعت أكبر الدول المستوردة للنفط الإيراني كالصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند لتقليص وارداتها تلك بواقع النصف تقريبا

بيد أن الأوقع من ذلك أثرا كان تفاقم التحديات أمام أنشطة صيانة وتجديد المنشآت النفطية وعمليات تكرير مشتقات النفط بعد اشتداد وطأة العقوبات على نحو أدى إلى إضعاف قدراتها الإنتاجية وتقويض إمكاناتها التكريرية جراء حرمانها من التقنية الغربية المتطورة في مجالات الإنتاج والتطوير والتكرير بالتوازي مع عزوف الشركات النفطية الغربية عن الاستثمار في صناعة النفط الإيرانية التزاما منها بالعقوبات المفروضة على إيران.

وهو ما حرم إيران من زيادة عوائدها النفطية التي تقدر بمائة بليون دولار بما يمثل نسبة 80% من العملة الصعبة التي تحصل عليها خامس أكبر دولة مصدرة للنفط على مستوى العالم، والثانية على مستوى منظمة أوبك بعد السعودية، إذ تجمدت صفقات عديدة في مجال الطاقة بين إيران ودول أخرى بما قيمته ستون مليار دولار بعدما حالت العقوبات دون تنفيذها، خصوصا مشروع "باريس" مع باكستان والهند.

كما فاقم أزمة البنزين التي أقضت مضاجع الإيرانيين، فرغم أن احتياطي بلادهم من النفط يصل إلى نحو 10% من إجمالي الاحتياطي العالمي، وفيما تحتاج إيران إلى 66 مليون لتر بنزين يوميا لم يتسن لها أن تنتج منها سوى 44 مليون لتر فقط، بينما تضطر لاستيراد باقي الكمية المطلوبة جراء قلة المصافي بسبب العقوبات الإضافية التي فرضتها الولايات المتحدة ومن بعدها الاتحاد الأوروبي على طهران في يونيو ويوليو 2012، والتي اضطرت على إثرها أبرز شركات النفط العالمية -مثل "شل"، و"توتال"، و"فيتول"، و"غلنكور"- إلى وقف توريد مادة البنزين إلى إيران.

أعباء اقتصادية
ثمة عامل آخر يضاعف التداعيات السلبية الخطيرة على الاقتصاد الإيراني جراء العقوبات وانخفاض أسعار النفط ألا وهو إصرار نظام ولاية الفقيه على المضي قدما في الإنفاق على مشاريع إستراتيجية طموحة، كتوجيه مخصصات مالية هائلة للتصنيع العسكري رغم الضيق الاقتصادي في محاولة لإثبات قدرته على الصمود والتحدي، مما فاقم استياء الجماهير كون هذا الإنفاق العسكري يأتي على حساب الخدمات الاجتماعية والأنشطة التنموية، حيث يساعد على ازدياد العجز في الميزانيات، واشتداد التضخم النقدي، وتفاقم صعوبات موازين المدفوعات، وزيادة الديون الخارجية، وتردي مستوى المعيشة.

وبالتوازي، انزلق نظام طهران إلى إرهاق كاهل الاقتصاد والشعب الإيرانيين بسياسات استعراضية مستفزة من قبيل تقديم مساعدات مالية وعسكرية لدول وجماعات وحكومات وأحزاب سياسية، وتنظيمات مسلحة ومليشيات شبه عسكرية في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان وتركيا وسوريا وغيرها، بغرض استمالتها وتوظيفها لخدمة الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة.

يأتي هذا في الوقت الذي لم يتوان الكونغرس الأميركي -كما الدول الغربية- في مطالبة مجلس الأمن والمجتمع الدوليين بفرض مزيد من العقوبات على إيران، بل ووضع آلية صارمة لمراقبة تطبيق تلك العقوبات بكل دقة وحزم، في وقت بدأت طرق إيران للتحايل على العقوبات في الانسداد تدريجيا لاعتبارات عديدة، أهمها الإجراءات التي اتخذها المجتمع الدولي لتشديد العقوبات على إيران وضمان تنفيذها، إضافة إلى اضطراب البيئة الإقليمية المحيطة بطهران مؤخرا على خلفية الثورات العربية والحرب على "داعش".

ومع تمديد المفاوضات النووية لسبعة أشهر إضافية تنقضي بنهاية يونيو/حزيران المقبل تم إرجاء تعليق العقوبات المفروضة على إيران لتتأجل معه أحلام الإيرانيين في انتعاش اقتصاد بلادهم بعد انخراطها في أسواق المال والطاقة الدولية من جديد، وجذبها الاستثمارات الخارجية المباشرة، وتحرير أصولها المجمدة في الخارج.

انخفاض أسعار النفط
جاء الهبوط المفزع لأسعار النفط خلال الأسابيع الماضية ليربك حسابات إيران التي كانت تراهن على استثمار تفاهماتها الأخيرة مع الغرب بشأن برنامجها النووي لتقليص خسائرها جراء العقوبات عبر زيادة إنتاجها وصادراتها من النفط، فقد أطاح تدني الأسعار بهذا المستوى غير المسبوق بأحلام الإيرانيين الذين تراجعت صادراتهم النفطية تحت وطأة العقوبات من أربعة ملايين برميل يوميا إلى مليونين ومائة ألف بسعر تجاوز مائة دولار للبرميل، ثم إلى مليون فقط بسعر 66 دولارا للبرميل الواحد حاليا.

من شأن استمرار التراجع في أسعار النفط أن يجبر الحكومة الإيرانية على اتخاذ قرارات مثيرة كرفع أسعار السلع والخدمات الأساسية على نحو قد يعرضها لعواصف من الاحتجاج الشعبي بسبب عجز شريحة واسعة من الشعب الإيراني عن توفير تكلفة المعيشة اليومية

وفى حين فاقت عائدات إيران من مبيعات النفط خلال رئاسة نجاد أكثر من إجمالي المبيعات في أي وقت مضى على نحو أعطى زخما لمشروعاتها التوسعية الطموحة بالعراق وسوريا واليمن والخليج وأفريقيا خسرت طهران أكثر من 45% من عائداتها السنوية لمبيعات النفط خلال السنتين الماضيتين بسبب العقوبات الغربية.

وقد بدأ خبراء إيرانيون يتحسبون للقادم الأسوأ مع بدء هبوط أسعار النفط منذ ما يقارب خمسة أشهر، حيث عقدت الحكومة واللجنة الاقتصادية بمجلس النواب عدة جلسات لمناقشة تأثير انخفاض سعر النفط على الاقتصاد ودراسة الحلول الممكنة بهذا الصدد.

ومن شأن استمرار التراجع في أسعار النفط أن يجبر الحكومة الإيرانية على اتخاذ قرارات مثيرة كرفع أسعار السلع والخدمات الأساسية على نحو قد يعرضها لعواصف من الاحتجاج الشعبي بسبب عجز شريحة واسعة من الشعب الإيراني عن توفير تكلفة المعيشة اليومية.

وربما يضطر نظام الولي الفقيه -بالتزامن- لتقديم تنازلات في سياسته الخارجية، إذ قد يسفر اهتزاز موقفه التفاوضي عن تقليص خياراته بشكل كبير خلال المفاوضات النووية التي بلغت مراحلها الحساسة والأخيرة، بما يمهد الأجواء لإدراك اتفاق نووي نهائي.

وفي السياق ذاته، ارتأى خبراء أن انخفاض أسعار البترول وجه ضربة لقطاع الصناعات الهيدركربونية التي كان الإيرانيون يحاولون دعمها بالتكنولوجيا بعد أن تأثرت إلى حد كبير بالعقوبات المفروضة، حيث عمق تزامن انخفاض أسعار البترول مع ازدياد التوتر الجيوبوليتيكي في المنطقة، وتعاظم خطر "داعش" أزمات الاقتصاد الإيراني إلى حد قد يدفع إيران لأن تتحول من قوة باحثة عن النفوذ في المنطقة إلى بلد معتدل.

وبناء عليه، لم يتردد الرئيس روحاني في كلمة باجتماع مجلس الوزراء قبل أيام في إرجاع انخفاض أسعار النفط بالأسواق العالمية لأكثر من 40% منذ يونيو/حزيران الماضي إلى مؤامرة وخطة سياسية من جانب أطراف دولية وإقليمية.

بدوره، ذهب الخبير الإيراني مير جوانفادر إلى أن أميركا وحلفاء إقليميين يسعون لإلحاق الضرر باقتصاد إيران وقوتها العسكرية لحملها على التراجع عن إنتاج السلاح النووي من خلال خفض أسعار البترول، ولا سيما أن الحرس الثوري الإيراني -الذي يدعم مجموعات مسلحة مثيرة للقلق في سوريا والعراق ولبنان- يملك حصة في قطاع النفط الإيراني.

ومن جانبها، تدرس إيران خطة للتعاطي مع أزمة انخفاض أسعار النفط تنطوي على عدة آليات:
أولاها تبنى مزيد من الإجراءات التقشفية وتفعيل سياسة "الاقتصاد المقاوم" التي أطلقها المرشد الأعلى، وبعدما سبق وأعلنت أن ميزانية العام المقبل ستكون أقل اعتمادا على العائدات النفطية، فقد خصصت طهران نصف عائدات النفط المصدر تقريبا لصالح صندوق التنمية الوطنية.

وثانيتها: الاستعانة بصندوق الثروة السيادية الذي يحوي 62 مليار دولار من أجل سداد مستحقات المقاولين العاملين في المشروعات النفطية بما يعين تلك المشروعات على تلافي تأثير تراجع إيرادات النفط، لكن محللين اقتصاديين إيرانيين حذروا من التعويل كثيرا على هذه الآلية، ولا سيما أن هذا الصندوق لم ينج من براثن العقوبات الدولية التي ربما تكون قد جمدت شطرا من أمواله.

وثالثتها: العمل على تحقيق تقدم في الجولة الحالية والأخيرة من المفاوضات النووية الجارية مع دول السداسية الدولية بما يساعد على إبرام اتفاق نووي نهائي يفضي بدوره إلى إنهاء العقوبات المفروضة على طهران، حيث أكد نائب الرئيس الإيراني أن بلاده تتوخى تثبيت حقوقها النووية وحفظ الإنجازات وتسوية الأزمات وإلغاء العقوبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.