هل يفاجئنا تفاهم إيران وإسرائيل في العام الجديد؟

هل يفاجئنا تفاهم إيران وإسرائيل في العام الجديد؟ - فهمي هويدي

undefined

السيناريوهات المرشحة للعام الجديد باتت تحتمل طرح السؤال التالي: هل يكون التفاهم بين إيران وإسرائيل أحد خيارات إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط؟


(1)

أدري أن مجرد طرح السؤال يُعد من المحرمات لدى كثيرين ممن يعتبرون أن التفكير فيه يجرح شرعية الثورة الإسلامية التي كانت مخاصمة إسرائيل من ثوابتها، باعتبار أن معركة الإمام الخميني كانت منذ وقت مبكر ليست مع نظام الشاه وحده، وإنما كانت له أيضا حساباته المعادية للولايات المتحدة والرافضة لإسرائيل.

وبعد سقوط الشاه كان هتاف "الموت لأميركا" يقترن بتمني المصير ذاته لإسرائيل، وهى الخلفية التي جعلت قادة الثورة ورموزها منذ وقت مبكر يتحدثون عن أن تحرير فلسطين يمر بطهران، ومنهم من ظل يكرر في العلن الإشارة إلى زوال إسرائيل من خريطة المنطقة باعتباره مصيرا حتميا سيتحقق إن عاجلا أو آجلا.

ذلك كله أفهمه ولدي قرائن أخرى عديدة تعزز فكرة أن الثورة الإسلامية طوال الـ35 سنة الماضية لم تتبن موقف العداء لإسرائيل فحسب، ولكنها أيضا ساندت بقوة حركات المقاومة المناوئة لها في فلسطين ولبنان.

كثيرون بين النخبة الإيرانية لا يزالون عند مواقفهم من إسرائيل وأميركا، وليسوا على استعداد للتراجع عنها، لكني أزعم أن ثمة متغيرات في الفضاء السياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي استدعت رؤى جديدة وشجعت البعض على فتح باب الاجتهاد فيما اعتبر من ثوابت الثورة

وإذ أسجل أن كثيرين بين النخبة الإيرانية لا يزالون عند التزامهم بذلك الموقف، وليسوا على استعداد للتراجع عنه، لكني أزعم أن ثمة متغيرات في الفضاء السياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي استدعت رؤى جديدة وشجعت البعض على فتح باب الاجتهاد فيما اعتبر من ثوابت الثورة.
ولئن أسفرت تلك المتغيرات عن نوع من المصالحة مع الولايات المتحدة التي عُدت في ثقافة الثورة التقليدية رمزا للشيطان الأكبر، فإن ذلك قد يفتح الباب لقبول فكرة التفاهم مع من دونه في الشيطنة خصوصا إذا اقتضت المصلحة ذلك، وإسرائيل تحتل مكانة بارزة في ذلك التصنيف الأخير.

(2)

منذ توقيع اتفاق جنيف النووي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والمعلقون السياسيون يتنافسون على رصد خلفياته وملابساته وتداعياته.

والاتفاق منعقد بين أغلبهم على أنه يمثل طورا جديدا في العلاقات وموازين القوى العالمية والإقليمية، فمن قائل إن إدارة الرئيس أوباما اتجهت إلى إغلاق ملف عسكرة السياسة الخارجية وإنهاء الحرب في سبيل الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم قررت اتباع سياسة واقعية تعترف فيها واشنطن بنفوذ إيران ودورها، في حين تعترف طهران بالواقع الإقليمي.

وفى ظل هذه السياسة الواقعية فقد اعتبرت الإدارة الأميركية أن طهران هي نافذة واشنطن إلى طي مغامراتها سيئة المآل (في العراق وأفغانستان).

وشجعها على ذلك تراجع اهتمامها بالعالم العربي خصوصا في ظل المؤشرات القوية الدالة على احتمالات اكتفائها من النفط والغاز إزاء وفرة الاحتياطيات التي تم اكتشافها في بحر الشمال (أندرو باسيفيتش أستاذ التاريخ بجامعة بوسطن-واشنطن بوست 6/12)، ولم يبتعد محرر صحيفة "لوبوان" الفرنسية نيكولا بافاريز كثيرا عن الفكرة السابقة في تحليله المنشور في 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري.

إذ ذكر أن واشنطن مهووسة بالحفاظ على زعامتها في وجه الصين، وقررت الانتقال من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ساعدها على ذلك أنها بصدد الاستقلال في مجال الطاقة والتقليل مما تستورده من نفط الشرق الأوسط.

وفي تحولها ذاك تراجعت الأهمية النسبية للمنطقة في إستراتيجيتها، ووجدت أن اتفاقها مع إيران يمكن أن يسهم في استقرارها.

وينبه يوجين روبنسون في واشنطن بوست (في 30/11) إلى أن الاتفاق مع إيران يكتسب أهمية من عناصر عدة، في مقدمتها أنه الوسيلة الأكثر حسما في استقرار الشرق الأوسط وتجنيبه احتمالات التوتر والتصعيد المؤدي إلى محظور الحرب التي لا تريدها الولايات المتحدة أو أوروبا.

وأشار في هذا الصدد إلى أن قدرة إيران على تصنيع القنبلة النووية تزداد بمضي الوقت رغم الحصار المفروض عليها. ودلل على ذلك بقوله إن الأمم المتحدة حين فرضت عقوباتها على إيران سنة 2006 فإنها كانت تملك آنذاك ثلاثة آلاف جهاز للطرد المركزي، وهى تملك الآن 18 ألف جهاز، وتستطيع تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وهى تسعة أعشار الطريق نحو إنتاج الوقود اللازم للقنبلة.

في إيران، كتب كيهان برزكر محرر صحيفة "تابناك" الصادرة في 9/12 قائلا إن اتفاق جنيف فتح الطريق أمام تعاون أوسع مع الدول الغربية لحل القضايا الإقليمية والدولية، الأمر الذي يساعد على خروج المنظومة السياسية والأمنية من توازن القوى إلى إستراتيجية توازن المصالح والتعاون الإقليمي.

ولخص تلك المصالح في الحفاظ على الأنظمة السياسية ومكافحة الإرهاب والتطرف والتعاون من أجل شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل.

(3)

أرجو أن تكون قد لاحظت أن التحليلات السابقة -وغيرها كثير- لم تأت على ذكر أي دور للعالم العربي في الحديث عن الخريطة الجديدة للمنطقة أو موازين القوى فيها، وأن الولايات المتحدة التي جعلت مواجهة الصين على رأس أولويات سياستها الخارجية، والتي بصدد تحقيق اكتفائها الذاتي من النفط والغاز، لم تعد تطلب من المنطقة في الوقت الراهن سوى الهدوء والاستقرار وأمن إسرائيل بطبيعة الحال.

لا ذكر لأي دور للعالم العربي في الخريطة الجديدة للمنطقة أو موازين القوى فيها، خصوصا أن واشنطن التي بصدد تحقيق اكتفائها الذاتي من النفط والغاز، لم تعد تطلب من المنطقة في الوقت الراهن سوى الهدوء والاستقرار وأمن إسرائيل بطبيعة الحال

ولأن العالم العربي بأوضاعه غير المستقرة وبالوهن الذي أصابه لم يعد قادرا على توفير الاستقرار المنشود، فقد اتجهت الأبصار إلى عناصر من خارجه يمكن أن تقوم بهذه المهمة.

في هذا الصدد، فإن الاتفاق مع إيران أصبح مهما، ليس فقط بسبب أهميتها الإستراتيجية وثبات أوضاعها السياسية وقدرتها النفطية وقوتها العسكرية، لكن أيضا لأنها أصبحت لاعبا أساسيا في المنطقة.

فهي موجودة في سوريا ولبنان والعراق فضلا عن أصابعها الممتدة إلى البحرين واليمن، ثم إنها متحالفة مع روسيا ومدعومة من الصين.

ورغم أن تركيا طرف لا يمكن تجاهله سواء لأنها عضو في حلف الأطلنطي أو لأهميتها الإستراتيجية والاقتصادية من ناحية ولكونها صارت طرفا في المشهد السوري وفي الساحة العراقية من جهة أخرى، فإن الدور الإيراني أصبح أثقل وزنا، خصوصا بعد توتر العلاقات بين أنقرة والقاهرة، بحيث ما عاد لتركيا حليف في العالم العربي سوى دولة قطر.

إسرائيل تبرز في هذا السياق، سواء لأن واشنطن لا تستطيع أن تتجاهلها، أو لأنها تمثل قوة عسكرية ونووية تعاظم دورها منذ خرج العالم العربي من معادلة القوة، بعد تدمير الجيشين العراقي والسوري، وإزاء استغراق الجيش المصري في أوضاع الداخل وحربه المفتوحة في سيناء.

ولأن الأمر كذلك فإن حضور إسرائيل في كواليس الخرائط الجديدة بدا أمرا مفروغا منه، باعتبارها طرفا لا غنى عنه في مخططات الاستقرار المنشود، ناهيك عن أنها في الأساس أحد أسباب التوتر منذ اغتصابها فلسطين في أربعينيات القرن الماضي وحتى اللحظة الراهنة التي تمارس فيها سياسة التهويد ولا تكف عن التوسع في الاستيطان.

إذا صح ذلك التحليل فمعناه أن مسار الخرائط الجديدة يضع إيران وإسرائيل في مربع واحد (تركيا ليست بعيدة تماما عنه)، على الأقل من حيث إن الولايات المتحدة تعول عليهما في الحفاظ على الاستقرار ومكافحة ما يسمى بالتطرف في المنطقة.

وفي الولايات المتحدة أصوات تدعي أن التطرف المذكور يخرج في أغلبه من عباءة أهل السنة، ولذلك ينبغي الاستعانة بالشيعة في مواجهته. ومن أهم الداعين إلى هذه الفكرة المستشرق المعروف برنارد لويس.

(4)

في وقت سابق قلت في التعقيب على اتفاق جنيف: من الناحية المنطقية، إيران لا تستطيع أن تعقد صفقة تفاهم مع الولايات المتحدة في حين تستمر في دعمها للمقاومة الفلسطينية، وتساءلت عن الثمن الذي سوف تدفعه طهران لضمان إنجاح اتفاقها مع واشنطن، خصوصا أنها تحت الاختبار الآن ولمدة ستة أشهر لاحقة.

لم تكن لدي معلومات تسمح بالإجابة على السؤال، لكنني اعتبرت أن طرحه يُعد أمرا منطقيا في الأجواء الراهنة.

كنت أعرف أن القوميين الإيرانيين ومعهم بعض الليبراليين والإصلاحيين لا يرون غضاضة في إقامة علاقات مع إسرائيل خصوصا بعد تطبيع بعض الدول العربية علاقاتها معها.

وسمعت من بعضهم أن الإمام الخميني لم يقطع علاقات بلاده مع مصر بعد معاهدة السلام التي وقعها السادات مع إسرائيل سنة 1979 إلا بطلب وضغط من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. إلا أنني ظللت طوال الوقت اعتبر أن تلك الأصوات ليس لها تأثير على دائرة صنع القرار في طهران.

وكان ذلك واضحا في الموقف الحازم الذى تبناه الإمام الخميني إزاء إسرائيل، وفى مضي السيد علي خامنئي (المرشد الحالي) على ذات الدرب.

وحتى حين قيل لي ذات مرة إن رئيس الجمهورية الأسبق السيد محمد خاتمي لا يمانع في عودة العلاقات مع إسرائيل، فإن هذا الكلام سمعته بعد خروجه من السلطة عام 2005 وقد رجاني محدثي وقتذاك أن أكتم الأمر، إلا أنني وجدت أن الظرف الراهن يسمح لي بإفشائه.

صورة العلاقات الإيرانية الإسرائيلية التي استقرت عندي طوال العقود الثلاثة السابقة اهتزت حين وقعت على تقرير نشرته مجلة نيوزويك الأميركية في 25 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تحت عنوان "القنوات الخلفية في بورجوندي"، كتبه محررها أوين ماتيوس.

وقد تحدث فيه عن اجتماعات سرية عقدت في أحد قصور تلك المقاطعة الفرنسية بين عسكريين إيرانيين سابقين من الحرس الثوري وبين آخرين من إسرائيل ومجموعة ثالثة من الصين، نوقشت خلالها النقاط التي كانت محل خلاف بين إيران وبين الدول الكبرى التي عطلت الاتفاق حول مشكلة البرنامج النووي.

وكان للنتائج التي تم التوصل إليها في تلك الاجتماعات السرية دورها في تذليل العقبات التي اعترضت توقيع الاتفاق.

تحدثت مجلة نيوزويك عن اجتماعات سرية عقدت في أحد قصور بورجوندي الفرنسية بين عسكريين إيرانيين سابقين من الحرس الثوري وبين آخرين من إسرائيل ومجموعة ثالثة من الصين نوقشت خلالها النقاط الخلافية التي عطلت الاتفاق النووي

ذكر التقرير أن الاجتماعات تمت في قصر "شاتو دى سيلور" بالمقاطعة المذكورة، وأن المجتمعين كانوا في ضيافة شخص باسم كريستوف فون فيتين (يرجح أنه هولندي الجنسية) وهو يعمل مستشارا للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني.

وكان من الوسطاء الذين أسهموا في ترتيب اللقاء ومن الأسماء التي وردت في عملية الوساطة رئيس الوزراء الأسترالي السابق روبرت هوك.

وقد ذكر التقرير أسماء آخرين شاركوا في المحادثات، منهم الجنرال الإسرائيلي دورون أفيتال القائد السابق للقوات الخاصة بالجيش وعضو لجنة الأمن القومي بالكنيست، ووزير الدفاع الفرنسي الأسبق ميشيل أليوت، لكنه لم يشر إلى أسماء الإيرانيين من قيادات الحرس الثوري السابقين.

من الملاحظات المهمة التي أوردها التقرير أن حضور الصين في تلك الاجتماعات السرية لا يرجع فقط إلى كونها عضوا في مجموعة الدول التي شاركت في اجتماعات جنيف، ولكن أيضا لأن القيادة الصينية ترى أنها ينبغي أن تكون حاضرة في أي مباحثات تتعلق بمستقبل العالم العربي خصوصا منطقة الخليج لأنها تستورد 70٪ من احتياجاتها النفطية منها، وهي ليست على استعداد أن يتولى غيرها رسم مستقبلها الصناعي.

لا أستبعد أن يكون الإسرائيليون وراء تسريب خبر الاجتماعات التي عقدت في بورجوندى، لأن معلومات التقرير تحدثت عن حميمية العلاقات التي نشأت بين الإيرانيين والإسرائيليين أثناءها.

وقد تأكد لدي هذا الظن حين قرأت أن راديو تل أبيب بث هذا الأسبوع خبرا عن عقد اجتماع تاريخي بين السعوديين والإسرائيليين في فرنسا، هو الأول الذي يعلن عنه صراحة دون غيره من الاجتماعات التي تعقدها الأجهزة الأمنية بعيدا عن الأعين. كأنهم يريدون أن يخرجوا ألسنتهم لنا في كل مرة ويثبتون أننا مضحوك علينا من الجميع.

رغم دقة التفاصيل التي وردت في تقرير نيوزويك، فإنني أقاوم تصديقها، وأفضل أن أحولها إلى سؤال أرجو أن يجيب عليه الإيرانيون بالنفي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.