مرسي وشفيق كومبارس.. والمسرحية في أولها

العنوان: مرسي وشفيق كومبارس.. والمسرحية في أولها

undefined

بعد الأميرالاي نجيب، والبكباشي عبد الناصر، واليوزباشي السادات، والفريق مبارك؛ من الطبيعي -لإكمال هاند الكوتشينة- أن يأتي: الفريق أول أحمد شفيق. هو فقط من يستطيع طمأنة التسعة عشر مليونيراً الذين يحكمون مصر بأن بعض الملفات يمكن أن تنام إلى الأبد.

لن يكون الرئيس أحمد شفيق لعبة؛ على أنه لن يكون الحاكم بأمره، فالشارع المصري تغير حقاً, لقد دخل ملايين المصريين جامعة بدون دوام نالوا منها شهادة البكالوريوس في الحرية

وثمة ما يحصن شفيقاً من أن يكون لعبة بيد العسكر؛ فهو فريق أول، وسيكون بالطبع قائداً أعلى للقوات المسلحة؛ ثم إن من يقتعد الكرسي الكبير بمصر يصبح عروساً، جرياً مع المثل المصري "لبِّس البوصة تبقى عروسة". وقد رأينا هذا عندما تولى السادات الحكم، إذ سرعان ما أطاح بصور عبد الناصر من على الجدران وأنزل رجاله في السجون، وصار الرئيس المؤمن الذي يهدد بفرْم من يعارضه. ورأينا المشهد يتكرر عندما جاء مبارك فحياه الشارع المصري بنكتة: "الأول وكِّلنا المشّْ، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش"، ثم ظل يهش وينش ثلاثين سنة، والناس يسعون بين يديه ملبين رغباته.

لن يكون الرئيس أحمد شفيق لعبة؛ على أنه لن يكون الحاكم بأمره، فالشارع المصري تغير حقاً. لقد دخل ملايين المصريين جامعة بدون دوام نالوا منها شهادة البكالوريوس في الحرية على مدى السنة الماضية.

الثمانية عشر يوماً التي أسقطت مبارك تبعتها أيام كثيرة أهم منها: أيام كان الفرح فيها قليلاً والتمرس بالثورة كثيراً، وكان فيها وعي واكتشاف للذات. لقد انفتحت على شباب مصر نافذة وعي واسعة دخلت منها حزمة ضوء قوية وهواء نقي منعش في الأشهر التي تلت سقوط الذي لم يكن ينتوي الترشح مرة أخرى.

لن يستطيع شفيق أن يكون مستبداً، كما أن الاثنتين والسبعين التي يحملها على كتفيه ستجبره على أن يكون مؤقتاً. ولن يكون استنساخاً لفساد عهد مبارك، لأنه سيواجه ثورة العشوائيات الوشيكة، ولن تهدأ هذه الثورة إلا بإصلاحات معقولة.

فأما أنه سيحمي الفلول، فكما يحمي الولد أباه وأمه. وماذا في ذلك؟
أهناك عاقل يؤيد اليوم سياسة "اجتثاث البعث" التي أنهكت العراق؟ مصر مرشحة لأن تقتنع قريباً بأن "قانون" العزل في نسخته الصارمة أشبه بالاجتثاث من البيضة بأختها. وليحم شفيق الفلول! على أنه لن يقصر في حماية مليونيري "الإخوان" الذين جمعوا ملايينهم أثناء حكم مبارك، ونالوا عهدئذ قدراً من الحماية.

سيرسي شفيق الأمن في أربع وعشرين ساعة، فهو سيرد لأجهزة الأمن المختلفة اعتبارها، وسيمنح ضباط الأمن فسحة زمانية للنزول من على شجرة الغطرسة. وسيعطي الحزب الوطني فرصة لإعادة تشكيل نفسه باسم مختلف. وسيكون عهده واحة رأسمالية، بفساد أقل. وسيتمتع هذا العهد بمعارضة قوية من جانب الإخوان واليسار وساكني العشوائيات. وشفيق هو الأقدر على إعادة الجيش إلى ثكناته. وسيكون خاتمة عهد العسكر الذي دام ستين سنة. وبعده ستتفتح مصر الليبرالية الديمقراطية التي صنعتها ثورة 25 يناير.

هذا إن فاز.

وهل يملك محلل سياسي عاقل أن يتكهن بنتائج انتخابات الرئاسة المصرية دون أن يجازف بمستقبله المهني!

قد يفوز محمد مرسي.

قالوا سيتلقى مرسي أوامره من مرشد الإخوان بديع, وماذا في ذلك؟ ذلك أدنى ألاَّ يستبد, وطالما حلم الناس برئيس يستند إلى حزب حقيقي ذي شعبية تاريخية، بدلاً من رئيس متسلط يلفق لنفسه حزباً يتخذه وسيلة للبقاء في الحكم

قالوا سيتلقى أوامره من مرشد الإخوان محمد بديع. وماذا في ذلك؟ ذلك أدنى ألاَّ يستبد. وقد طالما حلم الناس برئيس يستند إلى حزب حقيقي ذي شعبية تاريخية، بدلاً من رئيس متسلط يلفق لنفسه حزباً يتخذه وسيلة للبقاء في الحكم.

وقالوا إن سيطرة الإخوان العتيدة على مجلس الشعب، وسيطرتهم المحتملة على الرئاسة ستكونان إذ تجتمعان فظيعة من الفظائع. وهذا قول مستغرب ممن يقرأ الجريدة. كأن هؤلاء المستفظِعين لم يسمعوا بفرنسا ولا بالولايات المتحدة. ففي هذين البلدين إنما تسير السياسة كأحسن ما يكون السير عندما يسيطر حزب الرئيس على البرلمان. لا بل إن هناك بلداناً كثيرة، من أعرق الديمقراطيات، لا يصل فيها الحاكم إلى سدة الحكم إلا إذا سيطر حزبه على البرلمان، وبريطانيا خير مثال.

سيجسد محمد مرسي للإخوان فرصتهم التاريخية. ألا يستحقونها بعد أربع وثمانين سنة؟ وسيعطيهم فرصة لكي ينكشفوا أمام أنفسهم. فالإخوان قد قصروا في سنوات المنفى السياسي تقصيراً ذريعاً في التخلي عن التصلب العقدي، وقصروا في صياغة برنامج تنموي، ونسوا أن يدخلوا القرن العشرين بله الحادي والعشرين، فهل يجبرهم الحكم على أن يحرقوا المراحل ويهتموا بدنيانا اهتمامهم بآخرتهم؟ قد يفشلون، وقد يصابون بانشقاقات كبيرة، ولكن في هذا كثيراً من الخير لهم. سيتطهرون في فرن الحكم. وقد آن لمصر التي أصبحت حرفياً "أم طرحة وجلابية" أن تذوق طعم الدولة الإسلامية المعتدلة، ومن خيرات هذا أنه سيدرأ عنها غائلة الحركات الإسلامية المتشددة.

سيؤمن مرسي نهاية سريعة لحكم العسكر، وسيعطي للقوى الشابة فسحة جيدة لبلورة برامجها، وللعثور على طريق الواقعية السياسية الذي محته من أمام أعينهم أقدامهم الغاضبة، وهم يهرولون بين التحرير والعباسية. وسيعثرون على آبائهم بسهولة: البرادعي موجود، وحمدين صباحي موجود. 

لقد بدأ يتبلور في مصر الآن معسكر الثورة، وهو مرشح في الفترة المقبلة لاستضافة أفواج من شباب الإخوان الذين لم يعجبهم التحاذق الفج لقادتهم في خضم الأشهر الثورية المليئة بالدروس.

وسيتجه كثيرون من الأقباط إلى معسكر الثورة. فهم يدركون -حتى مع انتخابهم شفيقاً الآن- أن العساكر منذ عبد الناصر وحتى نهاية مبارك كانوا يستعملون الكنيسة لشق الشارع المصري استعمالاً كان من بعض مفرداته في الزمن الأخير تقتيل الناس تقتيل فتنة مدبرة، وهم بالطبع لن يصوتوا للإخوان المسلمين حتى لو وعدوهم بالمن والسلوى وبمنصب نائب الرئيس. والوعود السياسية للإخوان لم تكن في الغالب كلام "رجالة". 

لقد أعلنت الثورة الفرنسية الجمهورية بعد ثلاث سنوات من نجاحها، وقتلت الملك بعد سنة أخرى، ثم أكلت أبناءها في مدى خمس سنوات أخريات، ثم جاء الديكتاتور نابليون ليحكم ست عشرة سنة، ثم عادت الملكية، ثم جاءت جمهورية قصيرة، فإمبراطور. ثم، وبعد إحدى وثمانين سنة من الثورة، جاءت الجمهورية الثالثة، وظلت فرنسا جمهورية.

فهل نقول إن مصر ستظل كرة يتلاقفها العساكر والمدنيون ثمانين سنة؟ حاشا وكلا. غير أن من سلامة النية البالغة حد البله أن يتوهم أحد أن الثورة المصرية ستبلغ ذروتها في مدة وجيزة. فلتتصاعد في أجواء الفيسبوك صرخات الصارخين من أطفال اليسار الذين ظنوا الثورة قد تكللت بالنجاح في وقعة الجمل. وليتأفف النزق الصاعد من حناجر المثقفين الجالسين في "ريش" من هذا الخيار الصعب بين السيئ والأسوأ.

المسرحية لم تكتمل فصولاً، ونحن في المشهد الأول. وبعكس المألوف في الكوميديا المصرية فإن "شفيق يا راجل" و"مرسي الزناتي" لن يكونا بطلي المسرحية المسيطرين عليها من أولها إلى آخرها؛ لعلهما أقرب إلى ممثلي الكومبارس.

الرابح سيربح كثيراً، والخاسر سيخسر كثيراً, سيربح الرابح نوبة صداع لن يحسده عليها أحد, وسيخسر الخاسر فرصة أن يكون أحد المأكولين في مأدبة الثورة

سيصوت لشفيق خمسة، وعشرة، وخمسة: الأقباط، والمصابون بالصداع من توتر الأحوال، وعشاق الرئيس المخلوع. فهؤلاء عشرون مليوناً. وسيصوت لمرسي عشرة، وخمسة، وخمسة: الإخوان، والأتقياء، وما تيسر من سائر الثوار. فهؤلاء عشرون مليوناً. بقي أربعون مليون مصري: نصفهم سيبقى في البيت، وربعهم سيبقى أيضاً في البيت، والربع الباقي لن يغادر –في أغلب الظن– البيت.

ستكون النتيجة متقاربة على نحو يجعل المرء ينسى إلى الأبد نسبة التسعين بالمائة المشهورة. هذا أقصى ما يمكن للمتكهن المحاذر التصريح به. ورغم أن النتيجة ستكون في قبضة المصادفة، ورغم أن حبة قمح سيكون في مقدورها أن ترجح كفة من كفتي هذا الميزان الانتخابي الجديد على العالم العربي كله، فإن الرابح سيربح كثيراً، والخاسر سيخسر كثيراً. سيربح الرابح نوبة صداع لن يحسده عليها أحد. وسيخسر الخاسر فرصة أن يكون أحد المأكولين في مأدبة الثورة.

لقد اشتبك أبو الفتوح وعمرو موسى في المناظرة الشهيرة على قاعدة أن أحدهما القطب الشمالي والآخر القطب الجنوبي. فلم يتأثر الشارع بالمناظرة وأشاح عنهما، وزادهما من الشعر بيتاً قافيته على الحاء: حمدين صباحي. فهل بقي للمتكهن سوى أن يسكت؟ أو أن يقول: الثورة مستمرة؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.