الصومال.. إفلاس سياسي ونتائج كارثية

الأزمة الصومالية والإفلاس السياسي

\

فشل حكومي
المعارضة المأزومة
نتائج كارثية ومستقبل غامض

منذ أن انزلق الصومال قبل عقدين من الزمن في فوضى عارمة لا تزال أزمة هذا البلد مستعصية على الحل بسبب الإفلاس السياسي للنخب القيادية في البلاد من الإسلاميين وغيرهم، مما جعل الكثير من الشعب يتمنون أن لا تتدهور أوضاعهم بعدما يئسوا من تحسنها.

فشل حكومي
لقد علق الشعب الصومالي آمالا عريضة على حكومة الرئيس شريف شيخ أحمد للخروج من الأزمة التي طال أمدها.

لكنها أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنها ليست أكثر من نسخة مكررة وممجوجة من الحكومات الفاشلة التي عرفها الصومال في عمر محنته التي قاربت العشرين عاما.

لقد أخطأ الإسلاميون من جماعة جيبوتي في حساباتهم عندما راهنوا على المجتمع الدولي لتحقيق المعجزات، ولم يقرؤوا بشكل صحيح تعقيدات الملف الصومالي الشائك والمصالح المتناقضة للدول الأجنبية وتأثيرات الصراع العشائري فيها.

عندما نشب الخلاف بين شريف وغريمه الشيخ حسن طاهر أويس توقع الكثير من المراقبين أن حربا دامية قادمة لا محالة بين الرفقاء، وهو ما فشل السياسيون الغرماء إدراك مخاطره وتداعياته ليس على مستقبلهم السياسي فحسب وإنما على مستقبل الصومال برمته.

"
فشلت حكومة شريف في إثبات قدرتها على الأرض واستنكف معظم مؤيديها من المحاكم المعتدلين عن الدفاع عن حكومته بسبب تصرفات الممسكين بزمام الأمور المحيطين به, والنتيجة هي فشل حكومي
"

لا أحد ينكر حاجة الصومال إلى حكومة تنتشل البلاد من الهاوية التي سقطت فيها، إلا أن سلوك الحكومة الانتقالية وفشلها الذريع في تحقيق أي إنجاز يذكر وانشغال مسؤوليها بهمومهم ومصالحهم الشخصية على حساب العباد والبلاد قد بدد كل الآمال التي علق عليها الصوماليون.

لقد فشلت الحكومة في إثبات قدرتها على الأرض، واستنكف معظم مؤيدي شريف من المحاكم -المعتدلين- عن الدفاع عن حكومته بسبب تصرفات الممسكين بزمام الأمور المحيطين به.

والنتيجة هي حكومة مشلولة غير قادرة على الدفاع عن نفسها ومسكونة بهواجسها الأمنية ولا تملك قرارها، وتنتظر رواتبها من مكاتب الأمم المتحدة.

لم يستطع برلمان الحكومة من عقد جلساته بانتظام لعدة شهور، وفر الكثير من أعضائه إلى الخارج بعدما عجزت الحكومة عن حمايتهم حيث قتل بعضهم في العاصمة المضطربة.

لقد تحولت الحكومة التي قدمت الكثير من الوعود إلى نسخة مطابقة لحكومة الرئيس السابق عبد الله يوسف التي حمل الرئيس الحالي شريف شيخ أحمد السلاح لإسقاطها بذريعة التعاون مع الأجنبي.

وبعد أن ضاقت الأرض بما رحبت طالبت الحكومة التي يقودها رئيس المحاكم الإسلامية السابق الدول الإقليمية (بما فيها إثيوبيا) بالتدخل لإنقاذها من الانهيار أمام ضربات المعارضين.

أنا لست بصدد إدانة هذا الطرف أو تبرئة ذاك لكني أود الإشارة إلى التناقضات التي تحكم مسيرة القادة الصوماليين عندما يسقطون في وحل الصراع على سلطة وهمية، ويصبحون ألعوبة في أيدي من لا يريد الخير لا لهم ولا لبلادهم.

من حق أي إنسان أن يتساءل: إذا كان دخول إثيوبيا في الصومال مرحبا به اليوم من قبل الحكومة (تصريح رئيس البرلمان) فلماذا قتل الآلاف وشرد الملايين ودمرت البلاد بدعوى محاربة إثيوبيا؟

سمعت مؤخرا تصريحات لأحد زعماء مجلس السلم ومكافحة الإرهاب (الذي طردته المحاكم من مقديشو بقيادة شيخ شريف) وهو يعلق بلهجة شامتة على تصريحات زعماء الحكومة حول وجود "إرهابيين" في الصومال، ومطالباتها المتكررة للمجتمع الدولي بالتدخل مشيرا إلى أن هذا دليل على صحة موقفهم السابق حيال هذه المسألة.

قد يبرر القائمون على الأمر بأن المعارضة –المتعنتة- هي السبب، لكن أي مواطن صومالي لا يمكن أن يستوعب تصرفات المسؤولين الحكوميين الذين لم ير منهم خيرا قط.

وهذا ما يفسر عزوف الشعب عن تأييد حكومة لا وجود لها إلا في القصر الرئاسي والثكنات المحيطة به وبحراسة القوات الأفريقية.

وفي الحقيقة الحديث عن حكومة هو أمر مجازي، وما هو موجود عبارة عن عدد من الشخصيات المحورية المتنفذة وعشرات المجاميع التي يعمل كل واحد لحسابه الخاص والقاسم المشترك بينهم هو فقط اسم الحكومة، لذا تحدث الاشتباكات بين فينة وأخرى لأن عناصرها لا يتبعون عمليا الحكومة.

المعارضة المأزومة

"
الوقائع والمعطيات في الصومال تدل على أن المعارضين الإسلاميين لا يملكون رؤية للحل في الوضع الصومالي الشديد التعقيد وهم يعيشون في أزمة ثقة فيما بينهم ولا يعرفون ما يريدون بالضبط إلا القتال
"

الحديث عن الفشل الحكومي لا يعني أبدا أن معارضيها الساعين إلى إسقاطها بذريعة "العمالة للعدو" بخير.

فكل الوقائع والمعطيات على الأرض تدل على أن المعارضين الإسلاميين لا يملكون رؤية للحل في الوضع الصومالي الشديد التعقيد والمؤامرات التي تحاك ضد البلد، وهم يعيشون في أزمة ثقة فيما بينهم ولا يعرفون ما يريدونه بالضبط إلا القتال.

عند الحديث عن المعارضين يمكن التمييز بين جماعتين، الحزب الإسلامي بقيادة الشيخ أويس وحركة شباب المجاهدين بقيادة أبو زبير.

فالحزب الإسلامي يعاني من ضبابية في الرؤية, وقياداته لاشك أنها مستاءة جدا من قطف الرئيس شريف ثمار "النضال" الذي خاضوه ضد إثيوبيا وارتمائه في حضن القوة الغربية واستخفافه بهم وهم الذين نصبوه زعيما للتحالف.

لكن تلك القيادة لا تملك أية رؤية سياسية واضحة لما بعد إسقاط من تسميهم "العملاء" وهو الأمر الذي أكده أكثر من وسيط حاور زعماء الحزب حتى اعتبر البعض أنه أصبح أسيرا لحركة الشباب.

ومع ذلك فالحزب يحاول أن يميز نفسه عن حركة الشباب التي تجاهر بعلاقاتها الروحية والفكرية مع تنظيم القاعدة، ويسعى للاحتفاظ ببعض العلاقات مع بعض الدول والعشائر أيضا, وعناصره أقرب إلى المحاكم الإسلامية التي كانت تؤيد شريف منه إلى حركة الشباب.

إن التطورات المتلاحقة في الساحة الصومالية التي أعقبت اتفاق جيبوتي وخروج القوات الإثيوبية من الصومال أربكت الحزب الذي تحالف لاحقا مع حركة الشباب لقتال الحكومة والقوات الأفريقية.

ويعتقد الكثير من المراقبين أن الحزب يريد تقاسم السلطة مع شريف لكنه في الوقت نفسه مرتبك ومتردد، ويعرف ما ينتظره على أيدي حركة الشباب التي تحصي عليه أخطاءه.

لقد أساءت الحرب الضروس التي يشنها الحزب على الحكومة الانتقالية والتي يسقط فيها العشرات من المدنيين واستخفافه بدماء الأبرياء إلى صورة زعماء الحزب الذين كان لبعضهم في السابق مكانة لدى المجتمع.

لا أحد يستطيع أن يفسر قتل المئات في حروب عبثية في مناطق لا وجود لها لأية قوات أجنبية على الإطلاق إلا بالصراع على السلطة الوهمية رغم الشعارات البراقة حول العدو.

أما حركة شباب المجاهدين فموقفها أكثر وضوحا رغم عدم قابليته للتطبيق على الأرض.

"
رغم الحديث عن محاولة شيخ أويس لاحتواء حركة شباب المجاهدين باعتباره "الأب الروحي" للسلفية الجهادية وتصريحاته المتكررة حول سعيه للشراكة معهم إلا أن تنبؤات المحللين حول حتمية المواجهة بين الحركتين
صدقت
"

فهم يقاتلون ليس لدحر القوات الأفريقية من الصومال وإسقاط حكومة شريف فحسب وإنما لديهم أجندة خارج حدود جغرافية الصومال. ومعظمهم شباب صغار لديهم الكثير من الحماس والغرور لكن خطورة أفكارهم تكمن في النزعة التكفيرية واستحالة قبول أطروحاتهم في البيئة الصومالية.

وأخطر منها ما ينسب للحركة من التصفيات الجسدية التي تطال كل من يجرؤ على معارضتها أو انتقادها، وهذا ما يفسر التزام الغالبية بالصمت على ما يحدث على الأرض من التصرفات المشينة.

كما أن الحركة تمارس عملية الإقصاء حتى لأقرب حلفائها، ولا تقيم وزنا لأي شخص خارج أطرها التنظيمية مهما كانت درجته لدى المجتمع.

لقد كشفت حادثة اختطاف عميلي المخابرات الفرنسية في مقديشو العلاقة الشائكة والهشة بين الشباب والحزب الإسلامي المتحالفين لمحاربة شريف والقوات الأفريقية، والمتنافسين على كل ما سوى ذلك.

فقد أجبرت حركة الشباب حليفها على تسليم أحد المختطفين تحت تهديد السلاح, ومن المستحيل أن تسمح له بما هو أثمن من هذا كالشراكة في الحكم أو غير ذلك.

وقبل أيام شهدت مدينة كسمايو معركة دامية بين الطرفين على خلفية استئثار الشباب بحكم المدينة التي يوجد فيها ميناء يدر الكثير من الأموال، وانتهت المبارزة بينهما بطرد الحزب من المدينة رغم المناوشات التي يقوم بها في بعض الأحيان.

كما ذهب الحديث عن محاولة شيخ أويس احتواء الحركة باعتباره "الأب الروحي" للسلفية الجهادية وتصريحاته المتكررة حول الشراكة معها، أدراج الرياح.

وصدقت تنبؤات المحللين حول حتمية المواجهة بين الحركتين، لينتهي المشهد الدموي بين الإسلاميين على طريقة حروب العشائر التي تتآكل فيما بينها حتى تصل إلى الحلقة الأخيرة.

ويمكن الإشارة إلى أن النجاح الذي تحققه حركة الشباب يعبر عن مدى الفشل الذي لحق بزعماء الحركات الإسلامية الذين يصفون أنفسهم "بالمعتدلين" بكافة أطيافهم ومشاربهم.

نتائج كارثية ومستقبل غامض
لقد آلت الأوضاع نتيجة الإفلاس السياسي والمناكفات الشخصية بين رفقاء أمس إلى نتائج كارثية نوجز أهمها فيما يلي:

1- النزيف الجاري في الصومال حيث يقتل العشرات كل يوم ليس بسلاح الغرباء وإنما على أيدي أشخاص من لحمهم ودمهم. وقد يتقاتل من كانا بالأمس القريب في خندق واحد وعلى أرض لا وجود لأجنبي فيها حيث تنعدم التبريرات والذرائع، مما يعبر بشكل لا لبس فيه عن عبثية الحروب التي تشن لأغراض لا علاقة للدين ولا للشعب بها.

فقد ازداد النازحون واتسعت مخيمات اللاجئين بعد الانسحاب الإثيوبي من الصومال بشكل لافت للنظر بفضل الإخوة الأعداء، ناهيك عن الآلاف الذين يقضون نحبهم كل سنة في أعماق البحار في خليج عدن والمحيط الأطلسي بحثا عن حياة أفضل.

طبعا كل هذا لا يعني البتة إعفاء المسؤولية عن القوات الأفريقية الحالية التي تمارس أبشع الجرائم ضد المدنيين، وآخرها في سوق بكارى بمقديشو قبل أيام حيث سقط المئات لكن كما يقال "فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة".

2- الضرر الفادح الذي لحق بالمشروع الذي حمله إسلاميو الصومال حيث ظهر للعيان أنهم ليسوا أكثر من نسخة جديدة من زعماء الحرب القبليين، لكنهم بالتأكيد أكثر دموية وعنفا حتى بدأ البعض يترحم على عهد لوردات الحرب الذين اكتسب الإسلاميون شرعيتهم بالمحاربة ضدهم.

ويذهب بعض المراقبين إلى أن ما يجري اليوم على الأرض هو عملية حرق الإسلاميين وتعريتهم من خلال ضرب بعضهم ببعض، وإظهار زيف الشعارات التي تحولت إلى اشتباك شبه يومي بالأسلحة.

فالعالم الذي راعته ثورة المحاكم لا يريد دعم حكومة شريف إلا بالكلام والقليل من السلاح الذي يبقيها على قيد الحياة، ولكنه بالتأكيد يهمه خلق انطباع لدى الشعب الصومالي بأن الإسلاميين ليسوا الخيار الأفضل، وهو ما بدأت بالفعل إرهاصاته على الأرض بسبب سوء تصرف المتبجحين بالإسلام.

3- لقد تحول الصومال بفضل سذاجة مسؤوليه، من موالاة ومعارضة، إلى ساحة لتصفية الحسابات بين إثيوبيا وإريتريا اللذين تنعم حدودهما بالهدوء.

"
الخروج من النفق المظلم ما زال بعيد المنال حسب المعطيات الراهنة وليس أمام المغلوبين على أمرهم إلا أن يحصوا ضحاياه ويكفكفوا جراحهم وينتظروا الفرج من الخالق بعد أن أثبت من راهن عليهم أنهم ليسوا أكثر من باحثين عن سلطة
"

وليس بعيدا أيضا أن نشهد في القريب العاجل صراعا بين الدول الغربية والقاعدة. وقد بدأ التمهيد لها من خلال الحديث عن وجود آلاف الأجانب في صفوف حركة الشباب التي هي الأخرى تعتز باستضافتهم. وربما كانت العملية التي قتل فيها القيادي الكيني في القاعدة صالح نبهان أحد أوجه هذا الصراع.

أما المستقبل الصومالي فإن الكثير من الغموض يلفه خاصة وأنه ليس في الأفق ما يبشر بقرب الانفراج في ظل الصراع المحتدم على حطام البلد المنكوب.

لقد أصبح الصومال ضحية حرب وكالات وقودها خيرة أبنائها الذين يزجون في أتون الحروب الخاسرة، والمواطن هو الذي يدفع الثمن الأكبر.

كما أصبحت أطراف الصراع مرتهنة للخارج, فلا الحكومة تملك إرادة حقيقية لإعطاء جزء من الكعكة التي هي محل الصراع للحزب الإسلامي لأن هناك خطوطا حمراء لا تستطيع تجاوزها، ولا الأخير يملك شجاعة اعتراف أخطائه الكارثية، لندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها.

لذا فان الخروج من النفق المظلم ما زال بعيد المنال حسب المعطيات الراهنة، وليس أمام المغلوبين على أمرهم إلا أن يحصوا ضحاياهم ويكفكفوا جراحهم وينتظروا الفرج من الخالق بعد أن أثبت من راهن عليهم أنهم ليسوا أكثر من باحثين عن سلطة وهواة حروب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.