من أتاتورك حتى أردوغان.. مواسم البحث عن الهوية

من أتاتورك حتى أردوغان.. مواسم البحث عن الهوية



عندما قرر مصطفى كمال "أتاتورك"، في عشرينيات القرن الماضي التحول إلى تركيا، والتخلص من إرث السلطنة الثقيل، لاقى تحركه هذا صدى واسعا لدى نخب تركية مدنية كانت قد تعرضت لنفحات من ثقافة الغرب، فضلاً عن نزوع عام لدى الوسط التركي عموماً، الباحث عن هوية واضحة ودولة معلومة، هرباً من خليط هويات متنافر، وكان ذلك في الواقع يتفق مع توجه عالمي صوب قومنة الدول، أو دولنة القوميات.

"
الأهداف التي وضعها أتاتورك كانت ضربا من المجازفة لأنه حتى لو استطاع أن يغرب المجتمع التركي بثقافته التقليدية وعلاقاته الاجتماعية، فإنه لم يكن ليضمن قبول الغرب الذي يسعى هو الآخر جاهدا لبلورة هوية واحدة أوروبية الجنس والقيم والأخلاق
"

حمل أتاتورك للشعب التركي مشروعاً واضحاً، ومحدد المعالم، والآليات: دولة تركية تتخلص من هزيمة السلطنة، وعار "الرجل المريض"، وعبء المشروع العثماني وفشله، وتحاكي الغرب المنتصر بتطوره التقني وقيمه في الديمقراطية وحقوق الإنسان.

إن هذا النزوع الليبرالي المبكر في مجتمع تقليدي ذي غالبية ريفية وطبيعة دينية، وكذلك الارتكاس إلى الحيز الجغرافي التركي، والقبول بتسويات أرضية صغيرة هنا وهناك في زمن كانت تقاس فيه فعالية الدول بحجم نفوذها ومدى امتدادها، قد شكل ثورة بكل المقاييس، إن لم يكن مجازفة تاريخية وقفزة في المجهول.

غير أن الرهانات والأهداف التي وضعها أتاتورك نصب عينيه كانت بحد ذاتها ضروبا من المجازفة، فهو إن استطاع أن يغرب مجتمعا تقليديا بثقافته وعلاقاته الاجتماعية، فكيف سيضمن قبول الطرف الآخر الذي يسعى جاهدا لبلورة هوية واحدة: أوروبية الجنس والقيم والأخلاق، وربما كان على أتاتورك أن ينتظر حتى نهاية القرن ليخبره صموئيل هانتنغتون أن حدود بلاده هي تخوم صراع الحضارات.

إن أخطر ما في المغامرة الأتاتوركية كان قرار فصل الدين عن الدولة وتثبيت ذلك دستوريا، ثم تحويل العلمنة إلى طوطم مقدس دون مبررات ثقافية واجتماعية واضحة، وكذلك التوجه الفكري نحو الحضارة الأوروبية وقطع الصلة بالثقافة والتراث الإسلامي.

والواقع أن تركيا قد عاشت فترة طويلة من الزمن معضلة كبيرة فرضت فصولاً متوالية من الدراما التركية، نتيجة أزمة معقدة تداخل فيها وتفاعل السياسي والاقتصادي والثقافي وتجديد طرح سؤال الهوية.

ولم يكن بمقدور هذا البلد الذي يشكل المسلمون فيه 99% أن يتبرأ من كل ما يحمله من إرث، ولا أن ينجح في الحصول على رضا الغرب والاندماج فيه.

وهذه الأزمة المتفاعلة متعددة الوجوه والأبعاد، وتتمثل في الإخفاق في حسم هوية تركيا القومية، حيث إنها ليست دولة عثمانية، كما أنها ليست أوروبية الطابع، ومن ثم جاء العجز عن الوفاء بالتكلفة السياسية والاقتصادية والثقافية لمساعي إجراءات التحول ما بين عالمين، التوجه نحو الأوروبية، والتغريب والانسلاخ عن الشرق الذي يشكل تاريخياً الامتداد الطبيعي والثقافي لتركيا.

ولا مندوحة هنا من القول إن الجيوبوليتيكا التركية كان لها أثر كبير في رفع سقف الآمال التركية، وحتماً المساهمة في إشاعة طموحات مزيفة، لأن تركيا تنفرد بكونها ملتقى قارتي آسيا وأوروبا، بل تكاد تكون منطقة التحام جغرافي تلتحم فيها أطراف القارتين، وتتحكم في ممرات ومضايق بحرية ذات أهمية إستراتيجية عظمى بالنسبة للتوازنات السياسية في أوروبا، كالبوسفور والدردنيل.

كما أن تركيا تطل على البحرين الأسود والمتوسط، ولقد كان لهذا الموقع الإستراتيجي المميز انعكاساته على حركة وكثافة التفاعلات، مما أدى إلى أن تكون تركيا طرفاً فاعلاً في التوازنات التي نشأت بين القوى العظمى في التاريخ.

وقد أرست الإصلاحات المتبعة منذ العشرينيات قواعد التبعية للغرب، مثل الانخراط في الأحلاف العسكرية، وانتهاج وسائل الحياة الغربية من ثقافة وتعليم وحياة اجتماعية، وهدفت هذه السياسات إلى تأكيد تركيا لنفسها وللغرب أنها جزء مهم من الناحية الإستراتيجية.

"
تركيا الكمالية الممثلة بنخبها المدنية والمؤمنة بفضائل إصلاح جمهوري احتاجت إلى العنف بأقصى درجاته كي تلغي تركيا الثانية، تركيا الريفية المرتبطة بالأسرة الصغيرة والمشروع التجاري الصغير الطالعة بقوة والمنافسة لها بشراسة بإعدام عدنان مندريس
"

إزاء حالة التناقض تلك التي فرضتها السياسات "الإصلاحات" الكمالية، شهدت تركيا انتفاضات هوية كبيرة، إذ لم يدم وهج الكمالية وألقها أكثر من ربع قرن، حين شهدت أول تحدياتها عندما فاز حزب عدنان مندريس الديمقراطي عام 1950 وبفارق كبير بلغ 403 مقاعد مقابل 63 مقعدا للجمهوريين أتباع الكمالية.

وقد أثبتت هذه النتيجة أن تركيا الكمالية الممثلة بنخبها المدنية والمؤمنة بفضائل إصلاح جمهوري احتاجت إلى العنف بأقصى درجاته كي تلغي تركيا الثانية، تركيا الريفية المرتبطة بالأسرة الصغيرة والمشروع التجاري الصغير الطالعة بقوة والمنافسة لها بشراسة (إعدام عدنان مندريس).

وفي عام 1983 صوتت الأمة التركية لحزب "الأم" الذي يقوده تورغوت أوزال، فاتضح أن الجيش والمؤسسة التركية معارضة لحقائق هذا البلد وطموحاته، وذهب أوزال بعيداً بإعلانه الارتباط بالدين الإسلامي، وتقاربه مع العالم الإسلامي عبر دخول تركيا في منظمة المؤتمر الإسلامي.

وهكذا تواصل الأمر وصولا إلى صعود حزب "الرفاه" عام 1996 وقائده نجم الدين أربكان الذي أجبره مجلس الأمن القومي على الاستقالة بعد عام من هذا التاريخ، ثم حل حزبه بواسطة المحكمة الدستورية، وهو ما وصفه المثقفون الأتراك بأنه "انقلاب دولة ما بعد حداثي"، أو "انقلاب لين"، لأن الجيش دون أن يخرج من ثكناته كما فعل في مرات سابقة استطاع أن ينهي تجربة ديمقراطية بامتياز.

ومنذ أن وصل "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة في أعقاب فوزه في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2002 تعيش تركيا في خضم إعادة صياغة لمسارها وأولوياتها الجيوسياسية، وفق ما تراه يحقق مصالحها القومية، حيث ترى أن الوقت قد حان لكي تسير في مسار يحدد مصالحها الوطنية الخاصة بغض النظر عن مدى ملاءمتها لأهداف قوى أخرى.

وقد اتبعت تركيا في عهد حزب "العدالة والتنمية" سياسة "تعدد الأبعاد" التي وضع أسسها المفكر التركي وكبير مستشاري رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو.

وقد أعادت هذه السياسة الاعتبار إلى المحيط العربي والإسلامي لتركيا، ونجحت، فكان من نتيجتها تحسين العلاقات بصورة كبيرة مع دول الجوار، وخاصة بعد أن اتبعت تركيا سياسة "تصفير المشكلات" مع الجيران، أي تخفيضها إلى درجة الصفر.

وقد وضع إسلاميو حزب العدالة نصب أعينهم أن مشكلات تركيا الداخلية نابعة من عدم إقامة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ورأوا ضرورة إرساء نظام القيم من خلال أساسيات إيجاد حلول للمشكلات الدينية والعرقية وخلق ديناميك لتطوير دائم للنظام.

"
مشكلات تركيا الداخلية نابعة من عدم إقامة الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويرى حزب العدالة والتنمية ضرورة إرساء نظام القيم من خلال أساسيات إيجاد حلول للمشكلات الدينية والعرقية وخلق ديناميك لتطوير دائم للنظام
"

ومن المعروف تاريخياً أن حزب "العدالة والتنمية" ينحدر اجتماعياً من طبقة التجار في الريف التركي، وأن القاعدة الإسلامية هي التي أوصلته للسلطة، ولكن القاعدة الانتخابية لهذا الحزب في الانتخابات الأخيرة بدت متنوعة الاتجاهات، ما بين علمانيين ويساريين وليبراليين وحتى ملحدين صوتوا للكفاءة التي أدارت حكومة أردوغان بها الاقتصاد التركي، أي اقترعوا "للاقتصاديين الجدد" كما سماهم الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز.

وهناك من يرى أن موضوع التجاذب السني الشيعي الحاصل في المنطقة كان له أثر كبير في نتائج الانتخابات التركية، خاصة أن بعض التكوينات الاجتماعية والدينية في المنطقة شجعت على دور تركي إسلامي.

غير أن حزب "العدالة والتنمية" بما يتميز به من عقلانية، ولخوفه من إحداث انقسامات داخلية مع الجيش والعلمانيين لم يشأ تبني هذا الدور علانية، مع أن ثمة مؤشرات عدة تدل على وجود توجه تركي في هذا المسار: من نوع مشاركة تركيا في قمة الدول الإسلامية، ومشاركتها في قوات يونيفيل في جنوب لبنان.

هل استقرت تركيا على هويتها بإيصالها الإسلاميين إلى جمعيتها الوطنية الكبرى، وتفويضهم بإعادة صياغة وجه تركيا ومساراتها، أم أن ثمة محطات في المخاض التركي ما زالت تخبئها المفاجآت والتطورات؟.

ذلك حسب رأي العارفين مرهون إلى حد كبير بطبيعة سياسات حزب "العدالة والتنمية" فهل يجازف كما فعل أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي بإلغاء نصف تركيا الآخر؟.

ثمة من يرى أن الحل في الوضع التركي هو حدوث تطور على مستوى النظام، عبر بلورة نقلة من العلمانية الأولى ذات الطابع الفرنسي (الصدام بين الدولة والمؤسسة الدينية) إلى العلمانية الأميركية التي تجعل الحريات الدينية أساسا من أسس العلمانية الديمقراطية التي تفصل الدين عن الدولة، ولكنها معنية بحماية الدولة من الدين، إذا جاز التعبير، وبحماية الدين من الدولة، باختصار العلمانية الأنجلوسكسونية التي يبدو أن لها معجبين من قادة حزب العدالة والتنمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.