تقارب حماس والنظام السوري.. عن صحة البوصلات والتقديرات

صورة للقاء بين بشار الأسد وممثلي حركات فلسطينية بينهم القيادي في حركة حماس خليل الحية
بشار الأسد (يمين) وممثل حركة حماس خليل الحية (وسط) مع زعماء فصائل فلسطينية في دمشق (19 تشرين الأول/ أكتوبر 2022)

لن أدخل في بيزنطيات وجدليات النقاشات والتهجمات المتبادلة بين أطراف هذا الموضوع الملتهب، ولكنني أثبت هنا موقفي الذي ناديت به -ولا أزال- على مدار عقود طويلة، وازددت قناعة به بعد طول العمر والخضرمة والتخصص والتدبر لكافة ما يتعلق به من مناهج وأفكار وفلسفات، وتحليلات نظرية وتطبيقية واستشرافية مستقبلية.

أريد أن أثبت موقفي لأنه من الواجب أن نسعى لتوضيح القضايا من دون تحيزات مرفوضة وتعصبات وانفعالات. هذا يجب أن يكون شأن كل من يعالج موضوعا حساسا للشعبين الفلسطيني والسوري بل وشعوب المنطقة والعالم، وفي ملفات قضايا كبرى في تاريخها وحاضرها ومستقبلها، وفي المقاربات الفكرية والسياسية والأخلاقية والإستراتيجية. إذ يجب أن يكون الباحث حريصا ويبحث عن موقف منهجي مبدأي واقعي عملي يؤسس لمستقبل أفضل للجميع. فإلى هؤلاء وإلى كل حكومة أو حركة أو صناع قرار أو حاكم أو قائد أو مؤثر أقول لهم ببساطة: لا يصح إلا الصحيح، والحق أحق أن يتبع، وفي ذلك الصالح العام للجميع والمستقبل.

أكيد أنه لا بد من الواقعية التامة -ليس استسلاما لها- بل تعايشا مع إكراهاتها إذا ثبتت، ولكن لا بد كذلك من الثبات على الحق بأدنى حدوده والصبر على ذلك، [وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر]، وعدم التضحية بذلك لمصالح مظنونة أو موهومة، وإن كانت تلك المصالح متحققة للجزء فلا يجوز أن تكون على حساب الإضرار بالآخرين.

وابتداء، قبل الحديث في شأن تطور العلاقات بين حركة حماس وسوريا، أحب أن أثبّت منطلقا منهجيا نبني عليه؛ وهو أن الحركة وقد اتخذت هذه الخطوة فإنها تمثل "نظام الحكم في غزة".. وهو وصف أدق لتحليل سلوكها السياسي بوصفها "نظام حكم" يتصرف كباقي أنظمة الحكم في المنطقة والعالم.

أعتقد أن هذا هو "الوصف المنهجي" الصحيح الذي يجب أن نستخدمه لنقدم الرأي والتحليل السليم، وهو باعتقادي الوصف الذي تسعى قيادة غزة إلى ترسيخه، محبذة النظر والتعامل معها على أساس أنها "نظام حكم" يحسب المصالح المتعلقة بوجوده واستمراريته وقوته ودوره، والأولويات والمصالح العامة لأهل غزة وجغرافيتها وقوتها؛ ومن ثم القضية والشعب الفلسطيني ومستقبل الصراع.

ومن الأهمية هنا أن نبتعد عن التوصيفات القيمية والمبدئية ومحاولة الربط بين الحركة باعتبارها حاكما لغزة وبين أطروحاتها التي تربى عليها الناس، بأبعادها الأيديولوجية والدينية والأخلاقية والشرعية والديمقراطية والحزبية ومفاهيمها عن الأمة الواحدة ووحدة الشعوب العربية والقضية المركزية للجميع.

وذلك أن الحركة باعتبارها "نظام حكم" هي في حالة تخبط كبيرة حيال هذه الأطروحات وتطبيقاتها على علاقاتها ومواقفها داخليا وخارجيا. ولكننا إذا نظرنا إلى قيادة غزة بوصفها "نظام حكم" يتحرك وفق ما يمليه ذلك التوصيف؛ فيمكن عند ذلك تحليل وتقييم قراراتها وفق قواعد تحليلية أخرى.

وبعد هذه المقدمات، أقول إنه من منطلق السعي أن أكون صالحا مصلحا فإنني أحاول عندما أنصح جهة (نظاما أو حكومة أو حركة أو تجمعا أو مؤسسة أو قيادة) بوضع ضوابط تحدد مواقفها تجاه قضايا كبرى وجدليات، أن تلتزم إذ تفعل ذلك ببوصلات هادية لكي تصل إلى الأصلح في الدنيا والآخرة والأرعى للضمير والخلق والمبادئ، وتكون أكثر نفعا للذات والحلفاء والشركاء كما لشعوب المنطقة وللإنسانية، في الحال وفي المستقبل.

وبالنسبة لي، فإن البوصلات التي أؤمن بها وأدعو إليها في تقرير المواقف والقرارات والسياسات، وأحاول استخدامها بأعلى درجات الاستيعاب والمرونة إزاء كافة الأطراف والأطروحات هي كالآتي:

البوصلة الأولى

وجوب السعي إلى أقصى ما يمكن من التزام العدل والمبادئ والأخلاق والحق والحقيقة والموضوعية والديمقراطية السليمة التي تستند إلى القواعد العامة المنغرسة في الفطرة الإنسانية وعبر التوجيهات الإلهية والأعراف البشرية والقوانين والمواثيق الدولية السليمة والقواعد العقلية والمنطقية.

وعليه، فلا يمكن أبدا الرضا بأفعال كبيرة مشينة تخرق أيا من ذلك، من احتلال أو إرهاب أو قتل أو عدوان أو ظلم أو وحشية أو انتهاكات جسيمة أو أضرار كبيرة للإنسان والمجتمعات والأوطان والمنطقة والعالم. فمن يرتكب أيا من ذلك لا بد من الابتعاد عنه، بل لا بد من وقفه والتصدي له وعدم الارتماء في أحضانه أو السماح له بتلطيخ السمعة والتاريخ، ولا يجوز شرعنته ولا إعادة تأهيله تحت أية مبررات.

الموضوع ليس مبدئيا فحسب، بل حسابا للأرباح والخسائر، فتقديرات أضرار الاقتراب من سفاح أو التبسم في وجهه ستكون بالغة الضخامة مستقبلا، وفي أسوأ الأحوال إن لم يسعك أن تفعل أو تقول خيرا فليسعك الصمت منتظرا تغير الأحوال، ولتبحث عن خيارات في ساحات أخرى، وهي متوفرة إذا تصرفت كنظام حكم، بمنافع أعلى وخسائر أقل وبفارق كبير سأشير إليه في نهاية المقال.

وفق هذه البوصلة الأولى، لا يجوز لأحد أن يكون حليفا لمجرم أو شاهد زور في جرائم -لا زالت ترتكب- ضد أبرياء، وبلا حق أو مبرر مشروع يستند إليه الجاني.

هذه البوصلة أساسية لأصحاب القضايا في مخاطبة وتحشيد الناس لنصرة قضاياهم. فلا يمكن المطالبة بالشيء وتطبيق نقيضه ولا سيما لمن يطرح نفسه مبدئيا وصاحب قضية عادلة. "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وزوال الدنيا بأكملها -وليس تأخير تقدم في قضية ما- أهون على الله من قتل نفس بريئة.

وإذا تاهت البوصلة الأولى أو اختلط الحق فيها بالباطل والشبهات -وحدوث ذلك صعب جدا- أو إذا شعر صانع القرار أنه ضعيف لا خيار لديه إلا اللجوء لما هو اضطراري واستثنائي، بعد أن تخلى عنه العالم، فيلزمه عن ذلك الاهتداء بالبوصلة الثانية.

البوصلة الثانية

إذا تصارعت الشعوب والأنظمة، فلا مناص من الانحياز للشعوب.. هذا أمر مبدئي ومصلحي لصانع القرار؛ فالشعوب هي صاحبة الحق فيما يخص نفسها ووطنها وحياتها ومستقبلها، والشعوب دائما أقوى وأبقى، والرهان عليها أرجى لمن أراد الفوز في النهاية.

هذه الشعوب لا تنسى من يقف معها أو ضدها أو يظاهر من حرق قلوبها بفلذات أكبادها وكرامتها ودمر حياتها ومستقبلها، وأما القيادات والأنظمة فزائلة لا محالة، فلا بد من الانحياز إلى الشعوب ومستقبلها ومواقفها وحقوقها ومصالحها وإرادة أغلبيتها الحقيقية وتحررها وسيادتها وكرامتها وسلامها واستقرارها ونهضتها الحقيقية السليمة.

وفي رهان الشعوب على بعضها فوز وقوة للجميع، أما تدمير شعب "شقيق" أو "صديق" أو حتى "خصم" مظنة نصرة قضية شعبي أو شعب آخر فهو في التقديرات الإستراتيجية الموضوعية دمار لكل الشعوب و"استغباء" لحركاتها "النظيفة" عبر إعادة التوازنات لصالح أنظمة مستبدة غير شرعية مفسدة لتعيد هيمنتها على البلاد والعباد والثروات وترسخ التبعية للأجنبي والتنازع والانقسامات وصراعات الوكالات.

وفي كل الأحوال، فإن مصالحة حاكم قاهر لشعبه من أجل دعم قضيتي وشعبي، هو تدمير لقضيتي ونفسي وشعبي، وتأخير للنصر من حيث لا يدري صاحب القرار.

لطالما عانت شعوبنا العربية من أنظمة سوقت أكاذيب مخادعة عن بناء المستقبل والتخلص من أعداء الأمة، وناصرتها في ذلك حركات "نظيفة" وطنية وإسلامية، لنجد أنفسنا في آخر المطاف إزاء دمار شامل.

الرهان على الأنظمة القاهرة لشعوبها بدلا من الانحياز للشعوب، خسران لمن يظنون أنهم يحسنون صنعا، وإذا لم تستطع نصرة شعب وقضيته فلا تقف في الخندق مع سفاحه، إذ لا لوم على تلك الشعوب إذا غضبت وانقلبت، ولن يجدي وقتها مناشدتهم الأخوة والمبادئ والقيم والأخلاق ووحدة الحال والمصير والمستقبل.

تقلبات الموازين في هذا الزمان سريعة وقوية، وستمتلك الشعوب زمام أمرها وتقرر مصيرها، ولطالما استبشر المؤمنون بقضية فلسطين بالأمل حيال تغيرات المستقبل التي تتيح انتصار إرادة شعبهم الأعزل، فهل هذا الأمل حق حصري لهم أم أنه من حق الشعوب الأخرى كذلك؟!

يتبع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.