شعار قسم ميدان

كيف تستخدم إسرائيل المياه أداةً للقتل بدلا من الحياة؟

EDITORS NOTE: Graphic content / Palestinians line up to refil their water containers in Rafah on the southern Gaza Strip on October 24, 2023, amid the ongoing battles between Israel and the Palestinian group Hamas. (Photo by MOHAMMED ABED / AFP)
قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بقطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود عن قطاع غزة كنوع من العقاب الجماعي، مخالفة بذلك الأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان (الصورة: الفرنسية)

مع بدء الحرب القائمة على قطاع غزة، قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي بقطع إمدادات المياه والكهرباء والوقود عن القطاع كنوع من العقاب الجماعي، مخالفة بذلك الأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان التي أقرَّتها الأمم المتحدة فيما يتعلق بحق الجميع بالوصول إلى مياه صالحة للشرب.

ومع اليوم التاسع للحرب، أطلقت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحذيرا للمجتمع الدولي بقرب نفاد مياه الشرب في قطاع غزة، مما يهدد بكارثة صحية وبيئية تطول أكثر من مليونَيْ ساكن في القطاع يرزحون تحت وطأة الحصار والحرب، لا ملجأ لهم سوى مياه الآبار الملوثة التي لا تزيد الوضع إلا سوءا لاحتوائها على العديد من مسببات الأمراض.

ويبرزُ هنا السؤال الأهم: كيف يتحكم الاحتلال الإسرائيلي بمصادر المياه في قطاع غزة؟ ولماذا لا يملك الغزّيون السيطرة على مياه الشرب الخاصة بهم؟ ولكن قبل الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، نوضح أولا أنواع مصادر المياه المتوفرة في قطاع غزة.

مصادر المياه في قطاع غزة

هناك 4 مصادر للمياه في قطاع غزة. أولها هو المياه السطحية، ويُعد هذا المورد محدودا جدا ولا يُستفاد منه إطلاقا. فوادي غزة هو المسطح المائي الوحيد في القطاع، وينبع الوادي من جبال النقب والمرتفعات الجنوبية لمدينة الخليل في الضفة الغربية، ويبلغ طوله 105 كم، 9 كيلومترات منه فقط هي التي تمتد داخل غزة.

منذ أوائل السبعينيات، عندما بدأت إسرائيل في بناء السدود وتنفيذ خطط تحويل القنوات المغذية للجزء العلوي من الوادي لمناطق أخرى، انخفضت كمية المياه التي تصل إلى وادي غزة بشكل كبير إلى أن توقفت تماما بحلول عام 2000، حيث كان متوسط التدفق السنوي للوادي نحو 20 مليون متر مكعب.

المصدر الثاني هي المياه الجوفية، وهي المزود الرئيسي لمياه الشرب في فلسطين. ويقع قطاع غزة فوق جزء من حوض المياه الجوفية الساحلي الممتد على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط من حيفا شمالا إلى رفح جنوبا، حيث تعمل أمطار الشتاء على تجديد خزانات الآبار الجوفية بحد لا يتجاوز 60 مليون متر مكعب سنويا.

EDITORS NOTE: Graphic content / Citizens try to pump clean water from a 'well' in Rafah city, in the southern Gaza Strip on October 20, 2023, amid the ongoing battles between Israel and the Palestinian group Hamas. Thousands of people, both Israeli and Palestinians have died since October 7, 2023, after Palestinian Hamas militants based in the Gaza Strip, entered southern Israel in a surprise attack leading Israel to declare war on Hamas in Gaza on October 8. (Photo by SAID KHATIB / AFP)
يلجأ الغزيون للاعتماد على المياه الجوفية بشكل مضاعف، الأمر الذي يُشكِّل خطرا بنضوب هذا المورد إذا ما استمر الاستخراج بهذه الوتيرة. (الصورة: الفرنسية)

يعمل الغزيون على استخراج المياه من الآبار الجوفية من خلال مضخات تعمل بالكهرباء أو بالوقود. ونتيجة لشح مصادر المياه وسهولة استخراج المياه الجوفية التي تقع على عمق 19 مترا فقط تحت سطح الأرض، يلجأ الغزيون للاعتماد على المياه الجوفية بشكل مضاعف، حيث قاموا في عام 2019 وحده باستخراج 187.6 مليون متر مكعب، وهو ما يُشكِّل ثلاثة أضعاف ما تستطيع مياه الأمطار تجديده، الأمر الذي يُشكِّل خطرا بنضوب هذا المورد إذا ما استمر الاستخراج بهذه الوتيرة.

وقد صرحت سلطة المياه الفلسطينية أن 97% من المياه المستخرجة من حوض المياه الساحلي في قطاع غزة لا تطابق معايير جودة المياه الصالحة للشرب التي أقرتها منظمة الصحة العالمية، نتيجة التلوث الشديد الذي تعاني منه مياه الحوض الساحلي بسبب تسرب المياه العادمة إليها من الحفر الامتصاصية.

وتقوم 16.5% من المنازل في قطاع غزة بتصريف مياهها العادمة من خلال الحفر الامتصاصية، أما ما يتم تصريفه من خلال شبكات الصرف الصحي إلى محطات معالجة المياه العادمة فإنه يواجه خطر التصريف إلى البحر نتيجة توقف عمل هذه المحطات نتيجة استهداف إسرائيل لها أو لعدم إمدادها بالطاقة. في المحصلة، فإن 4% فقط من منازل القطاع تمتلك الوصول إلى شبكة مياه نظيفة مطابقة للمعايير والمواصفات.

تخضع شركة المياه الإسرائيلية (ميكروت) لسيطرة إسرائيل بشكل كامل وتستخدمه أداةً للضغط على القطاع. (الصورة: الجزيرة)

المورد المائي الثالث للغزيين يأتي عن طريق تحلية مياه البحر. ويقع قطاع غزة على البحر الأبيض المتوسط مما يُشكِّل فرصة لتحلية مياه البحر، ويعمل في قطاع غزة أكثر من 150 محطة تحلية ذات قدرات صغيرة، منها نحو 125 يديرها القطاع الخاص. على المدى البعيد تعمل سلطة المياه الفلسطينية والمانحون الدوليون على إنشاء محطة لتحلية المياه تبلغ قدرتها التشغيلية نحو 100 مليون متر مكعب سنويا، من شأنها تخفيف المعاناة على الغزيين وتحقيق اكتفاء ذاتي فيما يتعلق بمياه الشرب. بيد أن هذا المشروع يواجه تحديات عديدة، أهمها كمية الطاقة الكبيرة التي تحتاج إليها المحطة لتعمل، وهو ما يفتقده القطاع طوال الستة عشر عاما الماضية. وثاني هذه التحديات تردد المانحين بالاستثمار في مشاريع ضخمة كهذه المحطة التي تبلغ قيمة إنشائها نحو 620 مليون يورو، نتيجة استهداف إسرائيل لهذه البنى التحتية بشكل مباشر ومتعمد في الحروب على قطاع غزة.

أما المورد المائي الأخير، فهو شركة المياه الإسرائيلية (ميكروت). وتقوم ميكروت بتزويد القطاع بـ 8.0-7.5 ملايين متر مكعب من المياه سنويا، وتقوم بلديات القطاع بمزجها مع المياه الجوفية المالحة المستخرجة في خزانات لتخفيف ملوحتها قبل تزويد المواطنين بها، يخضع هذا المصدر لسيطرة إسرائيل بشكل كامل وتستخدمه أداةً للضغط على القطاع.

السيطرة على المياه

ولنجب الآن عن السؤال الأهم: كيف تُحكم إسرائيل سيطرتها على مصادر المياه في غزة؟

EDITORS NOTE: Graphic content / A man uses a container to fill water tanks with portable water in Rafah city, in the southern Gaza Strip on October 20, 2023, amid the ongoing battles between Israel and the Palestinian group Hamas. Thousands of people, both Israeli and Palestinians have died since October 7, 2023, after Palestinian Hamas militants based in the Gaza Strip, entered southern Israel in a surprise attack leading Israel to declare war on Hamas in Gaza on October 8. (Photo by SAID KHATIB / AFP)
تبعا لاتفاقية أوسلو فإن هناك حدًّا أقصى لا يُسمح لمضخات سحب المياه بتجاوزه، بل لا يُسمح بإدخال المعدات المخصصة لذلك بالدخول إلى القطاع، وبالتالي الوصول إلى المياه الأكثر عمقا والأقل تلوثا. (الصورة : الفرنسية)

تدرك دولة الاحتلال بناء على المعطيات أعلاه أن المياه الجوفية التي يستطيع الفلسطينيون في غزة الوصول إليها قليلة جدا وملوثة جدا في الوقت نفسه، فبالإضافة إلى ملوحتها، تحتوي على كميات كبيرة من النترات والبورون السامين، حيث إن 83% من العينات التي فُحِصت في شبكة توزيع المياه في غزة غير مطابقة لمواصفات منظمة الصحة العالمية والمواصفات الفلسطينية الخاصة بالنترات في المياه، كما أن 25% من العينات التي فُحِصت في المياه الجوفية غير مطابقة لمعايير منظمة الصحة العالمية والمواصفات الفلسطينية الخاصة بالقولونيات البرازية. وتبعا لاتفاقية أوسلو فإن هناك حدًّا أقصى لا يُسمح لمضخات سحب المياه بتجاوزه، بل لا يُسمح بإدخال المعدات المخصصة لذلك بالدخول إلى القطاع، وبالتالي الوصول إلى المياه الأكثر عمقا والأقل تلوثا.

تبلغ كمية المياه الصالحة للشرب التي يستهلكها المواطن الغزي 22.4 لترا يوميا لكل فرد، وهي أقل من ربع الحد الأدنى الذي تنصح به منظمة الصحة العالمية ويبلغ 100 لتر يوميا لكل فرد واللازم لتلبية الاحتياجات الصحية الأساسية. بينما تبلغ الكمية التي يستهلكها الإسرائيلي 211 لترا يوميا لكل فرد، الأمر الذي يُظهِر الفرق الكبير بين ما توفره إسرائيل لمواطنيها وبين ما يتوفر لأصحاب الأرض من الفلسطينيين.

تستهدف إسرائيل مع كل تصعيد البنى التحتية الخاصة بالمياه من شبكات توزيع المياه والصرف الصحي، ففي حرب عام 2021 استهدفت 18 مضخة لمياه الصرف الصحي، 6 منها تدمرت بالكامل، مما أدى إلى تسرب المياه العادمة إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. أيضا تدمر 18,734 مترا من شبكة الصرف الصحي، الأمر الذي تسبب بتوقف محطات تنقية المياه العادمة عن العمل إلى حين ترميم الشبكة. قطع إمدادات الوقود والكهرباء يعني ببساطة عدم القدرة على تشغيل مضخات مياه الشرب ومضخات تصريف المياه العادمة ومحطات تنقية المياه العادمة. تبعات هذا الأمر تجاوزت تدمير البنى التحتية وتوقفها عن العمل، ليصل إلى عزوف المانحين عن الاستثمار في مشاريع البنى التحتية في قطاع غزة نتيجة استهداف إسرائيل لها مع كل اندلاع للحرب، وتهدف دولة الاحتلال من ذلك إلى استخدام الأمر أداةً سياسية لإخضاع سكان غزة، وفرض الهدوء على القطاع مقابل عدم استهداف البنية التحتية.

اتفاقية أوسلو التي لم تصل إلى مرحلة الحل النهائي كما هو مخطط لها، كان من أهدافها أن تصل بالسلطة الفلسطينية إلى مرحلة الاعتماد على نفسها فيما يتعلق بإدارة قطاع المياه، الأمر الذي لم يتحقق أبدا، لأن إسرائيل هي التي تسيطر على مصادر المياه، بل وتبيع المياه إلى دول أخرى مجاورة، وهي تريد أن تُبقي على صنبور المياه وسيلةً مجانية للابتزاز السياسي وانتزاع المواقف، فهي تقتطع فاتورة المياه من أموال الضرائب التي تجنيها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية بشكل شهري مباشر ودون العودة للسلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته تغلق الصنبور وتفتحه بناء على مجريات الوضع القائم كما يحدث الآن في قطاع غزة.

مع بداية حرب روسيا على أوكرانيا، قطعت روسيا إمدادات الغاز والطاقة واستهدفت البنى التحتية الخاصة بهذه الإمدادات، الأمر الذي وصفته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير ليين بأنه عمل إرهابي يرقى لمستوى جريمة حرب كونه يخالف قوانين حقوق الإنسان، بينما صرحت في بداية الحرب على غزة أنها بجانب إسرائيل فيما تفعله من إجراءات في سبيل "دفاعها عن النفس".

من هنا استمدت إسرائيل شرعيتها لما تفعل، فلأول مرة في التاريخ الحديث تستخدم المياه بهذا المستوى وسيلةً للقتل والابتزاز، فتدفع الغزيين لاستخدام المياه الملوثة، وتمنع إدخال معدات من شأنها زيادة وصولهم إلى المياه الأقل تلوثا. مع بداية الحرب قطعت إسرائيل إمدادات الوقود والكهرباء، وهي السبيل الوحيدة لاستخراج مياه صالحة للاستخدام نسبيا، دون ذلك سيموت الناس من العطس والجفاف الشديد والأمراض المعدية، إذا لم يموتوا بالطائرات والقنابل.

_________________________________________

هوامش:

  • يعمل الكاتب حاليًا في هولندا مدير مشروع في شركة لتحليل البيانات الجغرافية. وهو مرشح لنيل درجة الدكتوراه في إدارة بيانات المياه من جامعة توينتي في هولندا، وحاصل على ماجستير في إدارة البيئة والطاقة من الجامعة ذاتها. عمل الكاتب لأكثر من خمس سنوات مستشارا للشركات الناشئة في مجال المياه والزراعة الذكية في فلسطين، وأجرى بحث الماجستير الخاص به حول حوكمة إعادة استخدام مياه الصرف الصحي المعالجة في فلسطين، حيث اكتسب المعرفة والخبرة حول سياق المياه في فلسطين.
المصدر : الجزيرة