جان بول سارتر.. الفيلسوف الفرنسي الذي عشق فرنسا وكرهها!

Jean-Paul Sartre Sitting with Egyptian Artifact (Original Caption) Luxor, United Arab Republic: Famed French author Jean-Paul Sartre poses beside an ancient Egyptian statue as he toured the antiquities of Luxor during his visit to the UAR. gettyimages-515035240
جان بول سارتر. (غيتي)

مقدمة

كشفت عملية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من حرب إبادة وأحداث، أن الفكر الاستعماري الغربي ما زال حيًا، إذ كشفت الحرب بما لا يدع مجالًا للشك عن ازدواجية المعايير الغربية، والإنكار شبه الكامل لحقوق الإنسان ما دام الضحية فلسطينيًا، بل قد كشفت الحرب عن استعداد الكثير من الدول الأوروبية ومنها فرنسا لمصادرة حرية التعبير وانتهاك حقوق الإنسان داخل بلادها من خلال قمع ومنع المظاهرات المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني في التخلص من احتلال أراضيه.

في ظل هذه الأجواء، نستذكر الفيلسوف الفرنسي الراحل جون بول سارتر، الذي كان مدافعا عن بلاده فرنسا ومحبا لها، وقاوم النازية وشارك في الحرب العالمية الثانية، لكن أمرا ما قد تغير في حبه ذاك. إذ إن فيلسوف الحرية، كما يُعرف، واجه إشكالات عدة مع سياسة بلده في استعمارها للجزائر وغيرها من الدول، وقد أثر ذلك على رؤيته لحقوق الإنسان، وعلى نقده للكثير من السياسات الفرنسية.

Jean-Paul Sartre In Paris, France In 1966 - FRANCE - CIRCA 1966: Jean-Paul Sartre In Paris, France In 1966 - Writer and philosopher. (Photo by Dominique BERRETTY/Gamma-Rapho via Getty Images) gettyimages-120446182
جان بول سارتر (غيتي)

نص التقرير

هل سمعت من قبل عن شخص يحب ويمقت الشيء ذاته في آن واحد؟ لا ريب في أن ذلك قد يؤدي إلى الجنون أو -على الأقل- إلى الألم العميق، وقد يصبح الوضع أكثر سوءا إذا كان هذا الشيء هو وطنك. ذلك كان حال جان بول سارتر، فقد كان فيلسوفا فرنسيا ضد فرنسا، ونسلا فلسفيا لرينيه ديكارت وأحد معجبي أونوريه دي بلزاك، كما أنه قاتل من أجل فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وكان أسير حرب في ألمانيا. إلا أن الحال تبدل بعد الحرب، فقد تحول إلى أشد منتقدي السياسة الفرنسية وأقساهم. فما السبب؟

عاين سارتر كيف أصبحت فرنسا -أرض الحرية والمساواة والأخوة- مفترسا استعماريا في الجزائر والكاميرون والهند الصينية (جزء من الإمبراطورية الفرنسية الاستعمارية في جنوبي شرقي آسيا). وفي الافتتاحية الأولى لمجلة "لي تون موديرن" (Les Temps Modernes) في عام 1945، أعلن كل من سارتر وعالم الظواهر موريس ميرليو بونتي أن أبناء المقاومة الفرنسية الذين قاتلوا لتحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية، والذين أصبحوا الآن في الهند الصينية، هم مثل الجنود الألمان، يقاتلون لأجل الفاشية.

لقد كانت باريس تمثل بالنسبة لسارتر رمزا للحرية ضد آلية الفاشية، ولكن بعد أسبوع واحد فقط من وفاة هتلر، أرسلت باريس -المدينة ذاتها التي ارتبط اسمها بالرومانسية والحرية- قوات لارتكاب مجزرة دموية في مدينة "سطيف" الجزائرية، وذبح الآلاف من الجزائريين. وفيما تلا من سنوات، واصلت فرنسا المتحضرة قمعها الوحشي للحركة الصاعدة المناهضة للاستعمار، وكثيرا ما حكمت بالإعدام على أفراد في المحاكم العسكرية.

صورة تجمع جان بول سارتر مع الثائر تشي جيفارا (مواقع التواصل)
صورة تجمع جان بول سارتر مع الثائر تشي جيفارا (مواقع التواصل)

وهو أمر دفع بسارتر إلى الإعلان صارخا "جميعنا قتلة" في عنوان مقالته عام 1958، وفيها كتب:

"في نوفمبر/تشرين الثاني 1956، قام فرناند إفيتون، وهو عضو في حركة مقاتلي التحرير (مجموعة مقاومة أنشأها الحزب الشيوعي الجزائري)، بزرع قنبلة في محطة كهرباء حماة، وهي عملية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نساويها بعمل إرهابي.

أثبتت التحليلات أن الحادث كان قنبلة موقوتة معدة بدقة بحيث لا يمكن أن يحدث الانفجار قبل مغادرة الموظفين، إلا أن ذلك كان بلا جدوى؛ فألقي القبض على إفيتون، وحكم عليه بالإعدام ورُفض أي إرجاء للحكم، فأعدم الرجل. وبلا أدنى تردد أعلن هذا الرجل وأثبت عدم رغبته في قتل أي أحد، ولكننا أردنا أن نقتله وفعلنا ذلك دون أن يرف لنا جفن".

لم تعد فرنسا بطلة للحرية بالنسبة لسارتر، بل كانت على النقيض من ذلك، مناهضة للحرية. فقد كانت تلعب لعبة مزدوجة، تحاول القيام بدور قيادي في خطاب حقوق الإنسان، وتقمع في الوقت نفسه السكان الأصليين للأراضي التي تستعمرها.

 

على فرنسا أن تتخلص من فرنسا!

في مقدمته لكتاب فرانز فانون لعام 1961 "معذبو الأرض"، قال سارتر إن فرنسا يجب أن تخلص نفسها من فرنسا؛ أي إن فرنسا، تلك الحرة المثالية يجب أن تفصل نفسها عن فرنسا الدولة الاستعمارية. وكان أستاذ القانون الفرنسي رينيه كاسين هو الممثل الفرنسي في لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعمل على تنقيح مسودته الأولى في السنوات التي تلت الحرب. ولا شك في أن سارتر كان ليصاب بالغثيان لو اطلع على هذا المشروع، لإعلانه أن حقوق الإنسان تفترض مسبقا درجة عالية من الحضارة، وبالتالي لا تنطبق على من هم في مراحل "بدائية" من التنمية. وذلك يفيد بأن حقوق الإنسان ليست لكل الناس، بل هي لأولئك الأكثر إنسانية.

(تذكر إعلان الخنازير في مزرعة الحيوان لجورج أورويل: "جميع الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة عن الآخرين")

على أي حال، تذبذب سارتر لثلاثة عقود باتجاه فكرة حقوق الإنسان وبعيدا عنها، لأنه كان يشكك في نزاهة نظرية حقوق الإنسان تجاه أولئك المعذبين الذين يُطلق عليهم الشعوب "غير المتحضرة". فإذا كان من أصدر الإعلان هي الإمبراطوريات الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا، هل حقا سيكون إعلانا داعيا للسلام ومنصفا وحسن النية؟ أم كان خلف تلك الابتسامة الإنسانية اللطيفة مجموعةٌ من الأسنان الحادة؟

midan - Jean-Paul Sartre
إذا كان سارتر مجرد مفكر يساري، كان موقفه ضد النزعة الفردانية المطلقة ليكون واضحا؛ لكنه كان وجوديا كذلك، والفردانية أحد الأركان الأساسية للوجودية. (غيتي)

كان سارتر يدافع أحيانا عن الإعلان لأنه رأى أنه على الرغم من تضييقاته، فإنه يعزز الحقوق الأساسية التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان. وفي بيانه المعنون بـ"الإبادة الجماعية" في الدورة الثانية لمحكمة برتراند راسل الدولية لجرائم الحرب في عام 1967، أبدى قلقه البالغ إزاء حقوق الإنسان العالمية، ودان الولايات المتحدة لانتهاكها حقوق الإنسان في فيتنام.

ولكن باعتباره ماركسيا، كان سارتر قلقا كذلك بشأن ما اعتبرها عناصر برجوازية مضمنة في الإعلان، خاصة الفردية المتطرفة، وهو ينتقد "البرجوازية" لاستخدامها طريقة تحليلية لشرح كل شيء، حيث يجب تقسيم كل واقع مركب إلى عناصر بسيطة. ويهدف التحليل البرجوازي إلى اختزال المجتمع البشري ليصبح عبارة عن أفراد معزولين.

وقال سارتر في "لي تون موديرن" (Les Temps Modernes) إنه يعتقد أن هذا المبدأ ترأس الإعلان العالمى لحقوق الإنسان أيضا، إلا أنه عندما يفقد شعب ما أرضه وتجارته وجيله الشاب ولا يبقى معه شيء يملكه سوى نفسه، فإنه لا يحتاج إلى الفردية والممتلكات الخاصة، بل على العكس من ذلك يحتاج إلى الجماعية بدلا من الفردانية، وإلى العودة إلى جماعته التقليدية، وحقهم الجماعي في تقرير المصير.

ولو كان سارتر مجرد مفكر يساري فقط، لكان موقفه ضد النزعة الفردانية المطلقة أكثر وضوحا؛ لكنه كان وجوديا كذلك، والفردانية أحد الأركان الأساسية للوجودية. وفي محاضرته عام 1945 التي حملت عنوان "الوجودية هي الإنسانية"، أعلن أن "نقطة الانطلاق" الوجودية هي في الواقع ذاتية الفرد "ليس لأننا برجوازيون، ولكن لأننا نسعى إلى بناء عقيدتنا على الحقيقة".

وفي محاضرة "الوجود واللا شيء" (1943)، قال إن كل فرد مسؤول وجوديا عن خلق طريقته في الحياة والالتزام بها. وهو نوع من الوجود يسميه الفيلسوف اللاهوتي سورين كريكجارد التفرد أو الفردية. ويجب أن نلاحظ أنه بالنسبة لسارتر، يختلف التفرد أو الفردية عن الفردانية؛ فالنزعة الفردانية المتطرفة هي نفي أي هوية جماعية، في حين أن الفردية يمكنها أن تشمل كونك مع الآخرين.

epa07087616 Slovenian philosopher Slavoj Zizek speaks at the authors' forum 'Blue Sofa' during the book fair 'Frankfurter Buchmesse 2018', in Frankfurt am Main, Germany, 12 October 2018. The 70th edition of the international Frankfurt Book Fair, described as the 'world's most important fair for the print and digital content business' runs from 10 to 14 October and gathers authors, writers and celebrities from all over the world. This year's Guest of Honour country is Georgia. EPA-EFE/HAYOUNG JEON
سلافوي جيجك – مفكر يساري (الأوروبية)

ورغم أن سارتر ينتمي إلى الجانب الأيسر من الجدل حول حقوق الإنسان، فإن انتقاداته لا تتفق تماما مع المفكرين اليساريين المعاصرين مثل سلافوي جيجك في كتابه "ضد حقوق الإنسان" (2005). يربط جيجك نظرية حقوق الإنسان بالرأسمالية الليبرالية، تماما كما فعل سارتر، إلا أنه يولي اهتماما لظاهرة جديدة، وهي ظاهرة التدخل الإنساني. فقد شهد نقاد مثل جيجك مؤخرا الطريقة المدمرة التي تتدخل بها الدول الغربية سياسيا واقتصاديا وعسكريا في بلدان العالم الثالث باسم الدفاع عن حقوق الإنسان.

وكما يقول جيجك "من الواضح، على سبيل المثال، أن الإطاحة بصدام حسين تحت قيادة الولايات المتحدة، والتي اكتسبت مشروعيتها على أساس إنهاء معاناة الشعب العراقي، لم تكن مدفوعة بمصالح سياسية واقتصادية فحسب، بل اعتمدت كذلك على فكرة محددة عن الظروف السياسية والاقتصادية التي يتم بموجبها تسليم "الحرية" إلى الشعب العراقي؛ وهي الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية، والاندماج في اقتصاد السوق العالمي وما إلى ذلك".

 

لذلك ليس من السهل القول إن سارتر كان مع نظرية حقوق الإنسان مطلقا، ولا ضدها تماما. ويجب ذكر نقطتين حاسمتين:

  • أولا، يمكن القول إن لنظرية حقوق الإنسان إمكانات إنسانية كثيرة، تحتوي على الأقل على بذور المساواة في الحقوق بين جميع البشر.
  • ثانيا؛ إذا لم ننتبه بشكل كاف للمؤسسة الاستعمارية الرأسمالية ورغباتها في حماية مصالحها السياسية والاقتصادية على حساب حقوق الإنسان عندما تتنافى مع تلك المصالح، فإن نظرية حقوق الإنسان يمكن أن يُساء استخدامها بسهولة من قبل تلك القوى.

يمكن القول إنه على الرغم من أن سارتر وناشطي العالم الثالث قد ناشدوا حقوق الإنسان في مطالبهم المتعلقة بالمساواة والكرامة الإنسانية، فإن تاريخ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يبيّن أنه في البداية كانت حقوقه مكتوبة من أجل الدفاع عن المواطنين الأوروبيين ضد إرهاب النازية، وليس للدفاع عن غير الأوروبيين ضد الاستعمار الأوروبي.

————————————————————

ترجمة: سارة المصري

هذا التقرير مترجم عن: Philosophy Now ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة