شعار قسم مدونات

الإصلاح الأسري في سورة الطلاق (4)

Nagwan Lithy -  دراسة: ارتفاع عدد الأسئلة يوم 14 فبراير حول الطلاق بنسبة 36% (بيكساباي)  - لا تفرطوا في الرومانسية.. اليوم يشهد أعلى معدلات الانفصال
تتعمق التفاصيل حتى يشعر كل من الزوجين أنهما في حضرة المكاشفة في الرجعة أو المفارقة فيجب أن ينظرا بعين الصدق (الجزيرة)
  • (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله..) (الطلاق: 2)

كل أمر تحت الضوء، وكل توجيه محبوك تحت شمس الظهيرة، لا تعتيم في العلاقات، ولا مجازات في المفاهيم المتعلقة بالحقوق، ولا ثقة بالنوايا الطيبة أو الخبيثة، بل الأمر كله بين الشاهد والمشهود، وعلى عين الله، واللهُ خير الشاهدين.

الشهود ليسوا رفاق مقاهي، ولا زملاء مصالح، ولا باعةً متجولين للقيم والكرامة، ولا من ذوي الألاعيب الذين يلحنون في الحجج من أجل صديقهم وزميلهم على حساب الشرع والشريعة والحقوق، بل هما من (ذوي عدل)

تأتي اللفظةُ القرآنيةُ البديعةُ (وَأَشْهِدُوا)، ويطالعك حرف الشين في كلمة (وَأَشْهِدُوا) كأنه يطلب منكم أن تجعلوا المرافقَة والمفارقة بالإشهاد الذي هو الأليق بالمراد وتبعاته؛ لأن في المرافقة والمفارقة حقوقا نفسية في سبيل الإرجاع والترك، وحقوقا مالية من إرث ونفقة ومصاريف، وحقوقا تربوية أسرية من رعاية المطلقة التي لا معين لها إلا طليقها أو مرجعها، والأبناء وحقوقهم المالية والنفسية والتواصلية، ولن يتصف الشاهد بالشهادة إن لم يكن من ذوي البصر والبصيرة، فبصره يراقب الحركات والسكنات في حوار المفارقة والمرافقة، فلكل حركة معنى عند ذوي البصيرة، ولكل غصة معاني عند ذوي البصيرة والرؤية المستنيرة.

ولكن الشهود ليسوا رفاق مقاهي، ولا زملاء مصالح، ولا باعة متجولين للقيم والكرامة، ولا من ذوي الألاعيب الذين يلحنون في الحججِ من أجل صديقهم وزميلهم على حساب الشرع والشريعة والحقوق، بل هما من (ذَوَيْ عَدْلٍ)، وهذه اللفظة تميط عما تنطوي عليه من دفين العواطف والنوازع والأهواء من خير وشر، ولن يكونا عدولا ما لم تتجمع فيهما سمات التكليف؛ لأنه أمر إلهي، والأنفة كذلك؛ لأن مغريات الشهادة بين الزوجين كبيرة، فمن الممكن أن يستغل أحدهما الشاهد؛ لكي يحيف معه في الحضور والشهادة والشروط، فتمنَعه الأنفة والكبرياء المحمود من هذا المنزلق، والثقة بأن يكون أهلا للحفظ للسر وعدم ذيوعه، واليقظة التي تجمع كل ما سبق.

وبقيت (مِنْكُمْ) ماثلة أمام مخيالي، شاخصة في السبب لورودها هنا، فتساءلت: أليس المعنى قد تم كله بأن يشهد ذوا العدلِ؟ ألم ينتهي الأمر بعد؟ فلم قيد الرب الحكيم ذوي العدل بأن يكونا من أقارب ومعارف الزوجين أي "منكم"؟ ما السبب ؟

هنا تظهر واقعية القرآن مع علو كعب الحكمة من هذه اللفظة، فالخلاف الذي نشب بينهما، والبرود الذي حل في العلاقة عندهما، والطلاق الذي وقع في لحظة ضعف أو قوة، وهذه الحالة التي يريد ذوا العدل أن يكونا شاهدين عليها من رجعة أو مفارقة، تحتاجُ إلى مقام من الوعي بالخلفياتِ الثقافية عند الزوجين، والأبعاد النفسية عند كل واحد منهما، ومدى بلوغ كل من الزوجين القرار الحكيم في الترك أو الرجعة، بل ولأن في القرب النفسي والثقافي والفكري من الزوجين من ذوي العدل مادة مهمة في جعل الشهادة حقيقة، ومن دون استغلال مادي؛ لأن كل واحد من ذوي العدل على وعي بالملاءة المالية للزوجين، ولا استغلال نفسي أو تلاعب؛ لأن ذوي العدل يعرفان كنه الزوجين وألاعيبهما، فكان الحق تبارك اسمه وتقدس كلامه، على علم بالنفوس ومراميها، وعلى دراية، وهو الخالق الحكيم، بأن أمر الرجعة أو المفارقة لا يحتاج إلى شهود يملؤون مكان الشهادة فقط، بل هم في مقام حزام الأمان الذي يضبط للزوجين في البداية، وللمجتمع في النهاية، مسار الحديث والعلاقة، فكان لا بد من ضبط ذوي العدل أن يكونا (مِنْكُمْ) بالضبط (مِنْكُمْ) ويكأن هذه الحروف الأربعة وهي تمثل الصفة اللازمة للفظة (ذَوَيْ).

(وأقيموا الشهادة لله)، فالإقامة أن تجعل الأمر مستندًا من غير مسند له أو معين له على الاقامة، وهنا كان الأمر من رب الأمر أن الشهادة في هذا الموضع هي أن تترك كلامك للزوجين يشهد لك أمام الله لا عليك

تتعمق التفاصيل حتى يشعر كل من الزوجين أنهما في حضرة المكاشفة في الرجعة أو المفارقة فيجب أن ينظرا بعين الصدق؛ لأنهما أمام مرآتهما من ذوي العدل منهم، فعندما تدقق النظر في هذه الألفاظ مجتمعة (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)، وأنت تقرأها معطوفة على حالتي الإمساك والمفارقة، تجد أنها تحمل مانشيت عظيم في البناء الأسري، بل وهي ثلاثية الانتقال لمرحلة جديدة من الحياة التي سوف يقررها الزوجان رجعة أو فراقا، فليس الأمر منوطا بتقلبات نفسية للزوجين، أو بلعب أدوار الضحية، أو ممارسة ألاعيب النرجسية كل واحد على الآخر انتقاما، فالأمر منضبط بهذه الثلاثية (شهادة + ذوي عدل + منكم)، وهي أضلاع مثلث الوعي الإصلاحي الحقيقي للأسرة، وهذا زوايا هرم لبناء سيستمر ولو وقع الطلاق فيه.

انتقل الخطاب الموجه للزوجين إلى ذوي العدل المراد لهما الشهادة بأن (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)، ويعمل هذا التنبيه لذوي العدل بأنكما تذهبان في مهمة رسمية، وعمل خطير، فأنتما مطالبان بأن تقيما، وهنا وقفة متأنية مع هذه اللفظة المرعبة والمتعبة لمن لم يتوقف عندها وقفة يملأ بها قلبه، ويتضلع بها في كل كيانه، ويجعلها بوصلة تنكزه كلما هم أن ينطق بحرف في جلسة الشهادة أن يتذكر (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ)، فالإقامة أن تجعل الأمر مستندا من غير مسند له أو معين له على الإقامة، وهنا كان الأمر من رب الأمر أن الشهادة في هذا الموضع هي أن تترك كلامك للزوجين يشهد لك أمام الله لا عليك، فانتبه أيها الشاهد فأنت تقيم الشهادة على طريقة أن تقيم الصلاة، فهذه تؤديها لله في بيت الله، وتلك الإقامة تؤديها لله في بيت الزوجين، فلا تنصرف بك الشّهادة إلى غير مقصدها الأسمى وهو "لله".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.