شعار قسم مدونات

العراق.. من دولة قمعية إلى دولة قسرية

تقول التقارير أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون زادت بنحو 4 بالمئة منذ العام 2016 في العراق (وكالة الأناضول)

ذكرني مؤتمر كوب 28، الذي نظمته الإمارات العربية المتحدة مؤخرا، بالتزام كان قد قطعه العراق على نفسه حينما انضم إلى اتفاقية باريس للمناخ عام 2016.. كان على العراق بموجب انضمامه لاتفاقية باريس أن يخفض من انبعاث ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 1 إلى 2 بالمئة، ويفتح نافذة لاستثمار 100 مليار دولار أميركي في الاقتصاد الأخضر للقطاعين الخاص والعام خلال عشر سنوات، على اعتبار أن العراق يعد واحدة من أكثر دول العالم التي ستتأثر بالمتغيرات المناخية.

يتحدث الباحثون عن أن العراق فشل في الانتقال نحو الديمقراطية، بعد أن أخضعت الطبقة السياسية الحكم إلى عرف سياسي استند إلى مرتكزات بدائية، أبرزها الفساد والطائفية السياسية وترسيخ المحاصصة واستمكان مجموعة من الأحزاب على مقدرات الدولة

الآن، وبعد مرور 7 سنوات، تقول التقارير إن الانبعاث ازداد بنحو 4 بالمئة منذ العام 2016، ونافذة الاستثمار في الاقتصاد الأخضر لم يُفتح منها سنتمتر واحد.. التهرب أو الهروب من التعهدات والالتزامات التنموية والاقتصادية وحتى السياسية بات صفة ملاصقة لنظام الحكم في العراق، وهو انعكاس طبيعي بل منطقي لسلوك الطبقة السياسية في هذا البلد، وبالإمكان القول إنه يمثل مثابة عميقة لتبرير إنتاج دولة فاشلة غير قادرة على إنتاج الحلول منذ 20 عاما مضت.

يتحدث الباحثون عن أن العراق فشل في الانتقال نحو الديمقراطية، بعد أن أخضعت الطبقة السياسية الحكم لعرف سياسي استند إلى مرتكزات بدائية، أبرزها الفساد والطائفية السياسية وترسيخ المحاصصة واستمكان مجموعة من الأحزاب على مقدرات الدولة، وتحويلها إلى غنيمة يتم تحويلها إلى أرصدة شخصية أو حزبية تسعى إلى تمويل أنشطة حزبية تديم حالة الصراع على السلطة. ولقد صار من أبرز الهنات التي تشخص في فشل العراق في الانتقال إلى الديمقراطية، التهاون في العمل على إنتاج المؤسسات الدستورية، كمجلس الاتحاد وقانون النفط والغاز وتشريع قانون للمحكمة الاتحادية، بل يصل الأمر إلى تعطيل تشريع نحو الثلثين من القوانين الدستورية.

يطرح فلاسفة القانون واحدًا من أكثر الأسئلة الجدلية في علم القانون الدستوري: أأنتج النظام دستورًا، أم إن الدستور هو الذي أنتج نظامًا؟ الإجابة عن هذا السؤال تضع ما يشبه خارطة طريق دقيقة لتشخيص التحول الديمقراطي في هذا البلد، ومن الواضح أن الإجابة المنطقية هي أن النظام أنتج دستورًا، وهو الذي يملك حالة القيمومة على الدستور، بدليل أن الأحزاب الحاكمة تخرق الدستور علانية وتجد لنفسها مبررات سياسية لتجاوز حاكمية الدستور؛ وكمثال لذلك -وفضلا عن تجاهل إكمال البنية الدستورية للدولة- ثمة مواد صريحة ومطلقة يتم خرقها دون إخضاعها حتى للنقاش الوطني والمؤسسي، كالمادة (9 ب) من دستور جمهورية العراق لعام 2005، التي تنص (يحظر تشكيل مليشيات عسكرية خارج إطار القوات المسلحة)، بينما تشير الأرقام الرسمية إلى وجود قرابة 67 مليشيا عسكرية في العراق تحت عناوين شتى أبرزها المقاومة، بل تساهم هذه المليشيات في صناعة القرار السياسي.

تعطيل الدستور وإخضاع الدولة واعتماد دستورٍ موازٍ، يستند بمجمله إلى إضفاء حالة من الشرعية على عرف سياسي، هذا حدد قواعد اشتباك جديدة في عملية سياسية أرادها الأمريكان إبان الاحتلال أن ترتكز على التوافق والتراضي بين المكونات، القواعد الجديدة حولت الشركاء من الكرد والسنة إلى حالة من التبعية السياسية لصانع القرار الرئيس، وهو الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تحظى بإسناد من إيران، والتي في مجملها تتحكم بالمال السياسي والسلاح.. التعاطي مع الأحزاب السياسية السنية على سبيل المثال انتهى إلى فرض وصاية شبه مطلقة على الفعل السياسي والخيارات وحتى القرارات والمواقف السياسية، إذ تتولى الأحزاب الشيعية بالإنابة عن الفواعل السياسية السنية اتخاذ قراراتهم وتحديد مسار خطابهم السياسي واختيار زعمائهم وإقصائهم متى شاؤوا وقرروا ذلك؛ أما الأحزاب الكردية فمورست بحقها استراتيجية الخنق الاقتصادي، حيث بقي حسم الملفات النفطية والجمركية ورواتب الموظفين في الإقليم عالقا، ويستخدم عادةً لأغراض الإخضاع والابتزاز السياسي.

لتعويض النقص البائن على صعيد التمثيل المجتمعي، وإخفاقها في تنفيذ التزاماتها السياسية مع شركائها، عمدت قوى السلطة إلى خنق الحريات العامة، وخلق حالة من الزبائنية السياسية، وشراء وسائل الإعلام عبر الترهيب والترغيب

معادلة الحكم الحالية، التي أُنتجت من جراء اتفاق سياسي برعاية مباشرة من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، تعاني من فجوة شرعية ومشروعية واضحة، وتفتقر إلى تأييد مجتمعي واسع؛ فبعد انسحاب الصدر، الفائز الأول في الانتخابات السابقة، وإقصاء النواب المستقلين، الذين انبثق أغلبهم من حراك تشرين والحاصلين على أعلى نسبة أصوات في انتخابات 2021، عمدت أحزاب الإطار التنسيقي إلى تشكيل حكومة منقوصة من حيث التمثيل السياسي الواسع، على غرار ما فعلت إبان حكومة المالكي الثانية 2010-2014، حيث استندت بفعل الدعم الدولي والإقليمي إلى إعادة إنتاج اتفاق سياسي مع الأحزاب السنية والكردية، بقي عصيًّا على التنفيذ منذ 14 عامًا على الأقل، وسُمي الاتفاق بائتلاف إدارة الدولة، وكان يعتمد على تنفيذ مطالب فئوية ومكوناتية اقتصادية وسياسية وجيوسياسية في شمال العراق وغربه، لكن ممثل الشيعة في هذا الائتلاف هرب كالعادة من تنفيذ أغلب الالتزامات التي تعهد بها، حيث أخفقت الحكومة ومجلس النواب في تنفيذ قرابة 88 بالمئة من البرنامج الحكومي والتشريعي في عامه الأول، من قبيل إفراغ المدن الغربية من الحشود العسكرية، وحسم ملف المناطق المتنازع عليها، وتنفيذ اتفاقية سنجار، والمضي باتجاه إجراء انتخابات نيابية مبكرة.

لتعويض النقص البائن على صعيد التمثيل المجتمعي، وإخفاقها في تنفيذ التزاماتها السياسية مع شركائها، عمدت قوى السلطة إلى خنق الحريات العامة، وخلق حالة من الزبائنية السياسية، وشراء وسائل الإعلام عبر الترهيب والترغيب.. وللمرة الأولى منذ عام 2003 توضع وسائل الإعلام المملوكة بمجملها للأحزاب على طاولة المفاوضات في تشكيل الحكومة ويخضع خطابها إلى حالة من حالات المساومة، وفي مقابل دعم الحكومة وعدم التطرق إلى إخفاقاتها حظيت بجزء من المناصب أو الريع النفطي في عملية رشوة واضحة، كما مارست سطوتها في كسر الأقلام المعارضة، وقد رفعت الحكومة بنفسها قرابة 144 دعوى قضائية في عامها الأول بالضد من صحفيين ومحللين سياسيين وقادة رأي، كما ساهمت في إغلاق مواقع إخبارية، وحجب ظهور برامج سياسية تتسم بخطابها المعارض كبرنامج (بوضوح)، الذي يقدمه الإعلامي محمد جبار على قناة زاكروس.

كما عمدت الحكومة إلى رفع سقف الإنفاق الحكومي إلى أقصاه، حينما أضافت إلى الهيكل الإداري العام للدولة المترهل أصلا قرابة تسعمئة ألف موظف جديد، ما ساهم في رفع فاتورة الرواتب إلى 61 تريليون دينار سنويا (53 مليار دولار)، وأضافت نحو 3 مليون مستفيد من رواتب الرعاية الاجتماعية، ويجري الحديث عن أن أغلب المستفيدين يجري استغلالهم انتخابيا، في محاولة لما يُعرف اصطلاحا بـ "رشوة المجتمع".

ولَّد هذا الإيقاع السياسي حالة من القلق العام للسعي الواضح من قبل هذه الأحزاب وحثّ الخطى باتجاه إعادة صياغة دولة قمعية، ترتكز على الولاء الحزبي والسياسي وإشاعة المحسوبية والقرابية، للقبض على ما تبقى من مكامن ومقدرات الدولة في هذا البلد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.