شعار قسم مدونات

عن بعض أسرارنا سأحدثكم.. صَدَقاتكم تُرَمِّمنا

BLOGS أطباء

تحكي القصة مبتسمة ابتسامة امتنان: قبل ثلاث سنوات كانت طبيبة مناوبة في مصلحة الأطفال، وتلقَّت حالة تسمم لتوأم لم تكملا بعد شهرهما الثالث، قررت بعد معاينة الحالة أن تبقيهما تحت المراقبة في المستشفى حتى يتلقيا العلاج المناسب، لكن بعد ساعة أو ساعتين تدهوت حالة إحداهما وأصبح من اللازم نقلهما لمصلحة الإنعاش، تقول بذلت كل جهدي وكانت أول مرة تتدهور فيها حالة مريض في مناوبتي، أسرعت بالاتصال بطبيب الانعاش أشرح له الحالة وأطلب منه نقل الطفلة لتكون تحت رعايته، عايَن حالتها ووافق على نقلها.

أخبرت مرافقتها -وكانت خالتها- أن الحالة حرجة وأنني سأنقل الطفلة لمصلحة أخرى ثم حملت المريضة بنفسي وأسرعت لمصلحة الانعاش لأتركها بين يدي المتخصصين وتحسنت بعد أيام حالتها وخرجت من المستشفى في حالة جيدة، هذه القصة تتكرر وتتكرر ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، لكن الجميل ما يتبعها، فبعد مرور ثلاث سنوات أو أكثر أثناء مغادرتها للمستشفى ـوكانت قد اختارت تخصصا مختلفا فيما بعد- استوقفتها إحدى النساء قائلة: "دكتورة، لعلك لا تتذكرينني لكنني أتذكرك جيدا، لن أنسى أبدا صنيعك ما حييت، ذلك اليوم أنقذت ابنة أختي وبذلت فوق طاقتك".

الموت حقيقة لا مفر منها، هو بيد الله سبحانه وحده ولا نملك مهما تطورنا قدرةَ رَدّه عن أحد، نعلم جيدا أنه قريب جدا فوق ما يتصوره أي إنسان، لكننا مع ذلك عند فَقْدِ كل مريض يتحطم جزء من أرواحنا وننكسر بصمت

أطالت الطبيبة النظر إليها لتتذكر قصة نسيتها تماما بعد ولم تستتطع استذكارها إلا بعد أن أخبرتها المرأة أنها خالة التوأم.. لا أدري كيف أصف السعادة التي غمرت الطبيبة فقد رأيت بعضها وهي تحكي القصة، كيف نسيت القصة تماما لكن "استماتتها" -كما وصفتها الخالة- لإنقاذ الطفلة ظلَّت محفورة في ذاكرة تلك المرأة، بل الأجمل أن تلتقيها مرة أخرى في نفس المكان بعد عدة شهور وتستوقفها مجددا لتقول لها كلمة واحدة: "كلما رأيتك أيتها الطبيبة تذكرت الطفلة التي أنقذتها، الله وحده من يستطيع مجازاتك"، ما قامت به هذه الطبيبة ليس معجزة في الطب، لم تقم بأي أمر خارق على الإطلاق، لم تَعْدُ أن قامت بواجبها فقط، نعم الواجب فقط الذي يمليه عليها قسم الطبيب، لكن الاعتراف والامتنان من تلك الخالة صَدَقَةٌ طيبة تتكرم بها على الطبيبة بعد سنوات، صدقة تهمس لها أنها "كانت جيدة بما يكفي لتترك مثل ذلك الأثر الطيب"، مثل هذه الصدقات التي يتكرم بها مرضانا علينا تُنسينا ضغط معاينة معاناة الناس كل يوم، تَحُولُ بيننا وبين لهيب الإحساس بالعجز الذي يُحْرِقنا كل يوم، العجز عن تقديم الأفضل والإتيان بالعمل المتقن كما يجِب.

عندما يمطرنا مرضانا بدعوات صادقة تراها بلسما يمسح على قلبك في حين أنك لم تقدم الكثير، دعوات تراها غير ما مرة تقتلع الشوك من طريقك وتمهده تمهيدا، لا أنسى فضل تلك الأم التي أتت تواسيني وقد أجهشت بالبكاء كالطفل الصغير بعدما مات ابنها بين يدي، لم أعد أدري من المفجوع أنا أم هي؟ "لقد قدمت أكثر مما تستطيعين" لعلها كلمات قليلة لكنها صادقة فتُرَمم بِحُبٍّ ذلك الانكسار الذي يحطمنا كلما فقدنا أحد مرضانا، لا أنسى أبدا كرم زوجها عندما طلب رؤيتي صباح اليوم التالي ليقول لي: "أردت فقط أن أقول لك شكرا جزيلا، وحده الله من سيجزيك على ما بذلت من جهد، لقد قمت بالواجب وأكثر وقدمت أفضل ما تستطيعين" كلماته كانت ذلك الضماد الذي لَفَّه بِرِفق حول جرح العجز لتسْكُنَ آلامه وأستريح.

هؤلاء الأطباء الذين ترونهم قلاعا لا تتزعزع أمام الموت، بل ربما آلات فقدت أحاسيسها، كثير منهم يتحطم داخله كل يوم أمام معاناتكم، لترمم صَدَقاتكم -من نظرة امتنان أوكلمة شكر أو دعوة صالحة- روحه فيحيا من جديد، أبسط كلمة قد لا تأبه لها قد تجعله ينسى كل تعبه، تخبرني إحدى صديقاتي: كنتُ مرهقة جدا وأريد أن أنام، أن أنام فقط وفي أشد ساعات الإرهاق بعد منتصف الليل من المداومة تدهورت حالة إحدى مريضاتي، لم استطع لها حولا ولا قوة، فما هي فيه تطور منتظر جدا لحالتها ولا أستطيع تقديم المزيد في ظل الإمكانيات التي لدي، أخذت في البحث عن سبب آخر قابل للعلاج يفسر حالتها بدل الاستسلام وانتظار الموت، وفي انتظار نتائج تحاليل الدم أخذت كرسيا وجلست بجانبها متأهبة للتدخل في حال اصابتها بسكتة قلبية.

الغريب أن المرأة رغم كل ما تعانيه وأنا أراها تتنفس بصعوبة كبيرة وقد نال منها التعب مبلغه ولا تملك أن تنام فتستريح وسط كل هذا الألم تنظر إلي نظرة اشفاق وتقول لي: "اذهبي ونامي يا ابنتي، سامحيني يا ابنتي أتعبتك معي، جزاك الله كل خير يا ابنتي"؛ تقول صديقتي: كل أمنيتي في تلك اللحظات كانت أن تتحسن حالتها أن تتوقف معاناتها، أردت أن أبكي لكني لا أملك حق البكاء عَلَيَّ إخبارها أن حالتها ستتحسن باذن الله، مع علمي أن الموت في تلك اللحظات يطوف حولها.. نعم نحن نعلم ذلك، فالموت حقيقة لا مفر منها، هو بيد الله سبحانه وحده ولا نملك مهما تطورنا قدرةَ رَدّه عن أحد، نعلم جيدا أنه قريب جدا فوق ما يتصوره أي إنسان، لكننا مع ذلك عند فَقْدِ كل مريض يتحطم جزء من أرواحنا وننكسر بصمت، ولا يجبر تلك الكسور المتكررة إلا تلك الصدقات من مرضانا وذويهم، تلك الكلمات الطيبة، ذلك الرضا عن ما قدمناه، تلك الدعوات التي تشبه كثيرا دعوات الأمهات، تُسهِّل الطريق، ترمم الروح وتضمد الجراح وتدفعنا لنكمل الطريق ونتحمل ألم أن ننكسر مرة بعد المرة، لأن -بعد ما نطمع فيه من عظيم كرم الله سبحانه وأجره- فما تتكرمون به علينا من ابتسامة صادقة وكلمة حانية ودعوة مخلصة كل هذا يستحق أن ننكسر من أجله مرة تلو المرة، يستحق أن نبذل من أجله كل شيء.. كل شيء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.