شعار قسم مدونات

بين باتمان والجوكر.. الفن مرآة الشعوب

blogs الجوكر

إذا أردت أن تعرف طريقة تفكير الشعوب فأنظر إلى أدبها وفنها، ففيهما سترى آلامهم وآمالهم ومشاكلهم وطريقة سعيهم لتحقيق غاياتهم في الحياة، فالعرب قديما كان أدبهم يدور ويطوف حول ملوكهم وأمرائهم فهذا يحكي بطولاتهم وذاك يمدحهم شعرا، وآخر يصور ذكاءهم ودهائهم الصحيح أحيانا والمفبرك أحيانا أخرى، وكان ذلك نتيجة لطبيعة النظم الاجتماعية العربية التي تجعل من المجتمع مقسما إلى جهتين قائد ملهم وتابعين، وليس في السياسة فقط بل حتى في مجالات الحياة الأخرى..

لكن في العصر الحديث أين تسيدت فيه المجتمعات الغربية على العالم من أوروبية ثم أمريكية في القرن العشرين، كان الأدب والفن في تلك المجتمعات يعبر عن طريقة الحياة المعاصرة وآمالها وآلامها.. والفن والأدب ليسا كالفلسفة والفكر الذين يعبران عن مشاكل الشعوب وغاياتهم بالطرق المنطقية فيدرك المستمع سلبيات وإيجابيات الحضارة الغربية الحديثة بطريقة يفهمها العقل، لكن الفن والأدب لا يعتمدان على الفكر والمنطق وإنما لهما سبيل آخر هو الشعور المبني على الذوق، والشعور هو أكثر تأثيرا في البشر من الفكر والفلسفة، لأن الشعور يتلقاه الجميع ويتفاعل معه الجميع من علماء وبسطاء ومن رجال ونساء ومن شيوخ وأطفال، على عكس الفكر الذي يخاطب الراشدين البالغين المتعلمين وهم ليسوا كل المجتمع، ولذلك كان الأدب والفن دائما أكثر تأثيرا في الشعوب والمجتمعات سلبا وإيجابا.

الفيلم يصور العالم على أنه مقسم بين أناس أغنياء أقوياء متحضرون، وطبقة أخرى هي طبقة الضعفاء العفنة والغير متحضرة، ولكنه لا يعالج الخير والشر ويسعى للانتصار للضعفاء

في بداية القرن العشرين ظهر نوع جديد من الأدب هو القصص المصورة، وهي مزيج بين القصة المكتوبة والسينما المرئية وراج هذا الفن خاصة في المجتمع الأمريكي، وظهرت في هذا الفن شخصيات خالية كرتونية كثيرة من أهمها شخصية باتمان والذي يمثل شخصا قويا ثريا نافذا في المجتمع، يقرر في لحظة ما من حياته أن يتقمص شخصية بتمان المخفية ويعمل على نصرة الضعفاء والمظلومين والمضطهدين في العالم، وقد لاقت هذه الشخصية رواجا ونجاحا كبيرا وتحولت لأفلام ورسوم متحركة وأثرت في الجميع ولا يوجد إنسان يعيش في القرن العشرين سواءا كان أمريكيا أو أوروبيا أو حتى من أنحاء العالم الأخرى إلا ويعرف هذه الشخصية وتأثر بها دون أن يشعر، لأنها تكرس فكرة صراع الخير والشر وأن الخير هو الأصح والأقوى وأنه ينتصر دائما في الأخير..

وهذا كان يعبر عن الحضارة الغربية الحديثة التي كانت في أولها ثنائيتان في داخل أوروبا هم البرجوازيون والطبقة الكادحة، ثم انتقلت الى ثنائية المستعمرين والمستعمرين، ثم انتقلت في القرن العشرين إلى ثنائية أخرى، دول متقدمة وأخرى متخلفة.. لكن الصراع كان بين هذه الثنائيات يعتبر أن الهدف هو الخير وأن هناك ظلما وقهرا يجب القضاء عليه، وبالتالي فصراع الحق والباطل موجود وأن الخير يجب أن يسيطر ويقضي على الشر.. يعني أن هناك قسمان في العالم قسم متقدم متحضر غني، وقسم أخر متخلف غير متحضر وفقير. وشخصية باتمان هي شخصية من الطبقة الأولى المتطورة تسعى لمعالجة الخلل ونصرة الضعفاء، وهذا تبرير لخيرية الطبقة الغنية..

وكان في سلسلة باتمان شخصية أخرى هي الجوكر، وهي شخصية شريرة وتظهر دائما كذلك وغير محبوبة لدى الجماهير والقراء والمشاهدين. لكن الغريب أن هذه الشخصية ظهرت من جديد في بدايات القرن العشرين وخاصة هذا العالم في ٢٠١٩ وفيلم الجوكر للممثل المبدع خواكين فينيكس، وقد راج هذا الفيلم رواجا مقطوع النظير وأصبحت شخصية الجوكر محبوبة لدى الجماهير بعدما كانت في السابق مكروهة وشريرة. والعجيب أن الجوكر في هذا الفيلم الحديث لم يصور على أنه بطل خير محب للحق وللعدل وإنما صور على أنه صناعة للمجتمع نفسه ونتيجة له، أي تبرير الشر القادم. الفيلم يصور العالم على أنه مقسم بين أناس أغنياء أقوياء متحضرون، وطبقة أخرى هي طبقة الضعفاء العفنة والغير متحضرة، ولكنه لا يعالج الخير والشر ويسعى للانتصار للضعفاء على المسيطرين الظلمة كما كان يفعل باتمان، وإنما يبرر لشخصية شريرة تخرج هي الجوكر وتفعل الأفاعيل من جرائم وقتل وغيرها ويعطي لها تبريرات تجعلك تتعاطف معها كونها نتيجة للمجتمع وليس شخص شرير يجب القضاء عليه.

وبالتالي فإن فيلم الجوكر على عكس فيلم باتمان، فالأول يصور العالم فوضوي وأنه ذاهب للفوضى واللاإتزان لكن ليس ببطل خير وإنما بشر مبرر قد يخرج من العالم المتخلف ويكون مدمرا وغير أخلاقي بالمرة..أما الثاني في فيلم باتمان فيصور أن الطبقة المتقدمة تتبرع بشخص خير منها يساند الفقراء والضعفاء ويكون هو على حق لأنه ينتصر للخير، أما الجوكر فهو ردة فعل للطبقة المتخلفة وطريقة ردة فعله فوضوية وعنيفة وقذرة وفي نفس الوقت مبررة لأنها نتيجة لهذا الخلل الاجتماعي.
وهذا عبارة عن تصوير فني غير مباشر للصراع العالمي والدولي الحالي والقادم والذي ربما سيكون بإنتفاضات وثورات فوضوية وعنيفة من العالم المتخلف على ثلة العالم المتقدم التي تتقلص في كل فترة حتى أصبحت ثروة العالم في يد فئة قليلة في مقابل ملايين من الشعوب التي تعاني الفقر والجوع ولا أحد ينتصر لها مما يؤدي بها للإنفجار على شاكلة شخصية الجوكر التي تمثر الشر المبرر أو الخير الشرير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.