شعار قسم مدونات

من لذة الطفولة إلى مقبلات جديدة للنضج: من أنا؟

blogs - alone

بين الحلم والواقع، بين حرية التوجه وحتمية الاختيار، بين وقاحة الآراء وصُراخ كيانك، تتخبط أنت بين أزقة الحياة باحثاً عن ركنك المفضل وعالمك الصغير البسيط. عالم تكون فيه أنت بكل ما أوتيت من بساطة وحُب للأشياء. عالم تعيش فيه السلام الأبدي بعد حروب أزلية.

لا يسلم الفرد في مجتمعنا من التدخل في أموره الشخصية، وذلك في جل المراحل والظروف العمرية. فمنذ صغرك تُوضع عَفويتك في قالب النمطية، وذلك بتدخل كل منظمات الطفولة التي أصبح خبراؤها أقاربك ومعارف أسرتك الصغيرة، ناهيك عن حِيرة الأُم والأب بين أنجع طرق التربية. أنت طفل لا يأبه للعقلانية وقدسية تجارب الأجداد، مُنهك أنت بين اللعب وألوان الدمى، تُريد تقوية خطواتك ولو سقطت في كل مرة. لا تُثيرك إلا رائحة أُمك وفي ثديها كل الحياة. ومع ذلك تترك هذه الممارسات راسباً بداخلك يمحو أحياناً جمال الفطرة الأولى.

تكبر وتبدأ في صياغة جملك الأولى، بين البراءة وحُب الاكتشاف والأسئلة التلقائية التي تزعج الراشدين في أغلب الأحيان. تتلقى أول الإجابات الزجرية: عيب.. قلة أدب.. جرأة.. الترجمة الأصح لكل هذا: "اخضع أمام من يكبرك سناً دون أدنى حق في التعبير". تُرسلك خطواتك إلى ثاني مؤسسة تربوية (بعد الأسرة) من أجل تفصيلك طِبقاً لأبعاد نمطية جديدة. تنهال عليك الواجبات المدرسية وأنت لا تزال في أواخر ربيعك الثالث. أي عقل وأي طريقة ناجعة هذه؟ كيف لبراعم أن تتحمل الرياح العاتية للواجب وعقاب الأستاذ؟ أ ليست هناك طرق بسيطة تُنمي ذكاء الطفل وتدمجه في الإطار التعليمي التربوي دون خضوع وخوف؟

أنا كأغلب أفراد هذا المجتمع الذين تقيمهم عُقول عمياء مُتحجرة مُنغرسة في الموروثات، مثل أشكال جغرافية صامدة منذ أزمنة جيولوجية غابرة.

تنتقل عدوى الخضوع إذن من أقرب الناس إلى الغريب، هذا الغريب أياً كان لا نتمكن مدى عمرنا من محو جبروته في عِز هشاشتنا. أما جبروت الأبوين لا يُمحى هو الآخر لكن تُقلل من حِدته مكانتهما، فغالباً ما يُخطئ الآباء عن فِهم مغلوط للأشياء وإفراط في الحب والخوف. تكبر متأرجحاً بين قالب وآخر، مُتمايلاً بثقل محفظتك التي يفوق وزنها قُدرتك على التحمل، والتي يفوت ذكاءك قيمتها المعرفية بسنوات ضوئية. تبدأ المقارنات مع أقرانك في السن: عليك أن تكون مُجتهداً مثل ابن عمك، انظري إلى ابنة خالتك كيف هي.. إلخ.. إلخ.. تنمو بسرعة وتنمو معك الإطارات المرجعية بسرعة البرق. في دوامة أنت بين "شخصك الحقيقي" و"الادراك المتزايد" و"التدخلات المتداخلة"!

أين أنا وأنت وأنت وكلنا من كل هذا؟! أين ما أريد، ما أُفضل، ما تَعلمته واقتنعت به وقررت فعله؟ أين أفكاري، ميولي وحسي الفني؟ أين كياني بجنسه ونوعه ومبادئه؟ أين شخصيتي التي أطورها بين أنا الأمس والغد؟ ابحث عن نفسك، كَوّن شخصيتك، تواصل مع نفسك وقيمها، وبعدها تواصل مع الآخر. أن تشتغل على نفسك وتُعطيها حقها عليك ليست أنانية؛ إنها ضرورة قصوى من أجل شخصية سوية، لها ما يُميزها في ثناياها، ما يجعلها ناجحة في خُطواتها البسيطة. شخصية لم تترك للكبت الفكري مجالاً لينال منها. شخصية مُستقلة مُتحملة للمسؤولية توازن بين رقة الشعور وقوة العقل.

أنا كأغلب أفراد هذا المجتمع الذين تقيمهم عُقول عمياء مُتحجرة مُنغرسة في الموروثات، مثل أشكال جغرافية صامدة منذ أزمنة جيولوجية غابرة. عقول تمنح لنفسها حصانة النقد من أجل النقد. تنسى نفسها والعمل على تطويرها وتكرس وقتها لجرح الآخر والتمادي بوقاحة. أزمتنا أزمة فكر وعقل لا يقوم حتى بوظيفته البيولوجية. مشكلتنا السطحية في التفكير وترك العمق. نكبت أجمل ما فينا من بساطة من أجل تركيبة مُعقدة ليست نحن! أنا تلك الأنثى التي تبكي حتى آخر دمعة، تضحك حتى تؤلمها عضلات وجهها، أنا مُحبة البساطة والعفوية والحس الفني. أنا قبل كل شيء إنسان يحق له الفرح وكل ما هو جميل.. وأنت من قررت أن تكون؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.