شعار قسم مدونات

وشُدّي وِثاقي..بِخُصلةِ شعرٍ

blogs-أمي

هي التّي تَمحِي كُل آلامِها وأَحزانَها بابتسامة مُضيئة، حتّى يُمسِي وجهُهَا كَالبَدر، لتُخبِرَكَ أنّ كُلَ شيٍء َعلى ما يُرام، وأن عليك أن تركز فيما أنتَ فيه، وتأمُرك عينيها الدافئتين، أمراً صارماً لينّاً في ذات الوقت: إّياكَ أن تَقلَق، القلق ممنوع، إياك أن تحّزن، فالحزن أيضاً ممنُوع، افرح فقّط، تخبرك عينيها بكل وضوح أن فَرحَها هو فرحَك أنت، وحُزنُها هو حزنك أَنت، هي الأُم، مُتطرفةٌ في حُبِ ابنها، وتكتمل الحلقة المعقدة إذا تَطرّفَ ابنها في حُبّها، وهذا هو حال كاتِبِ هذه الكلمات.

ليلة الامتحان الجامعي المُهم، كان هو امتحانها أكثر من كونهِ امتحاني أنا، كانت تتمنى لو أنها تستطيع أن تقوم بالمُذاكرة عني وأن تتقدم للامتحان بدلاً مني، فقط لكي لا تراني مُتوتراً أو خائفاً، وأبقى طوال الليل أرجوها أن تنَام، فتبتسم بكُلِ دفئ، وتقنعني بأنها نامَت، وبعدها بدقائق، أراها أعدت مشروبات تكفي كتيبة كاملة، وتدخل علي بذات الدفيء، ويخبرني صوتها الموسيقي بأن كل هذا لي، وعيونها الناعسة تجعلني أكره الجامعة وكل ما فيها، فقَط لأنها كانت سبباً في بقاءها مستيقظة لهذا الوقت، ولأن الجامعة أقلقت راحة أعظم مخلوق على وجه الأرض، وأيقظته، أيقظَت أُمي.

الكلامُ مَهمَا طالَ وَمَهمَا كانَ مُزخرَفا، لَن يوفيكِ شيئاً، ولَن يصِفَ شيئاً، أنت الموضوعُ الذي عندَهُ يجِفُ حِبرُ قلمي، وتتَمزق أَوراقي، كيفَ اختصِرُك في كلمات؟ وأنتِ كل شيء!

وبعد الامتحان الذي تجعله دعواتها الربانية الصادقة من أسهل ما يكون، كما تجعلني تماماً أخرجُ منهُ مُبتسِماً، مُطمئِناً، يكون أول اتصال بعد أقل من دقيقة على انتهاء الوقت؛ منها، منها هي فَقَط، لتخبرني أنها لم تتوقف عن الدُعاءِ لي طيلة الامتحان، وبمجرد سماعها أنني كتبتُ جيداً في ورقةِ الامتحان، يتَحول صوتُها إلى الارتياح، وكأنها لم تعُد تُريدُ شيئاً أبداً بعد هذا الخَبَر، وعندَما أسمعُ صوتَها الناعِس، أبتسِم ثم يعتريني شُعُور رهيبٌ بالذنب، وأعود لألعن الجامعة بكل ما فيها، لأنها كانت سبباً في نُعاسِ أعظم مخلوقٍ على وجهِ الأرض، أُمي.

أُفكِرُ كثيراً، كم أُحبكِ يا ترى؟ وهل أستطيع أن أعطي أي وصف لهذا الحب أو أكيله بأي مكيال؟ ولا أجد أية إجابة، هل أنا حقاً أستطيعُ أن أصِفَك في جُملٍ أو حُروفٍ أو مقالاتٍ أو روايات؟ لا يا أُمي لا، فما أشعره نحوكِ لا يوصفُ، يكفي أن أنظُر في عينيك فقّط، لأنسى من أنا ومن أكون، يكفيني أن اُقبّلَ يديكِ كُلّ صباح، لكي أتمكن من إكمالِ يومي، وفي الدراسة وفي العمل، كم يكون اليوم ثقيلاً عندما تخلو بعض ساعاته منك، أنتظرُ بفارغ الصبر لأعود وأقبل يديك القُبلة المسائية، كأن الوقت يا أمي دون حضورك يتوقف، يصبح ثقيلاً، كئيباً، فأنا وحيدٌ لو احتفل بي الملايين دونك، وأنا أملكُ الدنيا لو جالستُكِ لدقائق. أحب أن أتعب، وأنجز، حتى تفرحي أنتِ فّقّط، أكبر مُكافأة لي هي ابتسامتك، ودعيني أخبركِ أن كل ما أنجزته وكل ما أسعى لإنجازِهِ هو تحتِ قدميكِ، ولأجلِك، فأنا لستُ سوى انعكاسي في عينيكِ، أنتِ مرآتي التي أرى فيها نفسي، فمتى ما فرحتي بي أنا أملُكُ الدنيا وما فيهاَ، أنا ابنك المُدلل ولو بلغتُ من الكِبرٍ عتيّاً، أنا المُتطرَفِ في حُبّك، ولو أملُكُ العودةَ إلى أحشائكِ والبقاءُ مُختبئاً فيكِ أنت، لن أترَدَدَ لِلَحظَة.

إياك يا أُمي أن تنخدِعي بشاربٍ كثيفِ غزى وجهي، أو خصلةِ بيضاء باغتت سوادَ شعري، فأنا ذاته الطفلُ المدلل الذي يريد أن يبقى مُتعلّقاً بطرفِ ثوبَك، والذي يتمنى أن يبقى صغيراً دائماً حتى تصغُري معي وتبقي أنتِ وحدكِ من تعقِدُ لي أزرارَ قميصي، إياكِ أن تكبُري، لنبقى أنتِ وأنا خارِجَ حساباتِ الزمنِ كُلّها، وأرجوكِ بِكلماتِ محمود درويش؛ بأن تشُدّي وِثاقِي… بخُصلةِ شعرٍ. وفي الخِتام، الكلامُ مَهمَا طالَ وَمَهمَا كانَ مُزخرَفا، لَن يوفيكِ شيئاً، ولَن يصِفَ شيئاً، أنت الموضوعُ الذي عندَهُ يجِفُ حِبرُ قلمي، وتتَمزق أَوراقي، كيفَ اختصِرُك في كلمات؟ وأنتِ كل شيء! أنتِ الحب الذي لا يموت ولا يندَثِر، البحرُ الّذي لا يجِف ولا ينحصِر، وأنا العٌكاز الذي لا ينكسر، ومَهما وصفتٌ؛ كلُ الكلام تحت قدميكِ يخجلُ ويندَثِر، ومَهمَا تحدثتُ بالغزل عنكِ، ينظرُ الغزلُ إلى جمالك وسموك، يخجل الغزل، أنه لم ينصفك، يخجل الغزل ويعتذِر! ابقي أنتِ الشمسُ التي تضيء كل لحظةٍ، ابقي أنت نبع الحب الذي بعطي، ولا ينتظر، لا ينتظر شيئا ولا كلمة، فكلُ الكلامٍ عاجزٌ عن وصفك، فالكلامُ يا أُمي يعتَذر، أحِبُك أُمِّي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.