شعار قسم مدونات

ضريبة الرفاهية.. كيف تكبل الديون الاقتصاد الأمريكي؟

blogs الدولار

الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة ذات أكبر نظام اقتصادي دولي، والتي بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 19 ترليون دولار عام 2017، وتعتبر أيضاً ثاني أكبر دولة مصدرة في العالم بعد الصين حيث بلغت صادراتها أكثر من 1.5 ترليون دولار، بينما تحتل وارداتها المرتبة الأولى عالمياً وتقدَر ب 2.9 ترليون دولار أمريكي. بالإضافة إلى ذلك، يعتبر المجتمع الأمريكي من أعلى المجتمعات استهلاكاً حيث تجاوز معدل استهلاكه 70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في نوفمبر 2017، الأمر الذي يدل على انخفاض نسبة الادخارات لديه وتعوده على نمط معيشي يكون الاقتراض فيه المحرك الأساسي لدفع عجلة الاقتصاد.

في نهاية عام 2017 تجاوزت الديون الأمريكية 20 ترليون دولار تقريباً وبذلك تصبح أكثر الدول المدينة في العالم حيث تشكل ديونها 105 بالمئة كنسبة من الناتج المحلي الأمريكي، والسبب وراء ذلك هو مقدار العجز السنوي الكبير في الحساب الحالي لميزان المدفوعات والناتجة عن الانفاق الهائل الذي اعتاد عليه الشعب الأمريكي منذ سنوات طويلة، بالإضافة إلى العجز المزمن في الميزانية الفيدرالية الذي كان سبباً أخراً في تفاقم الديون الأمريكية. لذلك لابد لنا من أن نلقي الضوء قليلاً على حجم الاقتراض في السوق الداخلي الأمريكي لندرك من خلاله كيف ساهمت تلك الديون إلى حد كبير في تمويل رفاهية المواطن الأمريكي.

حجم الاقتراض والديون في الولايات المتحدة الأمريكية
تمويل التعليم هو نوعٌ أخر من القروض الهامة التي يقدمها النظام البنكي الأمريكي للطلبة في محاولةٍ لمساعدتهم على إكمال مرحلة التعليم الجامعي

تشكل البنوك 20 بالمئة من رأس المال في سوق الأوراق المالية الأمريكي S and P 500 وتعتبر القسم الاكبر في القطاع المالي بأكمله ومن أشهر تلك البنوك JPMorgan Chase and Co وBank of America وCitigroup وWells Fargo التي تسيطر تقريباً على 50 بالمئة من الأصول والودائع في الولايات المتحدة الأمريكية.

إنً تطور قطاع البنوك في الولايات المتحدة الأمريكية وطبيعة الاقتصاد الأمريكي القائم على نظام الائتمان أتاح للمجتمع الأمريكي قروض ائتمانية متنوعة ومغرية في آن واحد، فأهم ما تقدمه البنوك للقطاع العائلي" قروض الرهن العقاري ". تعتبر المنازل المشتريات الأغلى قيمةً التي يقوم بها الفرد طوال فترة حياته، لذلك فقد نالت الاهتمام والنصيب الأكبر من التمويل المصرفي من قبل البنوك الأمريكية. فوفقاً لإحصائيات الربع الأخير من عام 2017 فقد بلغ حجم القروض المتعلقة بالرهن العقاري حوالي 262 مليار دولار بينما وصلت الديون المتراكمة منذ 2001 إلى 14.9 ترليون دولار والتي تجاوزت 78 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.

تمويل التعليم هو نوعٌ أخر من القروض الهامة التي يقدمها النظام البنكي الأمريكي للطلبة في محاولةٍ لمساعدتهم على إكمال مرحلة التعليم الجامعي. في كل سنة يتخرج أكثر من 70 بالمئة من مجمل الطلبة الجامعيين وفي ذمتهم عشرات آلاف الدولارات كقروض كانوا قد أنفقوها في تمويل فترة تعليمهم الدراسي، فقد بلغ متوسط الديون للطالب الواحد 39400 دولار في 2017 بينما بلغت الديون المتعلقة بتمويل التعليم أكثر من 1.48 ترليون دولار.

أيضاً إنَ من أكبر القروض التي يحصل عليها المواطن الأمريكي بعد كل من قرضي الرهن العقاري والتعليم هو قرض المركبات، حيث أظهرت الاحصائيات لعام 2017 أنَ 44 بالمئة من البالغين في المجتمع الأمريكي يعتمدون على ذلك النوع من القروض، بينما قدِر متوسط مقدار القرض لتمويل مركبة جديدة أكثر من 31000 دولار أمريكي. بالإضافة إلى ذلك، فقد بلغت قيمة القروض الخاصة بالمركبات لعام 2017 أكثر من 568 مليار دولار، بينما وصل مقدار ديون المركبات 1.22 ترليون دولار والتي تشكل 6.4 بالمئة من مجمل الديون الأمريكية.

أخيراً، إن طبيعة المجتمع الأمريكي الاستهلاكية حُفزت من خلال العديد من الأدوات والتسهيلات الائتمانية المقدمة من قبل البنوك، ومن أشهر تلك الأدوات بطاقات المستهلك الائتمانية، حيث بلغت نسبة مستخدمي بطاقات الدين الائتمانية في 2017 أكثر من 39 بالمئة من القطاع العائلي، في حين بلغ متوسط ميزانية بطاقة الائتمان للفرد حوالي 6375 دولار شهرياً.

فيما يتعلق بالإنفاق الفيدرالي السنوي، فقد بلغ الإنفاق في 2017 نحو أكثر من 4 ترليون دولار، حيث كان للتأمينات الاجتماعية الحصة الأكبر فقد بلغت ما يقارب 939 مليار دولار، تليها كل من نفقات العناية الطبية والدفاع والتي وصلت ل 591 و590 مليار دولار على التوالي، بينما تجاوز العجز في الميزانية 665 مليار الدولار وذلك وفقاً لمكتب الميزانية التابع للكونغرس الأمريكي. وهذا أيضاً يعتبر سبباً آخراً في زيادة مديونية حكومة الولايات المتحدة الأمريكية.

العملة الأوروبية
العملة الأوروبية" اليورو "على الرغم من أهميتها وحجمها ببالتجارة الدولية إلا أن التصدع الأخير بهيكل الاتحاد الأوروبي زعزع ثقة العالم في الاقتصاد الأوروبي وقوة اليورو كعملة دولية
 
استمرارية الديون الأمريكية إلى متى؟!

إنَ الأزمة المالية العالمية التي حدثت في 2008 والتي كان أحد أهم أسبابها الإفراط في الإقراض البنكي دون أخد الملاءة الائتمانية للمواطن الأمريكي بجدية كاملة، وما لحق ذلك من عواقب كارثية على النظام المالي العالمي والاقتصاد الدولي كان درساً كافياً للحكومة الامريكية ومؤسساتها البنكية لإعادة النظر مجدداً في عمليات إصدار القروض والضوابط والقواعد المالية الواجب إتباعها، فإن الأضرار الاقتصادية والاجتماعية التي تكبدتها الدول جراء الكساد الناتج عن الأزمة المالية، بالإضافة إلى تكاليف معالجة ذلك من خلال التيسير الكمي لإنعاش الاقتصاد مرةً أخرى كان أمراً مكلفاً للغاية.

لكن على الرغم من ذلك، فإن التعافي السريع للاقتصاد الأمريكي وانتعاش الأسواق الدولية من جديد شجع البنوك الأمريكية على إعادة محاولتها الولوج في عمليات الإقراض كما كانت عليه في الماضي تقريباً، حيث ارتفع مقدار الديون التابعة للقطاع العائلي في 2017 إلى اكثر من 13 ترليون دولار ليتجاوز مستوى الديون خلال الازمة المالية العالمية في 2008 والذي وصل حينها إلى 12.68 ترليون دولار وذلك وفقا لإحصائيات مركز نيويورك التابع للبنك الاحتياطي الفيدرالي، حيث عبًر العديد من الاقتصاديين عن قلقهم جراء ذلك التسارع الكبير في معدل الديون الأمريكية بالإضافة أيضاً إلى تخوفهم من كسادٍ أشد قسوة وأطول مدة من سابقه في السنوات المقبلة.

لكن من جانبٍ أخر فقد عمدت فئةٌ أخرى من الاقتصاديين إلى التقليل من مخاطر تلك الديون مستندةً بذلك على نتائج الإصلاحات المالية الجديدة التي فرضت مؤخراً على البنوك بالإضافة إلى ثبات الثقة العالمية في الاقتصاد الأمريكي وقوة الدولار كعملة دولية مستقرة نسبياً عجزت العملات الدولية الأخرى عن منافستها. فمثلاً العملة الأوروبية" اليورو "على الرغم من أهميتها وحجمها في التجارة الدولية إلا أن التصدع الأخير في هيكل الاتحاد الأوروبي الناتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد، وأزمات الديون الأخيرة في كل من إيطاليا واليونان وتهديد الأخيرة في الخروج من الاتحاد الأوروبي كل ذلك زعزع ثقة العالم في الاقتصاد الأوروبي وقوة اليورو كعملة دولية.

 

أيضاً ظهر ذلك جلياً من خلال تدافع الدول المتقدمة والكبرى على شراء سندات خزينتها حيث تجاوزت مشترياتهم 6 ترليون دولار، فالصين مثلاً وعلى الرغم من توتر علاقاتها مع الحكومة الأمريكية إلا أنها تملك لوحدها 1.184 ترليون دولار من سندات الخزينة الأمريكية، بينما تستحوذ اليابان على أكثر من 1 ترليون دولار، في حين تملك كل من ايرلندا والبرازيل والمملكة المتحدة حوالي 300 و294 و262 مليار دولار على التوالي.

أخيراً ودون الاستهانة بقوة الاقتصاد الأمريكي وقدرته على ابتكار حلول لمشاكله الاقتصادية، إلا أنً في الاقتصاد مقولة مشهورة يمكن من خلالها تفسير المعادلة بين الاقتصاد الأمريكي وبقية اقتصادات دول العالم والتي تقول "رأس المال جبان" والمقصود هنا أنً المستثمر عادةً ما يكون غير مستعد ليضع رأس ماله في استثمارات ذات خطورة عالية، بل يسعى دائماً نحو المشاريع الأكثر أماناً ذات معدلات أرباح مقبولة، فكذلك الأمر بالنسبة لبقية الدول تجاه الولايات المتحدة الأمريكية فهي تفضل أن تضع استثماراتها في سندات خزينة الحكومة الأمريكية على أن تستثمرها في سندات خزينة بلدان أخرى، والسبب وراء ذلك هو أنها تجد فيها ملاذاً آمناً نابعاً من إيمانها في قوة الدولار ومن ورائه الاقتصاد الأمريكي!

بعد كل تلك المعلومات والإحصاءات الاقتصادية المتعلقة بوضع الديون في الولايات المتحدة الأمريكية قد يتساءل أحدنا إلى متى يستمر المواطن الأمريكي في العيش على هذا المستوى من الرفاهية؟! باختصار، سيستمر الشعب الأمريكي في رفاهيته تلك ما دام قادراً على إقناع مموليه من حكومات ومستثمرين في قوة اقتصاده الأمريكي وكفاءة نظامه المالي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.