شعار قسم مدونات

لماذا لم يزر ملك السويد إسرائيل أبدا؟

مدونات - ملك السويد كارل السادس عشر

يوم الخميس 26 نيسان/إبريل 2018 أصبح ملك السويد كارل السادس عشر غوستاف الملك الذي جلس على عرش مملكة السويد أطول مدّة في التاريخ السويدي. ففي ذلك اليوم أكمل الملك مدّة 44 عاماً و223 يوماً منذ تتويجه ملكاً على السويد. ومن المعروف أن الملك يتحدّر من عائلة برنادوت التي حكمت السويد بدءًا من العام 1818. خلال عهده الطويل زار ملك السويد الكثير من البلدان والتقى الكثير من ملوك ورؤساء الدول، لكنه لم يزر إسرائيل أبداً، ولا يبدو أنه سيفعل، بالرغم من أنه زار الأردن في 18 أيلول/سبتمبر 1989 وحلّ ضيفاً على ملك الأردن الراحل حسين بن طلال. والملك ليس الوحيد الذي يمتنع عن زيارة إسرائيل، بل أن أفراد العائلة المالكة جميعاً يتجنبون ذلك، باستثناء زيارة وحيدة قامت بها الأميرة كريستينا وهي الصغرى بين أربع شقيقات يكبرن شقيقهن ملك السويد الحالي غوستاف السادس عشر أدولف.

 

لماذا لا يزور ملك السويد وأفراد عائلته إسرائيل التي يتسابق رؤساء الدول وملوكها على زيارتها تبركاً وتملقاً، بمن فيهم بعض العرب الذي وقعوا مؤخراً في غرام الدولة اليهودية؟
ثمة دم وثأر قديم بين العائلة الملكية السويدية وإسرائيل. ففي السابع عشر من أيلول/سبتمبر 1948 اغتالت عصابة شتيرن الصهيونية المتطرفة الديبلوماسي والنبيل السويدي الكونت فولكه برنادوت في القدس، وهو أحد أقرباء ملك السويد. كان الكونت برنادوت قد عُيّن في شهر أيار/مايو 1948 وسيطاً أممياً من أجل إيجاد حلّ للصراع على فلسطين، بين المستوطنين اليهود والسكان الفلسطينيين، وذلك بعد انسحاب بريطانيا من فلسطين ومسارعة اليهود إلى إعلان دولتهم على جزء من فلسطين في الرابع عشر من أيار/مايو 1948.

 

لم ينسَ السويديون جريمة اغتيال الكونت برنادوت، ولم يضِع دمه بين العصابات الصهيونية المتطرفة. والسويديون مشهورون بالصبر والأناة، لكنهم لا ينسون

ولد الكونت فولكه برنادوت في ستوكهولم في الثاني من كانون الثاني/يناير عام 1895 وأصبح ضابطاً في الجيش السويدي وترأس الحركة الكشفية. وفي عام 1943 ترأس الصليب الأحمر السويدي، وكان يحظى بتقدير كبير في أوروبا والعالم. خلال الحرب العالمية الثانية نظّم الكونت برنادوت العديد من عمليات تبادل الأسرى بين الدول المتحاربة، ثمّ سيّر رحلات «الحافلات البيض» الإنسانية الشهيرة إلى ألمانيا والتي أثمرت إنقاذ أرواح ما يقرب من 30 ألف إنسان من معسكرات الاعتقال النازية، وكان من بين هؤلاء نحو 10 آلاف يهودي كان مصيرهم المنتظر الموت حرقاً في محارق النازية المعروفة. وقد هاجر عدد كبير من هؤلاء اليهود، الذين أنقذهم الكونت برنادوت من الموت، إلى الدولة اليهودية التي نشأت بعد ذلك في فلسطين.

 
وما دامت هذه هي سيرة الكونت برنادوت وما له من سابق فضل على اليهود، فلماذا اغتالوه؟
بعد تكليفه من قبل الأمم المتحدة بمهمة الوساطة لإيجاد حلّ للصراع الدائر في تلك الأثناء في فلسطين، قدّم الكونت برنادوت العديد من الاقتراحات، من ضمنها اقتراحه أن تتخلى الدولة اليهودية الناشئة عن صحراء النقب جنوب فلسطين وتأخذ مقابلها الجليل الغربي، وأن تصبح حيفا ومطار اللد مناطق حرّة وأن تصبح القدس مدينة مفتوحة ومنزوعة السلاح وتوضع تحت الحماية العربية، وأن تنشأ في فلسطين دولتان (حل الدولتين)، إحداهما لليهود وأخرى للعرب.

 

لكن هذه الاقتراحات وغيرها لم تلق قبولاً لدى طرفي الصراع. أما الاقتراح الذي أثار حفيظة المتطرفين الصهاينة فهو دعوة برنادوت إلى عودة نحو 300 ألف لاجئ فلسطيني إلى بيوتهم التي فروا منها والتي كانت قد أصبحت ضمن حدود الدولة اليهودية في الجزء الغربي من القدس، والذي أصبح تحت السيطرة اليهوية، وفي يوم 17 أيلول/سبتمبر 1948 تحرك الكونت برنادوت ومرافقوه في سيارتين للاجتماع بالحاكم العسكري الإسرائيلي في القدس. جلس الكونت برنادوت في الجانب الأيمن من المقعد الخلفي في إحدى السيارتين وإلى جانبه، في الوسط، جلس رئيس مراقبي الأمم المتحدة الكولونيل الفرنسي أندريه بير سيرو، وفي الطرف الأيسر من المقعد جلس الجنرال السويدي أوجيه لوندستروم رئيس أركان قوة المراقبين الدوليين. بعد انطلاق الموكب اعترضته سيارة جيب عسكرية ونزل منها أربعة مسلحة من عصابة شتيرن (أو ليحي) المتطرفة.

   

فولك برنادوت (الجزيرة)
فولك برنادوت (الجزيرة)

 

"في حي القطمون اعترضت طريقنا سيارة جيب عسكرية يستقلها رجال يرتدون زي الجيش اليهودي. وفي اللحظة نفسها رأيت رجلاً آتياً بسرعة من سيارة الجيب… صوّب الرجل فوهة بندقية تومي من النافذة بجانبي وبدأ بإطلاق النار على الكونت برنادوت والكولونيل سيرو. سمعت أيضاً أصوات طلقات من اتجاهات أخرى وحدثت فوضى كبيرة؛ وكان الرجل لا يزال يطلق النار. سقط سيرو على المقعد بجانبي ورأيت على الفور أنه قد مات. أما الكونت برنادوت فقد انحنى إلى الأمام… سألته هل أصبت؟ أومأ برأسه ثم سقط إلى الخلف. ساعدته على الاستلقاء في السيارة، واكتشفت لحظتها أنه مصاب إصابات بالغة… وكان ضابط الاتصال اليهودي يحثنا على التوجه إلى أحد المستشفيات بالسرعة القصوى الممكنة… وحين وصلنا إلى المستشفى نقلتُ الكونت إلى الداخل، فأُرسلنا إلى مسؤول طبي، وخلال انتظارنا… رأيت أنه مصاب حول منطقة القلب… وحين وصل الطبيب سألته إن كان بالإمكان فعل شيء، لكنه أجاب إن الأوان قد فات"، من شهادة الجنرال أوجيه لوندستروم رئيس أركان قوة المراقبين الدوليين.

 

لم يتم التحقيق في الجريمة كما يجب، ولم يتم إيقاف أحد، بل أن أحد المتهمين فيها أصبح في ما بعد رئيساً لوزراء إسرائيل، وهو إسحاق شامير. لكن جريمة الاغتيال لم تمت – وإن كانت قد نُسيت زمناً طويلاً – وبقيت ظلالها السوداء مخيمة على العلاقات بين السويد وإسرائيل. وقد عادت الجريمة إلى الضوء مرة أخرى حين نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عام 1988 مقابلة مع المدعو يهوشوا زيتلر الذي اعترف بارتكابه الجريمة. وقد رفضت إسرائيل الاعتذار للسويد مجدداً عن الجريمة، لتعود العلاقات بينهما إلى المراوحة بين حالتي التوتر والبرود، وليظل التزاور بين مسؤولي البلدين نادراً. ولا تزال زيارة الرئيس الإسرائيلي حاييم هرتزوغ إلى السويد عام 1990 يتيمة على هذا المستوى، ولم يردّها له ملك السويد.

 
ومما زاد في سوء العلاقات بين السويد وإسرائيل المواقف السويدية المختلفة المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم. ففي العام 1974 اجتمع رئيس وزراء السويد الراحل أولف بالمه بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي العام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، شبّه رئيس وزراء السويد أولف بالمه سلوك إسرائيل بالجرائم النازية. ثمّ زار رئيس وزراء السويد يوران بيرسون إسرائيل. وهكذا شهدت العلاقات بين البلدين بعض المدّ والكثير من الجزر حتى وصل الأمر بإسرائيل أن تعلن عام 2009، وإن بشكل غير رسمي، أن وزير الخارجية السويدي كارل بيلدت شخص غير مرغوب فيه في إسرائيل بسبب مواجهات دارت بينه وبين وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان. ثمّ زاد الطين بلة حين اعترفت السويد عام 2014 بدولة فلسطين مما حدا بإسرائيل إلى الإعلان عام 2016 رسمياً أن وزيرة الخارجية الحالية مارغوت فالستروم ممنوعة من زيارة إسرائيل، ولا تزال كذلك.

 

إذاً، لم ينسَ السويديون جريمة اغتيال الكونت برنادوت، ولم يضِع دمه بين العصابات الصهيونية المتطرفة. والسويديون مشهورون بالصبر والأناة، لكنهم لا ينسون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.