شعار قسم مدونات

أفكارنا أصنامنا

blogs تأمل الذات

على امتداد البشرية ميزنا الله بحصرية القدرة على التفكر والحكم والاستنباط، وما حاجتنا للفلاسفة والمفكرين والعلماء وغيرهم إلا دلالةٌ ثابتةٌ على جوعنا الدائم لالتهام المزيد من الوجبات التفسيرية كلما أُشكل علينا بعض الأمر. لكن.. أن نُهين الحاجة الفطرية فنحوّلها "تسولا أعمى" لبعض التعاليم المجهزة التي نستلقمها من غير أن ندركَ كُنهها، أو نحول حاجتنا هذه إلى "استجداءٍ متعمدٍ" لبعض المفاهيم المقولبة المحبوكة بلسانٍ بشريٍ غير معصوم، فذلك عين الجُبن ورأس الجهل، وهو وبالٌ علينا لا ميزة أصيلةٌ فينا.

نعلم أن هناك فلاسفة منتحرون، وعلماء دينٍ ساقطون، وهناك أيضا مفكرون منفصمون، وقادة متخلفون، وسياسيون وحشيون. هؤلاء وغيرهم لن يمنحونا الأمان لأننا نتبنى موروثاتهم، ولن يرزقونا الحق الكامل بمجرد أن نستفتيهم في مسألة دينية أو معضلة فكرية أو حتى حسابية، ومما أذكره في هذا الإطار اقتباسا قصيرا خالدا لمالك بن نبي أحد أعلام الفكر الذين أنجبتهم الجزائر في "شروط النهضة": "ومن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم، والعكس صحيح أحيانا".

في قولِ مالك تشخيصٌ مُلمّ بظاهرة "صنمية الأفكار"، تلك التي لا زلنا نستمسك ببعضها فنرفض إلغاءها أو استبدالها أو توسعة مجالها المعرفي حتى، ثم نبثّها حية متجددةً في عقول التابعين، لا لصلاحيتها ومطلق صوابيتها إنما تكريما لقائلها وناقلها ومتبنيها ثم خشيتنا من تحمل أعباء التنقيب والتفنيد، بهذه "الخشية" الجبانة سوف نعطّل أحجارنا الكريمة التي تتوسط رؤوسنا على كثرتها وقلة صيانتها.

مهما بلغ الهم أشده واستنفدت العوائق قدرتك على التغيير، كن مع الله في مشوارك الاصلاحي، واسأل الله الفهم على الوجه الذي يرضيه عنك

ولنستفهم مثلا عن أهوال الانهزام الحضاري الذي نعانيه، كيف نعلّقه على شماعة الانفتاح على الغرب وتقليده بنسخته الكافرة، ولم نكلف أنفسنا عناء الخوض في أغوار الفكرة الاسلامية الشاملة التي بُعثت للإنسان أينما حلّ على أرض هذا الكوكب، والحقيقة أننا لا ننساق خلفهم بإرادتنا، لكننا نعتقد أن امتداداتِنا الاسلامية العربية حصرتنا في قاع المحيط الأممي، ولم تُشبع فينا انتماءنا للأسرة الانسانية العالمية لصعوبة امتزاجنا بأي فكرة أخرى، فنتجاوزها لنُجرّب غيرها، وهنا نُسجل كارثة.

من الواجب أن نُعمل عقولنا في كل ما ندرس لا أن نبصم بكل ما نسمع، فلا الدين حكرٌ على أحد ولا المعرفة الانسانية المتعاقبة مفصلةٌ على مقاس آخر أو كرسيه أو درجته العلمية كائنا من كان أو وصل. كلنا عبيد الله وخلفاؤه مسئولون عما جنته أبصارنا وأسماعنا أو اعتنقته ألبابنا، نحن مأمورون بالحكمة والهداية، زرافات كنا أو وحدانا، ومن المعيب بحقنا كمسلمين أن نسعى هائمين ضالين في لجج من التيه، ندور في أجرام التبعية والطاعة والاستغفال، وعارٌ علينا ألا نفهم سبب الأشياء ومجرياتها، وأن نجتزئ فهم الكون فنستخرج من خليقته ما يوافق اتجاهاتنا المتطرفة ونصنع منها قائمة أولى في مجال الاهتمام والعمل، ثم نوسم أفكارنا بالشمولية والتفرد.

عندما تقرر الخروج من شرنقة التقليد ستفاجئ بأفواجٍ من العناكب التي ستنسج خيوطها حول دماغك، سيصنعون منك متساقطاً على حدود الدين والوطن، سيُقرون بزَيغِك عن الحق، ويلزمونك بالعودة إلى ثلاجة الأحياء حيث اجماع الهيئات والأنظمة. حينها جرب أن تُصاعد قدرتك على الفهم، تتعمق في مقاصد الأمر، وأوجه الحياة الأخرى، حاول ألا تكون نسخة مقلدة عن أقاربك، إخوانك، أصدقائك أو حتى والديك، قد يصادمك المحيط وينبذك الذين يحيون في جلابيب أجدادهم، لأنك جربت أن تضيف رقما صحيحا في سوق الأفكار البالية، لا أن تكون مصطفا آخر في طابور الجيش النظامي، قد يخرجونك من المدينة المستنسخ أهلها بدعوى الفتنة والتنمر.

لا تأبه بأحجارهم إن شجّت رأسك، وأدمت فؤادك، ولتكن من الساعين نحو العمق وليس القاع، مهما بلغ الهم أشده واستنفدت العوائق قدرتك على التغيير، كن مع الله في مشوارك الاصلاحي، واسأل الله الفهم على الوجه الذي يرضيه عنك. يوما ما ستُغيّر أفكارهم من غير أن تتصبب خوفاً أن تقول ما لا يطيقون أو يعقلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.