شعار قسم مدونات

بَلِ الرّفيقُ الأعْلَى

blogs البكاء في الدعاء

قال أبُو العتاهية في مطلعِ قصيدةٍ له:

قَطّعْتُ مِنْكِ حبَائِلَ الآمالِ وحططتُ عن ظهرِ المطيِّ رحالِي
وَيَئِسْتُ أنْ أبقَى لشيءٍ نِلتُ ممّا فيكِ يا دنيا وإن يبقَى لِي

 

وفي أبياتٍ تَوالت في ذاتِ القَصيدة وعظ بأسلوبٍ بسيطٍ وسهلٍ مُمتنع، استطاع أن يجعلَ منه مكنونًا مهمّا لتفسيرِ فلسفة الدّنيا، وتبدّل أحوالها، وتقلّب حوادثها، وتغيّر الأنفس،ِ وما يختلجُ القُلوب.. وفي كلّ ذلك عِظة.. ولعلّ العِظة الأهم التي يرمي إليها عظة المَوت..

يا أيّها البَطِرُ الذي هوَ في غَدٍ في قَبرِهِ، مُتَفَرّقُ الأوْصالِ
وَلَقَلّ ما تَلْقَى أغَرّ لنَفسِهِ مِنْ لاعِبٍ مَرِحٍ بها، مُختالِ

 

فكم صدّقنا من أوهامِ الدّنيا، وكم تمسّكنا بتلابيبِ فنائِها.. فما بقت على أحدٍ ولا استوعبت أحدًا في وعائها الزّمني أبعدَ ممّا كتبه الله له.. لهذِه الحياة براعم رُبّما، تُزهر وتُزهو وتثمر فتُؤتي أُكلها.. لكن في كلّ مرحلة قصيرة منها عِبرة لمن اعتَبر.. ومن لم يعتَبرْ.. فلما كان مآل الأشياء لزِوالها، تيبّست عُروقها وأصفرّت أوراقُها، شحُبت كأن لم تنضُرْ يومًا.. ونفَقت كأن لم تغنَ بالأمس…! وفي ذلك عبرةُ الموتِ أيضاً.. قالها قبله زُهير بن أبي سَلمَى عن عمرٍ يناهزُ الثّمانين، قالها ملئ فمه غير آبه ولا مُعقّب على شَيء:

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

 

فكأنّما كانت رغبته الأولى بالحياة تخبُو، وتمسّكه بها يتضاءل فغلبت عليهِ حالُه تلك حتّى استكنت رُوحه من اللّهاث خلف أسرابِ الضّباب المُزجاة -دون طائل يرجى مِنها- لحقيقة الموت. ومن ذا الذي لا يسأم من تصديقِ الفَناء والزّوال؟! فإن كانت الهَرولة وراء زائلٍ تُجدي.. لمَا كان بهاتِه الدّار الدّنيا فُراق لعزّ أو بأس.. لكنّها آفلة كشمسِ المَغيب، مُدبِرة لمن أقبل إليها، مُعرضة عمّن رغِب فيها..

 

يخالُ البعض إلى يومِنا هذا أن المَوت عُقوبة وشرّ مُستطير يتنزّل على رُؤوس الأشرَار.. فترى أنّ كل حديثٍ تناول وعظًا عن الموت يُلحق به تمائِم واستعاذات بينما الموت مرحلةٌ مستقلّة بذاتها كالحياةِ تمامًا

فهذا الرّسول صلى الله عليه وسلم يُهوّن من أمرِ الدّنيا في قُلوبنا ويربِت على أكتافنا المُثقلةِ من فرطِ أحمَالها، وجسَامة خُطوبها التي أكْدَت الأبدان، واهلكت الأنفُس، فجاء قولُه كبلسمٍ بعد سقمٍ وكرَواءٍ بعد طُول ظمأ: "مالِي وللدّنيا، إنّما مَثلِي ومثَل الدّنيا كمثلِ راكبٍ قَالَ -أي نَام- في ظلّ شجرةٍ، في يومٍ صائفٍ، ثمّ راح وتركَها" رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح. أبهذه البساطة؟ نعم. وربّما أبسَط ففِي حديثٍ آخر رَواه البُخاري وصفَ النّبي صلى الله عليه وسلم الدّنيا كما يَراها الله عز وجل.. "بجناحِ باعوضةٍ" وأنها لو لم تكنْ لما سَقی اللهُ الكَافِرَ فيها شَربة ماء.

 

إذا ما كان السّؤال عن أعظم المَصائب، سيُقال أنّها مُصيبة المَوت، وإن كان السّؤال عن أعظم من خطفتهم مُصيبة المَوت سيُقال ومن أعظَم من خيرِ خلق الله مُحمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم..!! هاجَت الدّنيا ومَاجت وبلغَ الحُزن أشُده، والأسَى نِصابه، ففاضَ منهُ الجَوی، وكان لِزامًا أن يكون الألَم بعمقِ الفَقد.. فأيّ الخلق هُم كمحمّد؟ وكلّ النّوائب دُون فقدِه تهُون وترتَحل..!

 

فيبرزُ عندَ هذا المُصابِ الجَلَلِ شخصٌ واحدٌ كان له موقِف لا يُشبهه فيهِ أحد، مُختلف، بقدرِ ما تقتضيه الفجيعة من أسی في فَقدِ مُحمّد.. لقد كان ممّن هُم حَوله، بل من دائِرته الضيّقة، الصّديق -رضي الله عنه- عبدُ الله بن أبي قحافة، صَديق رسُول الله وصِدّيقه، ونَسيبه ورفيق دربِه في الهِجرة من مكة للمدينة.. الذي كان يقُول من فرط حُبّه فِيه: "فَشَرِب النّبي حتّى ارتويتُ أنَا!".. والكثير الكثير من الشواهد التي قد لا يتّسع المجال لذِكرها هاهُنا، لسانُ حالِها حبّ خالصٌ رضيّ لله وفي الله! فما كان جوابه عند بلُوغه وفاةَ خليلِ رُوحه؟ "أَمَّا بَعْدُ.. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ..".

 

يعدّ البعضُ هذا التّحول المُفاجِئ بين حالتَين متضادّتين مُثير للاهتمام والدّهشة.. فبين جزعِ الفَقد ومُجابهته، وهولِ الصّدمة وامتصَاصِها، والحديث بلسانِ حالِ الوَاعظ في أوجِ حالة الانكسار وذَروة حاجةِ النّفس لمن يُعزّيها، كان هناك أبا بكر مجسدًا أغرَب وأعظَم الشّواهد فيمَا يخص عَميق الإيمان بالحَياة والمَوتِ والتسليمِ بالقضاءِ والقدَرِِ، وكان هذا الموقف هو مِيزان قوّة المؤمِن بداخله الذي على كفّه الأول عظمَة المُصيبة وعلى الآخرِ الرّضا بقضاءِ الله فيها.. ولم يطغَ فيها شقّ على آخر.. وهذا يَنُمّ عن نظرة حكيمةٍ في الأمُور، وعين مُمحّصة وازِنة لما يقتضِيه حُسن تصرّف المؤمنِ في الشّدائد والأهوال، وتأويل صَائب ودَقيق لكل مُستَحدث.

  undefined

 

وهُنا أعرّج علی أمرٍ، الشّاهد فيه الأمرُ السّابق، فقد اقتصَر فهمُ الكثِيرين أن إيمانه رضي الله عنه كان نابعًا من معرفتهِ الخاصّة بشخصِ الرّسول صلّى الله عليه وسلم، لكن المُتأمل في سيرة أبي بكر الصّديق رضي الله عنه يفهمُ أنّ الله حباه ببصيرةٍ فذّة، وأن إيمانهُ ذلك لم يكنْ فقط بسببِ ما وَقر في قلبه من حُب لرسولِ الله، ولا عن عميقِ معرفته بطباعِه وصدقِه وأمانته فقط، ربّما هي أسباب أيضًا.. لكنّها جَاءت مُجتمعة تحت ظلّ الحكمة والتدبّر والبديهة الفِكريّة العَالية التي امتاز بِها، كذلِك هي عقلية المُؤمن.. لا يختلطُ فيها اسمٌ على مسمًّى، ولا تقتصّ فيها المشَاعرُ من الإيمانِ.. بل كأنّما أحكمت جميعُها بضوابط لا يَطغى بعضها على بعضٍ.. ولا يُبنى بعضُها فوق بعض.. فتأتي كطوقِ النّجاة لصاحِبها إذا تطلّب الأمر..

 

يخالُ البعض إلى يومِنا هذا أن المَوت عُقوبة وشرّ مُستطير يتنزّل على رُؤوس الأشرَار.. فترى أنّ كل حديثٍ تناول وعظًا عن الموت يُلحق به تمائِم واستعاذات مِثل "أبعدَ الله عنّا الشرّ والسّوء".. كناية عن الموت.. بينما الموت مرحلةٌ مستقلّة بذاتها كالحياةِ تمامًا، بقدر ما يُحمل إليها من متاعٍ يكُون الأنَس فيها، حيث المَتاعات فيها تقتصِر على إيمانٍ صادقٍ وعمَل صالحٍ في الحياةِ الدّنيا.. فكانت الوِجهَة التي تشدّ إليها الرِّحال دومًا، إذ لم يسبقْ لأحدهم أن هاجرَ هجرةً عكسيّة، وكانت الوِجهَة التي لم ولن يُستثنی منها أحد لقولِه تعالی: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ"، وكفَى به موعظة لأولي الألبَاب.

 

وذلك شتّان بين من يكتفي بالحياةِ الدّنيا ويرَى فيها النّعيم الدّائم المُقيم، الذي يستزيدُ منه دُون توقّف أو استِدراك.. وبين من يُسقطها من تفاصيلِ مُعتقاداته زاهدًا فيها، حتى إن جَاءته راغمةً على طَبق من ذهب، وهي في أجمل أوجُهها، وأبهجِ حُللها.. وكان مخيرًا لا مُسيّرًا في أمرهِ، فإمّا الحَياة وجَنب النّاس وإمّا المَوت وجَنب الله، جَلى الجَواب بكلّ يقين: "بَلِ الرّفيقُ الأعْلَى".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.