شعار قسم مدونات

المتحمسون الأوغاد

blogs الاختلاف

قبل سنوات طويلة كنت قد قرأت مجموعة (المتحمسون الأوغاد) للكاتب الراحل (محمد طميله)، ذلك الوقت عندما كنت في بدايات شغفي في القراءة وما زلت أخطو خطواتي الأولى نحو عالم القراءة لم تُسعفني ثقافتي لأفهم مدلولات ما كتب كنت أقف عاجزاً عن فهم جملته (المتحمسون الأوغاد). بعد سنوات، وقد اشتد فهمي وقعت مجموعته القصصية بيدي مرة أخرى، كتاب لا يحتوي أي معلومات على غلافه سوى العنوان واسم المؤلف، وجدته بين كتبي القديمة قابعاً ينتظر أن يرى النور مرة أخرى.

مجموعة قصصية سريعة بعيدة عن الأسلوب السردي السريع، تصل فكرته إليك خلال دقيقتين أو ثلاث، مضامين اجتماعية ورؤية لا يستهان بها في فهم المجتمع ورؤيته لمن رفض الاستكانة للجو السائد في المجتمع، والإرهاب الفكري الذي يُمارس ضد من اختار أن يتميّز بفكره ورؤيته الخاصة. لست هنا لنقد ما كتب (محمد طميله) فمثلي يقف عاجزاً أمام هذه القامة الأدبية ولكن.. هنالك سؤال أطرحه عليك عزيزي القارئ.. أين نحن من أولئك (المتحمسون الأوغاد)؟!

هل أنت ممن مارست الإرهاب الفكري نحو من اعتقدت أنه مختلف عنك؟ بتصرفاته وبأفكاره؟ وكِلتَ له الشتائم؟ وغادرت وأنت نقول تباً لك إنك من (المتحمسون الأوغاد). في كثير من الدراسات تم تعريف المجتمع على أنه التعايش السلمي بين الأفراد، بل لا يكفي أن يكونوا ضمن مجموعة وبيئة واحدة ليُطلق عليهم مصطلح (مجتمع)، بل كان لابد أن يكون السلام مناخ سائد بينهم لتحقيق مفهوم المجتمع ككل.

الحرية لم تُعتبر في عصر من العصور قيمة مطلقة بل ما هي إلا قيمة نسبية تتغير مع تغيّر الشعوب وأساسها احترام حدود الطرف الآخر

أعراق مختلفة وأديان مختلفة لم تكن حاجزا يوماً لتكوين مجتمع طالما أن التعايش السلمي هو الأساس، وطالما أن احترام الآخر بأفكاره ومكنوناته ومكوناته موجود، وممارسة ما أسلفت ذكره ضمن هذه الفقرة يمكن دمجه ضمن كلمة واحدة شافية وكافية، إلا وهي احترام (الحرية).

عرّف ابن خلدون الحرية بأنها "قيمة اجتماعية أساسية يجد فيها الفرد نفسه ذا قدرة على القيام بما يريد القيام به من دون عوائق أو قيود من قبل نظم العمران البشري".. الحرية كانت ولا زالت طريدة البشر، يبحثون عنها لاصطيادها بشتى الطرق، يقتفون آثارها وما إن وجدوها فإنهم يمارسونها بشغف، ذلك الشغف الذي يدفعك بعيداً عن الخنوع للموروث من أفكار وبرامج وربما سياسات. ويعرف أبو حامد الغزالي الحرية في كتابه (أيها الولد) "بأنها حالة نفسية واجتماعية تنتاب الفرد وتجعله يشعر بأنه متحرر من القيود والمحرمات والنواهي التي يفرضها المجتمع عليه منذ الولادة".

لم يكن ابن خلدون والغزالي الوحيدين من حاولوا شرح الحرية حيث أن أرسطو عرفها وقال "الحرية هي قيمة إنسانية عالية يجد فيها الفرد نفسه متحررا من الضغوط والمضايقات والأوامر والنواهي التي تقيد ما يريد الفرد القيام به من أفعال تتناسب مع تفكيره وفلسفته" هذا ما أورده في كتابه (علم الأخلاق) ولم يكن عبثا أن تكون الحرية ضمن (الأخلاق) عند أرسطو.

حسناً، أين نحن من تلك الأخلاق؟.. نحن في مجتمع تمرّس في استخدام ما يُطلق عليه (الرفض الاجتماعي)، هدفه إقصاء فرد أو مجموعة عن المجتمع بشكل عام بسبب قيامهم برفض تصرف سائد في المجتمع فنسبب لهم الأذى العاطفي بدايةً ليتحولوا فيما بعد لمجموعة حانقة على المجتمع ككل، بمكوناته كلها دون تمييز.

undefined

الاختلاف في المعتقدات والآراء طبيعة إنسانية وفِطرة نابعة من الواقع المُمارس بما يحتويه هذا الواقع من تجارب وتغذية راجعة لتلك التجارب وإرهاصات حتّمت على الفرد تكوين بيئة تفاعلية للتعامل مع الآخر. ولكن لأكون نوعا ما محيط بمقالي هذا فوجب القول أن الحرية لم تُعتبر في عصر من العصور قيمة مطلقة بل ما هي إلا قيمة نسبية تتغير مع تغيّر الشعوب وأساسها احترام حدود الطرف الآخر.

التكامل والتعاون في المجتمع ليس مبني على الاتفاق فقط وإنما ايضاً على الاختلاف فيما إذا فهمنا ووعينا أسس الاختلاف والتعامل معه بشكل حضاري أساسه الرقي بتقبل نقاط الاختلاف وصولاً للغاية الأساسية من التعايش وهي الوصول يدا بيد نحو درجات التقدّم. يدفعني هذا لأعود وأقتبس من ابن خلدون حيث قال "‏كلما تقدمت الأمم واحتاج الناس إلى التكامل والتعاون كانت الحرية مطمحًا منشوداً وقيمة إنسانية وركيزة اجتماعية يتعلق بها الإنسان". مصير المجتمع مرتبط بممارسات ذلك المجتمع فالممارسات السامية لا بد أن تقود لغاية سامية أعظم. ونهاية أقول.. أين نحن من المتحمسين الأوغاد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.