شعار قسم مدونات

الشَغَف.. ذاك الجميل المذموم

blogs الوصول للفمة

هناك صورة نمطية تشكلّت في مجتمعاتنا اليوم صنعتها شهوّة التقليد والافتقار إلي الذوق مع غياب الشغف، جعلتنا أمام مجتمع وصائي وطارد و قطيعي، يبني ولاءاته وعلاقاته فقط مع النسخ المكررة منه، يضعك في قالب ويصلي عليك كل صباح لتقدسك العادات ولتباركك المظاهر، مجتمع غير قادر على تحمُلّ فكرة مُغايرة ويعتبر الشخص نفسه هو الفكرة فيعاديه، مع انك لو نافقته وقلّدته لقدسك وعلاّك، لذلك مُحال أن تنشأ علاقة صحيّة أو رابطة قويّة أو موقف سليم في مجتمع يصرّ علي التمثيل في كل ردود أفعاله.

دائماً ما أمقت الحشود، كل شيء كرهته في الانسان يمكن أن يظهر بوضوح في حمأة الحشد والتُخمة ومحاولة الاستنساخ الأبله، لذلك على الروح النزّاعة إلى حقيقتها أن تحترق بكل لون وكل قوة، ألاّ تستسلم لتلك الصورة النمطية، وأن تقتلع نفسها من البرواز وتخرج من الإطار باتجاه الحياة الرحبة، بداية من قولبة الذات وتمحيصها والخلوص إليها وسؤالها ما الذي تريده؟ وما الذي فقدته؟ وما الذي يجب أن تنفذ منه؟

لا فرية أن الشغف مهم بل هو جزء من التحقق والتغيير، هذا الجوع الذي يكبر كلما وجدت شيئاً ويتواضع كلما عرفت شيئاً، و يخاف فقط ألا يكون هناك مزيد، تلك القوة التي تتحدث من داخلنا وتضربنا على أيدينا وتصرخ في وجوهنا فتدفعنا إلي التفرّد والتميز، تلك التي لا يمكن صناعتها بآلاف القصص والمواعظ من الخارج، الروح القلقة اللوّامة، النفس الحيّة الطموحة التي تدرك أنه بدون أن نقول ونفعل كل ما نشغف به واهتدينا لصوابه وحقيقته فنحن مجرد مسخ نبدو وكأننا نحن لكننا حبيسون في الداخل مثل تمثال تُرك سهواً بعد حرب ضارية مات الجميع فيها.

إن علينا ألا نتخدر بما نعرفه عمّا لا نعرفه، ولا تقصر همتنا بما أحرزناه عما لم نحوزه، ولا تتراخى نفوسنا بيقين ما إلاّ وأيقظناه بالشك والسؤال، ولا تركن خطانا إلى ركن إلا أعددنا أنفسنا لمغادرته

إيّاك أن تتخلي عن شغفك، اللحظة التي ستقبل فيها بأن تتخلي عن شغفك كي تكون نسخة من أحد لأنه يعجبك أو لمجرد الشعور بالألفة والانتماء هي اللحظة التي تفقد فيها ذاتك وتنطفئ روحك، اجعل كل ما تفعله يمرّ من قلبك أولاً وليكن قلبك نزيهاً قبل كل شيء، لا تعتذر عن الطريق التي تسلك، ولا المعتقد الذي تعتنق، ولا الحياة التي تعيش ولا التصور الذي تملك، ما يمنحك إياه قلبك أهم ألف مره مما تمنحك إياه قلوب الناس، أيامك التي ستعيشها كما يريد الناس ولو علي حساب شغفك حق لها أن تُحسب من أعمارهم لا مِن عُمرك، ماذا يضيرك لو كنت مُعتماً في عيون الآخرين، لكنك وبشكل ذاتي لديك نورك الخاص الذي لا يخبو؟! في النهاية ستواجه قَدَرَك وحيداً عارياً من كل هؤلاء الذين عابوا عليك وزاحموا نيّتك، هؤلاء الذين اختاروا أن يعتبروك شخصاً فوقياً لمجرد أنك تهتم بالكَيف لا بالكَم، بالحقيقي لا بالمزيف، وذنبك الوحيد أنك مُختَلِف. 

في رحلة البحث عن الشغف، لا تصل ولا تتقين ولا ترتاح، إذا فعلت العكس فخِف، خِف كثيراً لأنك وقعت في المصيدة وعليك أن تعاود الخروج، إن علينا ألا نتخدر بما نعرفه عمّا لا نعرفه، ولا تقصر همتنا بما أحرزناه عما لم نحوزه، ولا تتراخى نفوسنا بيقين ما إلاّ وأيقظناه بالشك والسؤال، ولا تركن خطانا إلى ركن إلا أعددنا أنفسنا لمغادرته، التاريخ الإسلامي والعربي مليء بنماذج متفردة ملهمة لعقول عملاقة أسست للبحث والعلم والترقي، وساعدت العالم لوقت طويل على التقاط بصيرته الخاصة، أتساءل، ماذا لو وَدّع أحدهم شغفه مبكراً بدعوي وعورة الطريق وطول المسير؟!

يوماً ما سيقودك الشغف إلى الطموح، وفي رحلة الطموح ليس ثَمة طريق مفروش بالورود كما قالوا لك، يوجد طريق مُكتظ بكثرة العابرين وتخمة الحشود و سأم الغاية وبلادة الوسيلة، وطريق وحيد آخر هو طريقك الذي ستكتشفه وحدك و ستمشيه وحدك، وستكون كلماتك وآثارك علامته، طريقك الذي ليس فيه وردة واحدة، لكنك أنت وردته التي ستزهر كل يوم ، لذلك اشحذ قواك و بصيرتك وهمّتك لتتحمل مشقة الطريق ولا تتوقف عن الطموح وإن أفتاك الناس، إن خطيئتك الكبرى أنه لا طموح لك، إن شخصاً لديه طموح يمكن شرائه، لكن شخصاً بلا طموح لا سعر له، كُن مثابراً ولا تسمح لأحد ولا لشيء أن يستعبد هذا الجامح الحيّ فيك، أن تكون حرّا مستقلاً متفرداً أبداً، يا له من عمل شريف وشاق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.