شعار قسم مدونات

أموت حباً فيه.. ولكن!

blogs عجوز

كنت طفلة في الخامسة عشرة من عمري عندما أتتني جدتي تهمس في أذني قائلة: سنزوجك لأحمد ابن عمك.. وتابعت جدتي تقول وابتسامة واعدة تلوح على شفتيها: سنلبسك ثوب الفرح الأبيض، وسنسرح لك شعرك، وسنجلسك على المنصة ونغني لك، وسيلبسك أحمد الكثير من الذَّهب، وسيحضر لك الهدايا، وسيحبك كما لم يحب شاب فتاة.. ستكونين ملكة حقيقية، ستكونين أميرة السعادة، ستعومين في العسل مع أحمد.. فابتهجي، وأعدي نفسك منذ اللحظة للسعادة القادمة اللامحدودة. إحمرت وجنتاي خجلاً وجذلاً ولم أدر ما أقول.. فصمتُّ واستغرقت في حلم وردي غرّ من أحلام يقظتي.

نسيت جدتي يومها أن تخبرني، أو ربما تناست بأن هناك مسؤوليات عظيمة كانت بانتظاري في بيت أحمد تنوء تحتها أقوى الأجساد، فكيف بجسد غض هش مثل جسدي؟ لم تخبرني جدتي بأني سأنجب تسعة أطفال، وبأنني سأسهر الليالي الطويلة على راحتهم وراحة والدهم، وبأن النهار اللامتناهي سينهك قواي بمسؤوليات لا حصر لها.. كما إنها لم تقل لي أي مرة بأن العناية بوالدة زوجي المريضة حبيسة السرير ستغدو أيضاً من ضمن واجبات التي لا تسامح أن قصَّرت في أدائها.

لم تصارحني جدتي يومها بأن الذهب الذي لا يجلب أي سرور ولا سعادة سأضطر لبيعه قبل أن يحول عليه الحول لسداد ديون زوجي، كما لم تبح لي بأن الحب الملتهب الذي وعدتني به سيغدو ذكرى من ذكريات الماضي يحنُّ قلبي لها ويشتاق، فالرجل في بلادنا يستعيب على نفسه أن يُغدق على زوجته بحبه، ولا يرى أهمية في إسماع شريكة حياته الكلام المعسول الذي تتمنى كل امرأة مهما بلغت من العمر عتياً أن تسمعه.. فالرجل الشرقي يعتبر ذلك الكلام جزء من الخطوبة وأيام شهر العسل الأولى أو حتى الفترة التي تسبق ذلك كله، أما بعد ذلك فتنتهي صلاحيته ويهترئ ولم تعد هناك حاجة له.

 

رغم جفائه لي، وسمائه المجدبة التي يئست أن تجود بغيثها عليَّ، فإنني أحببته ولا زلت أحبُّه بكل ما أوتيت من قوة وعقل.. فهو الرجل الأول والأخير في حياتي، هو دنياي ومستقبلي

وكما كان يقول أحمد: "ألم نكبر على هذه الطلبات الرعناء؟ ألا تريدين أن تنضجي؟ أم ما زلت تعتبرين نفسك طفلة بحاجة للكثير من التدليل وتركيز الاهتمام؟ هل أنا مقصِّر في حقك؟ هل سبق وطلبت مني شيء دون أن أحضره لك؟ ألا يكفي ذلك لتعلمي بأني أحبك ومهتم بك؟ لماذا تصرين على أنني يجب أن أظل أقول لك "أحبك" وأحضر لك الورود الحمراء؟ لقد قلتها لك سابقاً كثيراً، ألا تكفيك تلك التأكيدات؟ فعلاً إنكن ناقصات عقل ودين!"

ورغم جفائه لي، وسمائه المجدبة التي يئست أن تجود بغيثها عليَّ، فإنني أحببته ولا زلت أحبُّه بكل ما أوتيت من قوة وعقل.. فهو الرجل الأول والأخير في حياتي، هو دنياي ومستقبلي، وكل حياتي، ووالد أبنائي، إلى جانبه وجدت نفسي منذ بدأت أعي ما يدور حولي.. فلا يمكنني أن أتصور حياتي بدونه. وحتى عندما أصبت بمرض وضع حياتي في مرمى نيران الخطر، وكنت بأمسِّ الحاجة لمساندته ودعمه وحبه، إذا به يتخلى عني ويتزوج من أخرى.. "فهو لا قِبَل له بالبقاء بدون زوجة إلى جانبه تعنتني به وتعينه في هذه الحياة المضنية، وأنا مشغولة عنه بالكامل بمرضي، ناهيك عن غيابي المتكرر في المشافي ولفترات تطول أحياناً".

وكتب الله لي الشفاء التام، وعدت أعاقر حياتي السابقة التي انقلب واقعها رأساً على عَقب.. حين أصبح عليَّ اقتسام كل جزيئاتها وذراتها وحتى إلكتروناتها مع أخرى غريبة غني، نظرة عينيها تشعرني بالحصار والضياع، وكل المعاني السلبية الأخرى. بالرغم من أنها كانت هي الوافدة على حياتي إلا أنها لم تكن لتتنازل لتتعرف بي أو حتى تتقبل وجودي ومشاطرتي لها الزوج، كانت تتوقع عندما سلبت زوجي بأن السلامة ستضل طريقها إليَّ، وسيعاجلني الأجل وتخلو الدروب أمامها من منافسين.. ولكن، ما كل ما يتمنى المرء يدركه.. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.

أعتقد الآن وبعد هذه السنوات الطويلة، أنني أخطأت خطأً كبيراً بحق نفسي لا أظنُّ أن بإمكاني إصلاحه بعد أن غدوت على أعتاب الخمسين من عمري
أعتقد الآن وبعد هذه السنوات الطويلة، أنني أخطأت خطأً كبيراً بحق نفسي لا أظنُّ أن بإمكاني إصلاحه بعد أن غدوت على أعتاب الخمسين من عمري
 

شُفيت من السقم الجسدي، لأقع فريسة سهلة لوحش السقم النفسي وأنا أرى أحمد يتركني أسيرة البيت والمسؤوليات، كسيرة الروح والمعنويات، وفي الوقت ذاته يتركها تنساب في الحياة بحيوية ونشاط، وحرية منقطعة النظير محرَّمة على من هم أمثالي، فهي خُلقت للرفاهية وأنا خُلقت للشقاء والكدِّ.. وإذا ما فتحت فمي وتفوهت بشطر كلمة تحمل في طياتها نُذر احتجاج أزعج أحمد، واعتبره تمرد قد يتضخم ويفضي إلى ثورة تقلب كل الموازين في وقت ما، جنَّ جنونه، ومضى يقمع احتجاجي بعنف مستبد.

ماذا أفعل وهو محور حياتي الرئيسي، ومحركها الأوحد الذي ستتوقف حياتي بالكامل إن فصلته عني، أو أنا انفصلت عنه؟ اخترت أن أكمل حياتي إلى جانبه، وأتقبلها بقدها وقديدها كما هي. ولأنني تعلمت منذ طفولتي بأن أفضل وسيلة لمواجهة العواصف العاتية هو الانحناء أمامها.. سأكمل انحنائي كما اعتدت أن أفعل دائما، فالانحناء أصبح جزء لا يتجزأ من هامتي بعد أن واجهت كل العقبات بالانحناء الذي ارتضته لي جدتي وكانت تسميه مرونة لا بد منها للمرأة حتى لا تنكسر هامتها.

ولكني أعتقد الآن وبعد هذه السنوات الطويلة، أنني أخطأت خطأً كبيراً بحق نفسي لا أظنُّ أن بإمكاني إصلاحه بعد أن غدوت على أعتاب الخمسين من عمري. "أرجو حضراتكم أن لا تعتقدوا أن ما كتب بالأعلى هي خاطرة من محض الخيال، إنما هي سطور قليلة تسرد حكاية الحرمان العاطفي الذي تهمس به كثير من النساء العربيات لأنفسهنَّ.. بكلمات مختصرة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.