شعار قسم مدونات

ثلاثينية جادة ولا ترغب بالتعرف!

BLOGS امرأة

ليلة ميلادي الخامسة والعشرين، أتمدد في غرفتي، لا آبه بكل تلك الدهون المتكدسة حول الخصر وأسفل الذقن، قطع الشوكولاتة تحيط بي، إيذانا ببدء قراءة رواية جديدة، يمنعني عن لمسها طلاء الأظافر الذي ما جف بعد، وإذ بالصديقة "أم فلان"، ترسل معايدة مغمسة بالشماتة: "صرتي 25 والله وختيرتي وعنستي يا بطة" ومن المعروف أن بطة أحيانا في الصياغة الأنثوية الكيدية هي تعبير مزاجي يشير لحيوان مجرد، أكثر من الإشارة لجماله، تعابير تستخدمها فتيات كوكب زمردة، كزينة كعكة ميلاد مسمومة، وأعترف كبالغة راشدة وليس كبطة.

 

فقد أصابت أم فلان هدفها، وأصابني الذعر من "متلازمة العنوسة"، اتسعت حدقة عيناي خوفا، وزارتني كل أرواح الشبان الذين رفضتهم، بسبب وبدون، ولصدفة زمنية كونية، أمي وخالتي تتبادلان الحديث في الصالة عن ابنة أحد الأقارب، التي كانت جميلة جدا، والآن وقد تجاوزت الخمسين، نعم ذهب جمالها مع الريح، وبقيت تعمل وتحصل على الترقيات، تتقلب وحيدة بين الطبقات المخملية الرفيعة، وعقبت أمي على رغيهما: "والله أحسن لها من وجع الرأس والمسؤولية" كان حديثهما أشبه بتربيت على الكتف، فهلعت كلاجئة، نافضة عني كل ما يخصني ويحيط بي من اللاشيء المهم، تجاه ذلك الحديث الدافئ في الليلة الديسمبرية الباردة كبرودة وجه صاحبة الرسالة، علي أن أسكت خوفي من القادم.

 

تربعت على الأرض بجانب أقدام أمي واتكأت على ركبتيها، كقطة بليدة هذه المرة لا بطة، فإذا بها تنهرني "مستصغرة حالك" قومي عني! وإذ بالشماتة تحيطني من كل جانب، حتى ممن أمنت جانبها، أمي، فهبطت علي نظرية المؤامرة! الكل يحيك مع الكل ضدي، وحكموا على البكر أن تتجعد زورا! أنا لا أعلم لم لا تستفزني كل أحاديث الزواج وتقاليده، ولا أحد منا يعلم متى سقط الزواج عن عرش قداسته إلى وحل إجراء مادي مبالغ فيه، استعراض باهت، من نواة البهجة وتآلف الأرواح إلى فقاعة بروتوكولات برجوازية، كرنفال مقيت ومزعج، خلعناه من عمقه وحيواته، وألقيناه على سطح المظاهر متسترا قشرة التخلف، بينما هو في أصله ووجوده يخص اثنين فقط، مقبلان على كل خير وشر وحدهما مناصفة، يرسمان معا سيناريو حقيقي يعيشانه بكل ما فيه ليصلا لنهاية سعيدة، متحديان تعاسة الطريق، مترأسان مصنع التناسل الروحي الحميمي.

 

لن أتزوج من يشتري لي سيارة مثلا، أريده قوّاما بدعمه يعلمني كيف أقوّم نفسي دون اتكائة على أحد، وأنني قادرة على أن اشتريها كما اشتري علبة طلاء الأظافر!

ومن المؤسف حقا ومما لا تجد له إجابة، كيف لشخص أن يتكبد "بوفيه مفتوح بمبلغ وقدره ليشبع المعازيم ويملأ بطونهم وأعينهم ساعتين من الزمن، ثم يعود وحيدا مع شريكته، ليفكرا ربما بأقساط الثلاجة! أضف إلى ذلك: الزفة وكل تلك الأبواق المزعجة والملوثة والمعيقة لحركة السير، الذهب الذي يستخدم للتفاخر والتباهي، مدعاة لانشكاح أم الزوجة، فتبيعه ابنتها المخلصة بعد ليالي العسل المعدودة، لتسدد مع زوجها التزاماته، الالتزامات ولا شيء غير الالتزامات، الدفع بالتي هي لا أحسن وليس فيها من الخير قيد أنملة!

أما المهر، الذي ما قدر إلا للتكريم وحفظ الحقوق، فصار قيمة بورصوية متفق عليها لتتم صفقة البيع والشراء وبعيدا عن الحق الشرعي وأنه ذكر في كتبنا المقدسة، لكن السؤال الذي لا يفارقني البتة: كيف يتناسب تقدير الشخص وحبه وإخلاصه لي طرديا مع المبلغ الذي سيدفعه؟! كيف ربطنا المبلغ المدفوع بضمان جودة الحياة الزوجية واستمراريتها؟! ومن المفترض كعاقل وحيد ومستخلف على هذه البسيطة، أن آخر طريقة تتأكد فيها من حسن اختيارك لشريكك هي النقود، لكن ومن مصابنا العظيم، سيادة فكرة أنه ولتضمن المرأة حقها من قهر الرجال، فالمهر والمؤجل والمتوسط والمعدل الحسابي.. الخ، كل ذلك سيكون له بالمرصاد، وإلا فإنها ستكون بضاعة رخيصة يسهل رميها!

تلك المفارقات بكل ما يتعلق بمشاريع الزواج، نقلت الفتاة من مشروع "مدرسة إذا أعددتها"، لقطعة تعرض في سوق النخاسة، والمزادات العلنية، وانتقلت من كائن يحب ويختار ويستشير ويستخير، لمشروع استثماري، تماما كشراء أرض بور، ترميها للزمن ليحين وقتها فتدخل التنظيم وتمر فيها الشوارع والإضاءة لتباع بأغلى الأسعار! وكلما ذكرنا الشرق فحق علينا ذكر الغرب، وحفلاتهم البسيطة، حديقة المنزل، طوق ورد يزين رأس الجميلة بفستانها البسيط، وزينتها غير المبدلة لخلقة الله، والكعكة الشهية، حولهم الأحباء وأولى الأقربون فقط، لا تسمع عن فحش في الترتيبات، ولا عن مطرب يدفع له بالساعة، ولا حجز لفندق من عشرات الطوابق لحشد العدد الأكبر، ليقال عنها حفلة شخص مهم، ذلك الشخص المهم، سيكون المهموم الأكبر بكل تلك الالتزامات المريخية! فأقسم أنها ليست من تفكير بشر، بل هي ترتيبات أقوام ليس فيها رجل رشيد!

كبرت، وأنا الآن أستعد لميلادي الواحد والثلاثون، تخلصت من كل الدهون المتراكمة، وتخلصت معها من خوفي من ما يسمى العنوسة، ما عدت أتأثر برسائل أم فلان، التي يأست مني وزوجت –أخيرا- قريبها المغترب لصديقة ثالثة تحلم بالسفر، عرفت أن الكتب ليست فقط الروايات وقصص الحب البائسة التي لم تكتمل، لم أحقق نجاحا باهرا في الحياة، ويطفئني اليأس أياما، لكنني أنهض أكثر من سقوطي، وفي كل مرة أنهض فيها، كحديثة الولادة؛ يبدأ العمر تعداده من جديد، لم أتقلب في النعيم بعد كقريبة أمي، ولا يشكل لي هذا إحراجا أو خوفا مضاعفا من المستقبل، المستقبل الذي لا يتعلق -لغاية عامي هذا- بأحد سواي.

 

وحقيقة، لن أتزوج من يشتري لي سيارة مثلا، أريده قوّاما بدعمه يعلمني كيف أقوّم نفسي دون اتكائة على أحد، وأنني قادرة على أن اشتريها كما اشتري علبة طلاء الأظافر! لن أتزوج من لا يحب وطنه كلهفته للهجرة، من المتردد، أو الخائن الإمعة من يرفق بكل القوارير التي لا تعنيه مهملا تلك التي من ضلعه، وغير الواضحة ملامح قلبه، لا بأس إن يضعف أحيانا لا أريده جبلا، لا أريده سهلا، لا أريد من لم يطلب العلم في بلادنا، حتى لو ولد في الصين، لست مثالية ولا أطلب خارقا صانعا للمعجزات، لكن ومع كل إحصائية جديدة لمن فسخوا عقودهم الحميمية، مع كل قصة حب وئدت، وكلما تعثرت طيبة بخبيث، وابتلي طيب بخبيثة، يضيق الصدر ويأتي اليقين؛ زواجنا بتوأم روحنا بريء من أعمارنا، فالأعمار أرقام مجردة، إنما هي الأرواح ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها افترق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.