شعار قسم مدونات

المرابطون وصناعة التاريخ

مدونات - الاحتلال
 
ما زال تاريخ البشرية يروي لنا قصصاً من الحروب والنزاعات أقرّ فيها الخصمان لبعضهما بالاحترام، لكن متى يكون ذاك الخصم أو سواه مستحقاً لهذا الاحترام؟ تطالعنا حال العرب والمسلمين مع المحتل الصهيوني بحال دون حال؛ أما المحتل، فما زال منذ وجد يصرّح للجميع بغايته الكبرى، بل ويجاهر بعنجهية متنمرة بمطمعه الأبرز، ويثبت معلناً بوصلته نحو وجهة واحدة: هدم المسجد الأقصى المبارك، وبناء الهيكل مكانه! فاحتلاله لمدينة القدس التاريخية منذ عقود، وصولاً إلى محاولاته الحثيثة للسيطرة التامة على المسجد الأقصى، ما هي إلا محطات انتقالية لا بد من المرور بها للوصول إلى الهدف الأساسي: الإزالة التامة لكل معالم المسجد الأقصى ولكل ما يحويه سوره التاريخي المحيط بساحاته ومبانيه المتعددة.

وهو لا يعدم بذلك وسيلة، ولا يفوت في سبيل ذلك فرصة، إذ لم يرفعها فحسب راية مقدسة لبناء الهيكل، مكتفياً بالشعارات والرايات، بل يسعى منذ عقود على المستوى السياسي والإعلامي والتربوي والعسكري، وأضف ما شئت من مستويات فاعلة، محلياً ودولياً، لتحقيق غايته على أرض الواقع. ولسان حاله يقول: أن قد علمتم، فماذا أنتم فاعلون! ليأتي حال العرب والمسلمين معه على أحوال؛ فمنهم من أوجس منه خيفة، مظهرين على خجل ضرورة احترام المحتل، كخلق نبيل يدّعوه، ليواروا به ضعفاً، وهم مدركين أن هذا الذي يحترمونه، يمسي ويصبح شامتاً بهم! فقد أدرك باكراً أن وجود مليار ونصف المليار مسلم حول الأرض غير مانع من ضياع أولى قبلتهم، ومسرى رسولهم، ولن يؤثر على مخططاته وأهدافه! فاستبقهم مقدّماً لهم على طبق من سخرية ما يريده من قدسهم!

بل ولديه من سعة الأفق والخبرات ما يجعله جازماً بأن وراء كل انتهاك لحرمة المسجد الأقصى مسيرات شعبية هنا أو هناك، تسمح بها الحكومات على مضض تحت بند حق التعبير، قد تلحق بها على خجل في أحسن الأحوال عبارات شجب واستنكار، ولا بأس بالخطب الصماء، والشعارات الجوفاء، للتنفيس عن غضب الشارع، فمن حقه أن يعبر عن تألمه وحزنه وأضف إن شئت عجزه أمام احتلال مقدساته، فهذا مما يساعد على إزالة حالة الاحتقان، ومن ثم استئناف حياة المواطنين على ما كانت عليه من هدوء واطمئنان! يقلق المحتل بالفعل من غضب الشارع، وتحرجه حقاً أمام الرأي العام المسيرات الحاشدة والمظاهرات، لكنه اطمأن مع السنين الطوال أنهم قد غفلوا عن خطورتها كوسيلة ضاغطة لتحقيق الهدف، ووقفوا عندها كغاية مستقلة للتعبير عن الغضب، وشتان بين الأمرين.

undefined

ثم ها هو المحتل يراقب ساخراً فريقين اثنين، أما أحدهما فتنادى بالقربات له والطاعات، احتراماً وتقديراً على ما يقوم به بالإنابة في مواجهة ما يختارون وفق الظروف تسميته إرهاباً وتطرفاً. وأما الآخر، فممن يحسبون أنفسهم باعتبار الجهال لهم أئمة ودعاة، الذين قدموا لهم الخيرات والبركات بأن صرفوا عوام الناس عنهم، وأشغلوهم في أبحاث أسموها "علمية" استفرغت وسعهم في تصدير المصالح الخاصة لولاتهم، إلى الناس تحت مسمى المصلحة العامة للبلاد، حتى يسهل عليهم انقيادهم!

بل لا بد أن المحتل يضحك عالياً أمام أولئك المتفيقهين والمتشدقين، الذين غضوا الطرف عما أوجبه الباري سبحانه من الدفاع عن بيت المقدس لما فيه من تعظيم شعائر الله، وأشغلوا تفكيرهم بفتاوى طول ثوب الرجل ولون عباءة المرأة، وضاق بهم أفقهم عن خطورة احتلال مقدساتهم. بل وليتها كانت دماء الأبرياء في العراق والشام شمالاً، واليمن المنكوب جنوباً، تلك التي قضت مضاجعهم. نعم، قد شغلت بالهم، حتى شيطنوها على النحو الذي يحلو لهم؛ متناسين وجود الشيطان الحقيقي بينهم! كل هذا وأكثر من أوجه الاحترامات والتقديرات أو لتقل الخدمات والتنازلات للمحتل وسّعت الميدان له سنوات طوال يصول ويجول ساعياً بكل صلابة وجرأة في سبيل تحقيق أهدافه المعلنة.

ليقرع ذهنك سؤال تتعجب فيه قائلاً: ومع كل هذا أولم يبلغه بعد؟!
ليأتيك الجواب من حال أناس علموا حقاً قدر المحتل على أرض الواقع، فاختاروا أن يولوه نوعاً من الاحترام يتناسب مع قداسة الأرض المحتلة، فمن واقع مدينة القدس، وعلى وقع الصدامات والقنابل الحارقة، وطلقات الرصاص تفتك بشباب وشابات بعمر الورد حذوا حذوى أهليهم وأجدادهم، لم يقدموا للمسجد الأقصى فضول أوقاتهم وإجازاتهم، بل استقلّوا في رباطهم في ساحاته وعلى بواباته ليلهم ونهارهم، قد خبروا المحتل وجلده، فتعاهدوا على إنزاله مكانته، كما أيقن هو صدقهم وإخلاصهم، فهم أهل الكرامة والمكانة، علم أنهم استحقوا رغماً عنه شرف الدفاع عن الأرض المقدسة، ينتسبون لها وطناً، ويستميتون في الدفاع عنها، نيابة عن المسلمين مسجداً مباركاً.

علموا العرب وخذلانهم، لكنهم التمسوا عذرا لمقصرهم، وطلبوا العون من مخلصهم، ودعوا الله صفاً واحداً أن يحفظ للمسلمين كافة مسرى نبيهم، وهم على هذا من يومهم ؛ فلم يرفعوا كالمتخاذلين راية التثبيط:" للبيت رب يحميه" بل فقهوا الواقع المؤلم من حولهم: عرب تفرقوا وتشتت شملهم، وهم باقون وحدهم لا يضرهم من خالفهم، جند تشرفوا بالذود عن مسجد باركه الله وما حوله في قلب كتابه، سورة الإسراء، آيات يتلوها المسلمون أينما حلوا على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، لكنهم وحدهم في مواجهة محتل قوي جيّش آلته لهدم المسجد، فوقفوا صامدين صموداً يفوق قدر قوته، لا يطيب لهم عيش إن خلص لغايته، وشعارهم: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم". 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.