شعار قسم مدونات

الرابحون والخاسرون في الانتخابات الفرنسية

blogs ماكرون

بعد متحف اللوفر وبوابة النصر بجادة الشانزليزيه وبرج إيفيل، أضافت فرنسا بنتائج انتخاباتها الرئاسية اليوم معلما ًجديداً في تاريخها المعاصر، ذاك هو سيد الإليزيه الجديد ذو 39 عاما ًوصاحب الخلفية السياسية التي لا تتعدى توليه حقيبة وزارة المالية منذ عام 2014، وقيادة حركة وليدة "إن مارش" أو الخطوة إلى الأمام توسطت الخارطة السياسية وزاحمت عتاولتها من اليسار واليمين إلى أن أوصلته تلك الخطوات نحو الأمام إلى سدة الحكم في فرنسا.

 

منح فوز إيمانويل ماكرون بالانتخابات الرئاسية في فرنسا قبلة الحياة لأجيال ٍجديدة نفضت غبار التقوقع والانكماش على الذات بدعوى القومية والمصلحة الوطنية، وآمنت بأن مستقبلها مرهون بإعادة إحياء القيم التي جعلت من فرنسا ما هي عليه الآن، اليوم فازت التعددية الثقافية في فرنسا وفازت أصوات المقهورين في الضواحي الباريسية المعدمة وفازت آلام المهاجرين المهمشين وفازت أوروبا الموحدة وفازت العولمة كمشروع حضاري يحمل سمات الألفية الثالثة.

 

يكمن سر نجاح ماكرون برئاسة فرنسا ب "التغيير"، ذلك الشعار الذي جعل من شاب أن يقود أطيافا ً واسعة من الفرنسيين ويتفوق على أسماء ٍلامعة وأحزاب ٍلها تاريخ طويل لم يشفع لها عند جمهور الناخبين

لم ينس الناخبون الفرنسيون مرارة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على يد اليمين الشعبوي، ومثل أمامهم مشهد فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ليذكرهم بفاجعة الديمقراطية في أمريكا والعالم بأسره بفوز الشعبويين، وشكل ذلك دافعا ًقوياً لهم للمشاركة الفعالة والتصويت لصالح أوروبا الموحدة قبل كل شيء ثم لصالح المرشح الذي سيمنح بلادهم جرعة تحصين ضد عدوى اليمين والتطرف، ويمنح الأجيال الشابة والمهاجرين أملا ًبفرنسا جديدة متعافية من أزمات التعليم والصحة وغياب العدالة الاجتماعية والعنصرية.

 

يكمن سر نجاح ماكرون برئاسة فرنسا ب "التغيير"، ذلك الشعار الذي جعل من شاب أن يقود أطيافا ً واسعة من الفرنسيين ويتفوق على أسماء ٍلامعة وأحزاب ٍلها تاريخ طويل لم يشفع لها عند جمهور الناخبين، إذا لم تحسن الأحزاب التقليدية استيعاب حاجة الناخب الفرنسي للتغيير في الوجوه والسياسات وضخ الدماء الشابة في جسد الدولة الطاعنة في أزماتها الداخلية وسياساتها التي عفى عنها الزمان، وقد أصبح لزاما ًعلى الأحزاب والتيارات التقليدية في أوروبا أن تلتقط الرسالة التي بعثها الناخب الفرنسي بانتخاب ماكرون قبل أن تجف روافدها الانتخابية ويتولى جيل الشباب زمام المبادرة كما فعل ماكرون وحركته "ان مارش".
 

لم يكن في جعبة مارين لوبين وجبهتها اليمينية المتطرفة برنامجا ًانتخابيا ًواقعيا ًلتخوض به معركتها الانتخابية، شأنها في ذلك شأن الأحزاب اليمينية في بلدان أوروبية أخرى اعتمدت على الخطابات الشعبوية والأحداث الدولية التي وصلت تأثيراتها إلى أوروبا، وتوجيه اللائمة في تردي الأوضاع الاقتصادية ووقوع هجمات إرهابية إلى اللاجئين وسط ارتفاع معدلات البطالة وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، حيث داعبت الشعارات القومية والمحافظة على الهوية الوطنية وخروج فرنسا من الوحدة الأوروبية وإعلان الحرب على العولمة ومنع تدفق المزيد من اللاجئين إلى الأراضي الفرنسية  مشاعر الساخطين على ما حل بمجتمعاتهم، ومع انحسار تدفق اللاجئين والضربات التي تلقاها تنظيم الدولة في أوروبا والخوف من سيطرة الأصوات اليمينية الشعبوية داخل المجتمع، تراجعت حظوظ اليمين في فرنسا وعموم أوروبا بتحقيق مكاسب انتخابية تؤدي في نهاية المطاف إلى سيطرة اليمين على الدول الأوروبية الواحدة تلو الأخرى.

 

دلالة الاحتفال بفوز ماكرون في ساحة متحف اللوفر وتنوع وجوه المحتفلين تشير بلا أدنى شك إلى أن فرنسا مقبلة على مرحلة التغيير الحقيقي رغم الأعباء الثقيلة التي ستعمل على تكبيل ماكرون خلال مسيرة التغيير

تجرع اليمين الشعبوي والقوميون في هولندا وفرنسا طعم الخسارة على يد التيار الوسطي المعتدل، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تراجع شعبيتهم وقوة تأثيرهم، فالنتائج التي حققتها مارين لوبين تظهر فوزها بضعف الأصوات التي حصل عليها والدها عام 2002، وهي رسالة أخرى ستحسن الأحزاب المحافظة في كل من ألمانيا وبريطانيا التقاطها، إذ يتفوق المحافظون على اليمنيون في كثير من الأحيان في دعواتهم لمكافحة ما يسمونه الإرهاب الإسلامي وخطر تغيير الهوية الثقافية لأوروبا بسبب استمرار تدفق اللاجئين، وهي دعوات باتت تلقى آذان صاغية في أوساط المجتمعات الأوروبية.

 

دلالة الاحتفال بفوز ماكرون في ساحة متحف اللوفر وتنوع وجوه المحتفلين تشير بلا أدنى شك إلى أن فرنسا مقبلة على مرحلة التغيير الحقيقي رغم الأعباء الثقيلة التي ستعمل على تكبيل ماكرون خلال مسيرة التغيير، فالمعركة ضد التيارات اليمينية والقوميين في فرنسا صعبة وشرسة وتحتاج إلى تغيير حقيقي في عمق الدولة الفرنسية ومؤسساتها التشريعية بسبب ميراثها العلماني والقومي، والسؤال الذي يطرح الآن بقوة، كيف ستؤثر خلفية الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون الاقتصادية على طموحاته في تحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة هيكلة قطاع التعليم والصحة، هل سيستخدم الرجل خبرته الاقتصادية في توفير الميزانية الكافية لخططه المستقبلية، أم ستطغى خلفيته الرأس مالية بعد وصوله إلى قصر الإليزيه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.