شعار قسم مدونات

منصات الكتابة.. فك الاحتكار وهزيمة القوالب

blogs الصحافة الإلكترونية
لم تكن ثورة الاتصالات مجرد منتجات تقنية لاستخدامات الطبقات المتخمة، لكنها كانت فعلا ثقافيا واجتماعيا كبيرا، وزلزالا لم يسلم مجال أو جهة من تأثيراته وتوابعه وهزاته الارتدادية. لم تكن الاتصالات في ثورتها تقليدية كقريناتها، لم تجيّش طرفها ضد آخر، لم تشتبك مع عدو ولم تخض حربا.. كانت ثورة لإزالة الحواجز والمتاريس والفواصل. ولم يكن لها أن توصف ب(ثورة) إلا لتجاوزها لما ألفته البشرية من أسوار ومداخل وأبواب كرست لمحتكري المعرفة والثقافة والعلوم أسوة بسدنة الأنظمة وسادة الاستبداد بتنوع صوره وأنماطه ومستوياته.

كلُّ كمّ كيفه فيه
ومن عجائب مجتمعاتنا أن (المحتكرين) يرون في ما أتاحته أدوات الاتصال الحديثة من فضاءات، خصما من أرصدتهم العتيقة لا سيما في سوق الثقافة والمعرفة والتوجيه. ولعل أجدر من يحدثنا عن قيمة الكم والوفرة هم أبناء العم هان، حين تقول الحكمة الصينية (كل كم كيفه فيه) لافتة إلى عدم الانشغال برافعي رايات (الجودة والتميز) لتبرير احتكارهم للأدوات والمنابر و(مساحات الرأي).
 

من أهم ما قدمته أدوات التواصل في نسختها الاجتماعية، إسهامها المباشر في فك احتكارات الكتابة والقلم بإتاحتها مساحات متباينة للتعبير والنشر، بعد أزمان طويلة من استبداد طبقة بالكتابة لنا في علاقة جافة ذات اتجاه واحد

كانت ثورة الاتصالات و(فورتها) اجتماعية أكثر منها تقنية بحتة، لا سيما فيما يتصل بإعادة رسم علاقات المعرفة وأدوات تسويقها ونشرها، فضلا عن أساليب التلقي والتعلم، أو المشاركة والتفاعل مع منتج الرسالة الثقافية. إن تطور متابعي الإذاعات من مجرد مستمعين، إلى متفاعلين ومشاركين في البرامج الإذاعية، ليس مجرد تقدم تقني فقط، وإنما تغير كبير (في طبيعة العلاقة بين الإذاعة ومستمعيها) من شأنه التأثير في مجمل ما يقدمه المنتج بناء على استجابات وردود أفعال المتلقي.

أسطورة الكتابة
من أهم ما قدمته أدوات التواصل في نسختها الاجتماعية، إسهامها المباشر في فك احتكارات الكتابة والقلم بإتاحتها مساحات متباينة للتعبير والنشر، بعد أزمان طويلة من استبداد طبقة بالكتابة لنا في علاقة جافة ذات اتجاه واحد. إن ما تعيشه مجتمعاتنا من تسلط سياسي، لا ينفصل عما تعيشه عقولها من قهر ثقافي يوظفه المستبدون ويستثمرونه بإفراط.

التحام الثورات
قبل تشكل الثورات السياسية الأخيرة في الشرق العربي، كانت ثمة ثورات نفسية وبالتالي اجتماعية في سياقات ثقافية ومهنية، أدى التحامها إلى إحداث ما عُرف إعلاميا بثورات الربيع. كانت الثورات صغيرة ومحدودة ومتفرقة في أذهان الشباب، وأوراقهم، ومن ثم في حوائطهم الإلكترونية.. كانت استقالة الناشط من حزبه صغيرة من وجهة نظر الحزب العتيق وسادته المعمرين.. وبنفس القدر كانت صغيرة ثورة الإعلامي (الصغير) المغادر لقناته ومفارقا لها، بعد فقدانه كل خيوط الأمل بسبب أصنام القناة وكهنتها، واحتكارهم لكل شيء.

 

إزالة الأصنام وفك الاحتكار
عندما فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المشرفة، وشرع في إزالة الأصنام الحجرية.. لم يبك عليها أهل مكة؛ حيث كان تكسير الأحجار تاليا لفك احتكار السدنة للمعرفة والتوجيه المجتمعي. أن حكمة النبي المسدد بالوحي كانت تستوعب الواقع بعمق وتنظر إلى المفردات في سياق متكامل، وتضع لبني البشر قواعد الفعل الاجتماعي المنتج. كانت الحجارة الجاثمة حول البيت العتيق مناظرة لمثيلاتها في أفئدة عُبادها وعقولهم، وما كان لامرئ عاقل أن يلتجئ لحجر أصم، لولا وجود (قارئ) مثبت في نظامه الداخلي حسب لغة التقنية.

 اضطراب القوالب الصحفية
إن الارتباط بالقوالب والعكوف عليها، أشبه ما يكون بما ذكرناه من شأن الصنميين، وقد عشنا زمنا أهدرنا خلاله أوقاتا ثمينة من أعمارنا في التفريق والتفضيل بين المقفى والعمودي من الشعر، واشتعلت لذلك (الشأن) مصابيح المنابر والمناظرات، وسالت أودية بأحبار الفريقين.

 

أسهمت الأنماط الجديدة للنشر والتواصل الثقافي في اضطراب المتعارف عليه من قوالب الصحافة، وأضيفت أشكال وقوالب، وتغيرت أخرى؛ لتتماشى مع نفَس العصر وسرعته

واليوم نعيش صورة مماثلة في ساحة الكتابة، بعد ان فكت الأدوات الجديدة أغلالها وأعادتها إلى مجرد أداة للتواصل ونقل الأفكار، وأزالت عنها (الأسطورية) ووزعت أضواءها على عدد كبير من حملة الأقلام الإلكترونية والكيبادات، تاركة وراءها نفوسا ثكلى، ما زالت تتحسر على الكتابة والثقافة في (زمن) سابق، وازدحام القراء في دكان الجرائد.

أسهمت الأنماط الجديدة للنشر والتواصل الثقافي في اضطراب المتعارف عليه من قوالب الصحافة، وأضيفت أشكال وقوالب، وتغيرت أخرى؛ لتتماشى مع نفَس العصر وسرعته. في الصحافة الإلكترونية لا نكاد نفرق بين التقرير ومقال الرأي، بل نقرأ في أخبارها (الفاتحة) على قدسية الخبر المفترضة، وتطورت التقارير وتضخمت بتضمين الصور والروابط والتغريدات، وحافظت المقالات الحرة على كثير من حيويتها بالاقتراب من أسلوب البوست، حين نعنون فقرات المقال ونحرص على الاختصار.

إن الكاتب يختار الفكرة عادة، وتختار الفكرة قالب عرضها، وإن كان من عيب ففينا حين نقدس القوالب على حساب المضامين، ونرفض الإتاحة، ونشتاق إلى عصور الاحتكار، وتقديم القرابين لصحيفتنا حين تحصل على موافقة (الكاتب الكبير).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.