شعار قسم مدونات

الدون كورليوني

blogs - mafia

كنت في ربيعي العاشر عندماً أبصرت وجه "الدون كورليوني" على شاشة التلفاز لأول مرّة وكأي طفل سحبتني هذه الشاشة بسحرها إلى داخل عالمها فأخذت أتابع ما يدور فيها ناسياً محيطي بما يحوي من حولي، وأطلقت حكمي آنذاك على "الدون" من بضع مشاهد على أنه الشخصية الشريرة التي تقتل الأبرياء وأنه ككل شرير يستحق العقاب لا الموت، فأنا ابن العاشرة وأمنياتي مهما استطالت في حقدها ما كانت لتبلغ مرحلة تمني الموت حينها.

عندما كبرت بضع سنوات شاهدت "الدون" للمرة الثانية وهنا اختلفت الرؤيا فقد باتت الشخصية غير واضحة المعالم فأصبحت مشوش بين ذكرى الماضي ومشهد الحاضر، كان الفيلم بالنسبة لي فيلم غير واضح المعالم بشكل كامل خصوصاً بعد اتساع أفاق الفهم وازدياد كمية المعلومات المتدفقة لدماغي كمشاهد، فغدى الفيلم صعب الفهم بعض الشيء ومعقد، ضعت لدقائق في متاهاته أخذت المشاهد ترميني من عائلة لأخرى من عوائل هذا الفيلم فاختلطت الأسماء وضاعت الفكرة واستغربت حينها من شعبية الفيلم وتقييمه المرتفع على مواقع الإنترنت المختصة بذلك.

لا زلنا نرى صور "الدون كورليوني" مستخدمة ومتداولة بكثرة وخاصة بين أوساط الشباب سواء كصور ملفات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي أو غيره وكذلك موسيقى الفيلم.

دارت الأيام ووصلت إلى سني هذا فشاهدته للمرة الثالثة أصبحت الرؤيا أكثر وضوحاً والرسالة أسهل فهماً فلم يعد شرير الأمس شرير الحاضر كما حكمت عليه في ربيعي العاشر، بل أصبح أحد أكثر الشخصيات المحببة إلى قلبي كمشاهد ولم أعد أستغرب وجود فيلم العراب في المرتبة الثانية ضمن أكثر الأفلام شعبية على مستوى العالم على موقع "IMDB" الشهير ففيلم العراب فيلم كبير موجه للكبار.
 

لماذا تميز العراب عن باقي الأفلام؟
أولاً، القصة:

يستند فيلم العراب إلى رواية "ماريو بوزو" الأميركي الذي اشتهر برواياته المرتبطة بعالم المافيا والتي تحمل نفس الاسم والتي اقتبسها وأخرجها المخرج الأميركي من أصول إيطالية "فرانسس كوبولا" ونال فيلم العراب بجزئيه الأول والثاني جائزتي أوسكار لأفضل سيناريو فيلم لعامين مختلفين. وتميز الحوار بين شخصيات الفيلم بالجمل العميقة التي ترتبط بمفهوم "الحكمة" والتي ما زالت تداول حتى يومنا هذا وأبرزها "Keep your friends close but your enemies closer" وأيضاً "A man who does not spend time with his family can never be a real man".

لكن يبقى السر الأساسي في هذه القصة العظيمة هو الجانب الذي لم ينتبه له سوى القلة من المشاهدين
وهو جانب ومفهوم "العائلة" حيث ركز هذا العمل على مفهوم العائلة وسلط الضوء بشكل رئيسي على الجانب الإنساني عند رجال العصابات وفسر كيف أن العائلة والعمل أمران مترابطان على عكس أفلام المافيا السابقة والتي تجنبت مفهوم العائلة وركزت على السلطة والقوة وأغرقتنا "بالأكشن" المبتذل دون التطرق للحقائق الواقعية فكان فيلم العراب أقوى الأفلام المرتبطة بعالم المافيا.

أعادنا "فرانسس كوبولا" في بعض المشاهد إلى أصل العائلة الإيطالي وسلط الضوء على فترة شباب "الدون كورليوني" في إيطاليا ليعيدنا لاحقاً إلى مكانه في الولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن ذلك عن عبث فربما أراد منا الكاتب والمخرج اللذان تشاركا في هذه التحفة الفنية أن يسلطا الضوء على الصراع الدائر داخل شخصية "الدون" ما بين الماضي الإيطالي والحاضر الأميركي والصراع الدائر بينهما بالنسبة "للدون".

سواء قبل البعض أو رفض يبقى فيلم العراب أحد أجمل التحف الفنية على الإطلاق وشخصياً أراه فيلماً متكاملاً من ناحية القصة والإخراج والتصوير والموسيقى حيث ما زال محتفظاً بشعبيته حول العالم حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من 44 عام على إصدار الجزء الأول منه.

بالحديث عن شخصية "الدون" وحول ما غيّر نظرتي له خلال تلك السنين لابد لي أن أوضح السبب فللوهلة الأولى يظن المشاهد أن شخصية "الدون" هي شخصية رجل قاتل وفاسد لكن بعد أن يتعمق أكثر في بحر هذه الشخصية ويكتشف الجانب الإنساني وحب العائلة عنده حتماً سيغير وجهة نظره، وتجلى ذلك في عدّة مشاهد خلال الفيلم وخصوصاً عند اقتراب العائلة من عقد صفقة ما حتى يأتي "الدون" ويلغيها دلالة على نظره البعيد وحرصه على أفراد عائلته.
 

ثانياً، شخصية البطل:
أكثر ما ميز هذه السلسلة الكلاسيكية المكونة من ثلاثة أجزاء هو شخصية البطل والتي تناوب على أدائها ثلاثة ممثلين غيّر العالم نظرته لهم بعد هذه الرائعة المكونة من ثلاثة أجزاء وهم" مارلون براندو" والذي حصد الأوسكار عن أفضل ممثل رئيسي في الجزء الأول من العراب، تميز "مارلون براندو" "دون كورليوني" بقوة الشخصية والكاريزما التي غطّت على بعض أخطاء "الراكور" في الفيلم وجعلتها أمراً ثانوياً غير واضح لعدد كبير من المشاهدين.

مما كان مثيراً للاهتمام أن شخصية "الدون" حصدت بدل الجائزة جائزتي أوسكار الأولى عن أفضل ممثل رئيسي جسدها "مارلون براندو" في الجزء الأول كما ذكرنا سابقاً أما الثانية فكانت عن أفضل ممثل مساعد حيث حصدها "روبرت دي نيرو" مجسداً مرحلة شباب "الدون" وتعتبر شخصية "الدون كورليوني" الشخصية الوحيدة التي حصدت جائزتي أوسكار بممثلين مختلفين.

لم يكن لأحد أن يتوقع أن "روبرت دي نيرو" قادراً على الوصول للأوسكار خصوصاً في ظل وجود "مارلون براندو" الذي أذهل كل متابعي العراب حتى يومنا هذا، أما "آل باتشينو" فرغم عدم قدرته على حصد أي جائزة أوسكار في ثلاثة أجزاء مختلفة إلا أن فيلم العراب كان محطة تحول هامّة في حياته فقد كان العراب الفيلم الذي رفع "آل باتشنو" درجات لاحقاً في هوليوود وسلّط الضوء عليه علماً أن "آل باتشينو" ترشح لجائزتي أوسكار عن الجزئيين الأول والثاني دون الثالث ولكن لم يحظى بأي منهما.
 

في النهاية سواء قبل البعض أو رفض يبقى فيلم العراب أحد أجمل التحف الفنية على الإطلاق وشخصياً أراه فيلماً متكاملاً من ناحية القصة والإخراج والتصوير والموسيقى حيث ما زال محتفظاً بشعبيته حول العالم حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من 44 عام على إصدار الجزء الأول منه ولا زلنا نرى صور "الدون كورليوني" مستخدمة ومتداولة بكثرة وخاصة بين أوساط الشباب سواء كصور ملفات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي أو غيره وكذلك موسيقى الفيلم التي تأثرت بها أنا شخصياً، وفتنت بسحرها مما دفعني لتعلم العزف على آلة الجيتار لعزفها فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.